Top
Image Alt

محاولة التوفيق بين الفلسفة والشرع

  /  محاولة التوفيق بين الفلسفة والشرع

محاولة التوفيق بين الفلسفة والشرع

إن دراسة موضوع العلاقة بين الشريعة والحكمة، أو بين الفلسفة والدين، قد استنفد من الفلاسفة، وبعض المفكرين العرب جهدًا كبيرًا؛ حيث إنهم قد اهتموا بدراسة هذه المسألة اهتمامًا عظيمًا، وذلك حين وصلتهم الفلسفة اليونانية، وخاصة فلسفة أرسطو، عندما وصلت هذه الفلسفة، ونظروا فيها وجدوا في هذه الفلسفة آراء تخالف وتناقض أقوالًا في الشريعة الإسلامية، ولمّا كان المسلمون في حرص شديد على التمسك بالدين إلى جانب تعلقهم بالفلسفة اليونانية، لمَّا شاهدوها، واطّلعوا عليها عندئذ رأوا أنه من الواجب عليهم أن يخوضوا في موضوع التوفيق بين الفلسفة والدين، وأن يثبتوا أن هناك علاقة وثيقة بين الجوانب الفلسفية، وبين الشريعة الإسلامية.

إذًا الدافع لكي يفكر بعض علماء المسلمين في التوفيق بين الدين والفلسفة: أنهم وجدوا أن الفلسفة فيها بعض الفوائد بعدما اطّلعوا عليها، ثم نظروا أيضًا، فوجدوا أنها تخالف شيئًا من الأصول والقواعد الدينية، وهم لا شك من أهل الإيمان، فأرادوا أن يستفيدوا من الفلسفة فحاولوا التوفيق إذًا بين الفلسفة والدين.

ومن الأسباب أيضًا: أن هؤلاء اعتقدوا أن الفلسفة والدين يساند كلُّ واحد منهما الآخر، وبالتالي بدءوا يُوجدون توءمة بينهما، ويحاولون التوفيق، ويذكرون أنه لا يمكن أن يكون هناك تعارض بين الدين والفلسفة، ولا شك أن هذا وقع منهم لسوء الفهم، والخلط بين الدين وبين الفلسفة.

هذه المشكلة في الحقيقة -أعني: التوفيق بين الدين والفلسفة- كانت من المشكلات الفلسفية والدينية التي خاض فيها كل فلاسفة العرب تقريبًا، فقد بحثها الكندي والفارابي وابن سينا، بل قد بحث فيها أيضًا فلاسفة المغرب الإسلامي، كابن طفيل وابن رشد، وإذا كانت هذه المشكلة تُعدّ هامة بالنسبة لفلاسفة المشرق، إلا أنها كانت أيضًا بدورها هامة، بل أكثر أهمية بالنسبة لفلاسفة المغرب الإسلامي، وأعني بهم الفلاسفة الذين كانوا في بلاد الأندلس في الفترة التي اشتغل بها فلاسفة المشرق بالفلسفة، وقد يكون مردّ اهتمام فلاسفة المغرب الإسلامي بالفلسفة هو هجوم الإمام الغزالي -رحمه تبارك وتعالى- على الفلسفة والفلاسفة، حتى اعتقد قوم منهم أنها لن تقوم لها قائمة بعد هذا الهجوم العنيف.

وتاريخ الفلسفة العربية يحدثنا بأن ابن طفيل مثلًا، وكذلك ابن رشد من فلاسفة المغرب الإسلامي الذين بحثوا في هذا الموضوع، كانوا يؤيدون الفلسفة تأييدًا عظيمًا، ولا شك أنهم استفادوا وهم في المغرب من محاولة فلاسفة المشرق في ذلك، كالكندي والفارابي وابن سينا.

وإذا رجعنا مثلًا إلى كتاب ابن طفيل (حي بن يقظان) وجدناه يشير إلى الغزالي، وينقده نقدًا سريعًا، ولا شك أنه ينقده لنقد الغزالي للفلسفة، ولكنه يسعى أيضًا بدوره كفيلسوف عربي إلى الجمع بين الفلسفة والدين، وكان ابن طفيل -رحمه الله- حريصًا على الجمع بينهما، وإن لم يكن الهدف الأول، والأساس من كتابه (حي بن يقظان) هو الجمع بين الفلسفة والدين.

وأخلص من هذا إلى القول بأن أكثر فلاسفة ومفكري العرب قد خاضوا في دراسة موضوع العلاقة بين الفلسفة والدين، وسأكتفي هنا بذكر واحد من هؤلاء الذين قاموا بالتوفيق بين الفلسفة والدين، كنموذج لجَهد الفلاسفة في ذلك.

وهذا الفيلسوف هو الكندي؛ فالكندي في الحقيقة اندفع اندفاعًا شديدًا إلى التوفيق بين الفلسفة والدين، ولعلي إذا بينت الأسباب التي أدت الكندي إلى ذلك، وهذه المحاولات التي قام بها -رحمه الله تبارك وتعالى- في ذلك، يظهر لنا كيف اهتم فلاسفة العرب بالتوفيق بين الفلسفة والدين، وهذا سيدفعنا -إن شاء تبارك وتعالى- إلى بيان كيف تأثرت العقيدة الإسلامية في ذلك بمناهج الفلاسفة، وسأبين أيضًا -إن شاء تبارك وتعالى- كيف أن الفلاسفة ابتعدوا كثيرًا عن الحق الذي بُعث به النبي صلى الله عليه وسلم.

الأسباب التي دفعت الكندي للتوفيق بين الفلسفة والدين:

ذكرت فيما مضى أن هناك محاولات تمت سواء كان من فلاسفة المشرق الإسلامي أو فلاسفة المغرب الإسلامي بالتوفيق بين الفلسفة والدين، وهنا أكتفي بذكر الكندي -رحمه الله- كنموذج من الفلاسفة الذين حاولوا التوفيق بين الدين والفلسفة. وهناك أسباب دفعت الكندي إلى ذلك:

وأول هذه الأسباب الموجودة عند الكندي، وهي موجودة أيضًا عند غيره من فلاسفة العرب: أن القرآن بآياته العديدة يدعو إلى النظر والبحث في جنبات الكون؛ هذا سبب من الأسباب الذي دفع الكندي، ودفع غيره من فلاسفة العرب إلى استخدام الفلاسفة، قالوا بأن القرآن الكريم وجَّه في آيات كثيرة النظر، بل أمر به في آيات كثيرة إلى البحث في جنبات الكون.

والواقع أننا نجد في القرآن الكريم آيات كثيرة تدعو إلى النظر، والتأمل، والاعتبار، وذلك كقوله تعالى: {فَاعْتَبِرُوا يَا أُولِي الأَبْصَار} [الحشر: 2]، وأيضًا كقوله تعالى: {أَوَلَمْ يَنظُرُواْ فِي مَلَكُوتِ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ وَمَا خَلَقَ اللّهُ مِن شَيْءٍ} [الأعراف: 185]، ومنه قول الحق تبارك وتعالى: {أَفَلاَ يَنظُرُونَ إِلَى الإِبِلِ كَيْفَ خُلِقَت * وَإِلَى السَّمَاء كَيْفَ رُفِعَت * وَإِلَى الْجِبَالِ كَيْفَ نُصِبَت} [الغاشية: 17- 20].

بل إن القرآن الكريم دعا إلى النظر في اختلاف الليل والنهار والفلك التي تجري في البحار، وغير ذلك فقال: {إِنَّ فِي خَلْقِ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ وَاخْتِلاَفِ اللَّيْلِ وَالنَّهَارِ وَالْفُلْكِ الَّتِي تَجْرِي فِي الْبَحْرِ بِمَا يَنفَعُ النَّاسَ وَمَا أَنزَلَ اللّهُ مِنَ السَّمَاء مِن مَّاء فَأَحْيَا بِهِ الأرْضَ بَعْدَ مَوْتِهَا وَبَثَّ فِيهَا مِن كُلِّ دَآبَّةٍ وَتَصْرِيفِ الرِّيَاحِ وَالسَّحَابِ الْمُسَخِّرِ بَيْنَ السَّمَاء وَالأَرْضِ لآيَاتٍ لِّقَوْمٍ يَعْقِلُون} [البقرة: 164].

نظروا إذًا في هذا الآيات، وقالوا بأن هذه الآيات تحث على النظر والبحث في جنبات الكون، سمائه وأرضِه، وهذا قد دفع الكندي وغيره من فلاسفة العرب إلى القول بأن الفلسفة لا تتعارض مع الدين؛ لأن الفلسفة عبارة عن النظر والتأمل وغير ذلك.

أما السبب الثاني: فهو أن الفلسفة كان يُنظر إليها أحيانًا في عصر الكندي نظرة شك وارتياب، والكندي -كما يقول المؤرخون- عاش فترة من حياته في عصر المتوكل الخليفة العباسي، الذي قوي فيه سلطان ونفوذ أهل السنة، ولا يخفى علينا أن الحياة الفكرية في عصر المأمون كانت غيرَها في عصر المتوكل؛ فالمأمون قد انتصر للمعتزلة الذين هم أقرب إلى الفلاسفة، أما المتوكل فكان على خلاف ذلك؛ لأنه ساند أهل السنة، ومن هنا وجد الكندي واجبًا عليه، وقد عاش فترة في حياته في عصر المتوكل أن يدافع عن النظر العقلي الفلسفي، أي تلك البحوث والدراسات التي يقوم بها الفلاسفة.

ثالث هذه الأسباب: أن الكندي كما يقول ابن أبي أُصَيبعة في كتابه (طبقات الأطباء) قد لحقه الأذى بسبب اشتغاله بالفلسفة، والمفكر حين يلحقه الأذى بسبب اشتغاله بشيء ما، وفي نفس الوقت يكون حريصًا على الاشتغال به وعدم تركه، لا بد أن يحاول من جانبه وضع بعض الكتب والرسائل التي يدرس فيها هذه المسألة –أعني: مسألة التوفيق بين الفلسفة والدين- فابن النديم مثلًا في كتابه (الفهرست) يقول: إن بين مؤلفات الكندي رسالة في إثبات الرسل، ورسالة أخرى في نقض مسائل الملحدين.

هذه هي الأسباب التي أراها قد دفعت الكندي لمحاولة التوفيق بين الحكمة والشريعة، والواقع أننا لو رجعنا إلى المؤلفات التي تركها الكندي لنا لوجدنا العديد منها يهتم بدراسة هذه المسألة من جانب أو من آخر، إما بصفة عامة، وإما عن طريق البحث في التفصيلات.

وأستطيع أن أعتمد هنا على رسالتين له بصفة خاصة، تناولتا دراسة هذه المسألة، وهما: رسالته إلى المعتصم بالله في الفلسفة، ورسالته أيضًا في كمية كتب أرسطو طاليس، وما يُحتاج إليه في تحصيل الفلسفة.

ولا يعني هذا أن دراسة هذه المسألة عند الكندي تُعدّ محصورة في هاتين الرسالتين فحسب، بل إنه في سبيل التوفيق بين الفلسفة والدين نراه في رسائل غيرهما يحاول تأويل بعض المفاهيم الدينية، بحيث تتفق مع مثيلاتها في الفلسفة، أي لكي تقترب الفلسفة من الدين، وذلك يتضح بصفة خاصة في رسالته عن سجود الجِرْم الأقصى وطاعته لله عز وجل.

ونستطيع أن نقول أيضًا: إن الرسالة الأولى، وهي رسالته إلى المعتصم بالله في الفلسفة  تُمثّل موقفه الدفاعي عن الفلسفة، كما سنرى -إن شاء الله بارك وتعالى- فيما يلي.

أما رسالته الثانية، فتقوم فكرتها في مجال العلاقة بين الفلسفة والدين على التمييز بين طريق الشرع، وطريق الفلسفة.

وإذا رجعنا بعد ذلك إلى الرسالة الأولى التي وجهها المعتصم بالله سنطالع فيها تمهيدًا، يحاول فيه الكندي إبعاد الاتهام عن الفلسفة والمشتغلين بها، ويحاول أيضًا أن يبين وجه الحاجة إليها؛ لكي ينتهي من ذلك إلى بيان اتفاق الشريعة والحكمة، والذي يقارن بين أقوال الكندي في هذا المجال، وأقوال ابن رشد في تبرير الاشتغال بدراسة كتب الفلاسفة اليونانيين يلاحظ تقاربًا بينهما في بيان مبررات النظر في كتب القدماء، وإن كان ابن رشد أكثر صراحة ودقة من الكندي في ذلك، وأستطيع أيضًا أن أذكر الآن أهم العناصر الموجودة في رسالته إلى المعتصم بالله، تلك الرسالة التي تُمثّل -كما سبق القول- موقفَه الدفاعي عن الفلسفة.

وسيتضح لنا إن شاء الله تعالى كيف سيحاول الكندي جَهده التوفيق بين الفلسفة والدين، وذلك من خلال النقاط التالية:

أولًا: تعد صناعة الفلسفة عند الكندي من أعلى الصناعات الإنسانية منزلة وأسماها مرتبة، وسبب ذلك أن غرض الفيلسوف في علمه إصابة الحق، وفي عمله العمل بالحق، ومعنى هذا أن الكندي يدافع عن الاشتغال بالفلسفة أو الحكمة، بحيث لا يطعن فيها الطاعنون طالما أن المقصد منها نظريًّا كان أو عمليًّا من المقاصد النبيلة، ويوضح ذلك بقوله: “إذا كان الفيلسوف يعني نظريًّا إلى إصابة الحق، ويسعى من جهة العمل أن يعمل بالحق الذي يدركه بالنظر؛ فإنه لا يستطيع إذًا أحد من المهاجمين أن يطعن في الاشتغال بعلوم الفلسفة، طالما أن الغرض نظريًّا، والغرض عمليًّا من الأغراض الحقة المشروعة”.

ثانيًا: “إذا كان غرض الفيلسوف إصابة الحق، فإننا لا نجد مطلوباتنا من الحق من غير علة، وعلة وجود كل شيء وثباته هو الحق”.

ويحاول الكندي أن يوضح ذلك، وأن يبين بأن أشرف الفلسفة، وأعلاها مرتبة الفلسفة الأولى، والمراد بها: علم الحق الأول الذي هو علة كل حق، ولذلك يجب أن يكون الفيلسوف التام الأشرف هو المرء المحيط بهذا العلم الأشرف؛ لأن علم العلة الأولى هو أشرف من علم المعلول؛ لأنا إنما نعلم كل واحد من المعلومات علمًا تامًّا إذَا نحن أحطنا بعلم علته.

فما السبب في محاولة الكندي رفع الفلسفة الأولى فوق مرتبة غيرها من العلوم؟

إن هناك سببين رئيسيين في ذلك:

السبب الأول: يكمن في متابعة الكندي لأرسطو في هذا الجانب.

السبب الثاني: هو أنه يحاول التقريب بين الفلسفة الأولى، وبين الشريعة التي يشتغل بها الفقهاء، نظرًا لأن موضوع الفلسفة الأولى عند العرب يصطبغ بالصبغة الدينية، ولا أدَلّ على ذلك من أن فلاسفة العرب يطلقون على الفلسفة الأولى علم الإلهيات.

السبب الأول إذًا يتمثل في متابعة الكندي لأرسطو، فالكندي يتابع أرسطو فيما يذهب إليه، وهذا السبب الأول يرتبط بالسبب الثاني وهو ما أشرت إليه فيما سبق أن الفلسفة الأولى أو الإلهيات كانت هي أشرف العلوم عند الفلاسفة، وهذا يؤدي بالتالي إلى مشروعية الفلسفة والاشتغال بها؛ لأنها تتعلق بالجوانب الإلهية، ولكن لا شك أن موضوع الإلهيات الذي خاض فيه الفلاسفة يختلف عن موضوع الإلهيات عند الإسلام، وفي الدين الإسلامي.

السبب الثالث: الذي دفع الكندي إلى التوفيق بين الدين والفلسفة: أنه يرى أن من الأشياء الضرورية والواجبة ألا نذم الذين كانوا أسباب منافعنا البسيطة، فكيف إذًا بهؤلاء الذين هم أسباب منافعنا العظيمة الجادة؟ إنهم أفادونا إفادات كبيرة، إنهم سهلوا لنا الكثير من المطالب الفكرية الخفية، تلك المطالب التي لم يكن باستطاعتنا أن نصل إليها لولا وجودهم وبحثهم عن الحقيقة، وفي ذلك يقول الكندي: “فينبغي أن يعظم شكرنا للآتين بيسير الحق فضلًا عمن أتى بكثير من الحق؛ إذ أشركونا في ثمار فكرهم، وسهّلوا لنا المطالب الحقية الخفية بما أفادونا من المقدمات المسهِّلة لنا سبل الحق، فإنهم لو لم يكونوا لم يجتمع لنا مع شدة البحث في مُددنا كلها هذه العلوم”.

هذا بعض ما قاله الكندي لكي يبرر فكرته، ولكي يؤكد لنا أنه من الواجب علينا أن نشكرهم لا أن نذمهم، هؤلاء الذين داوموا البحث عن الحقيقة، واجتهدوا لإصابتها، بحيث يكون من الصحيح فيما يقول الكندي أن نقول مع أرسطو: ينبغي لنا أن نشكر آباءنا الذين أتوا بشيء من الحق؛ إذ كانوا سبب كونهم فضلًا عن أنهم سبب لهم، وإذ هم سبب لنا إلى نيل الحق.

السبب الرابع: أنه ذهب إلى أن الفلسفة قد أتت لنا من بلاد غريبة عنا، وهي من بلاد اليونان، إذا كان الأمر كذلك، فإنه يجب علينا ألا نستحيي من استحسان الحق من أين أتى، أي حتى لو أتى لنا من الأجناس البعيدة عنا، والأمم المباينة لنا.

وفي هذا القول من جانب الكندي رد على ما كان يُشاع أحيانًا من أن الفلسفة إذا كان مصدرها اليونان، والباحثون فيها فلاسفة وثنيين، فإنه يجب الابتعاد عنها؛ لأنها أتت إلينا من بلاد غريبة بعيدة عنا.

كما أن في قول الكندي هذا مبدأ هامًّا عند الفلاسفة أذكره هنا وقد ذكروه، هم قالوا: “إنه يجب علينا أن نبحث عن الحقيقة كحقيقة، وبصرف النظر عن كونها إسلامية أو ليست بإسلامية، أو كونها عربية أو يونانية، أو غير ذلك”.

ولا شك أن هذه الدعوة قد أثرت في الفيلسوف الأندلسي ابن رشد، فنحن حين ندرس رأيه في العلاقة بين الفلسفة والدين نجده يقول: “إذا كان كل ما يحتاج إليه النظر في أمر المقاييس العقلية، قد فُحص عند القدماء أتمَّ فحصٍ فينبغي ­­­أن نضرب بأيدينا إلى كتبهم، وننظر فيما قالوه من ذلك، فإن كان كله صوابًا قبلناه، وإن كان فيه ما ليس بصواب نبهنا عليه”.

ولكن هل من الواجب على المهاجمين للفلسفة دراستها؟ يعتقد الكندي أنه من واجب الجميع أن يطلب الفلسفة، وأن يدرسها حتى هؤلاء الذين يحاربونها، يقول الكندي: “إن هؤلاء الذين يتجنبون البحث عن حقائق الفلسفة يجب عليهم أن يبحثوا فيها، وأن يطلبوا العلم من خلالها”.

وواضح أن الكندي في هذا الجزء من رسالته إلى المعتصم، يهاجم مسلك رجال الدين أو الفقهاء، وينتقدهم في ذلك، وقد يكون من أسباب ذلك ما لحقه من أذى بسبب اشتغاله بالفلسفة، كما أشرت إلى ذلك فيما سبق.

وبعد دفاع الكندي عن الفلسفة في رسالته إلى المعتصم بالله في الفلسفة الأولى، وتبريره الاشتغال بها ورده على من يسيئون الظن بها، يحاول بعد ذلك أن يبين لنا أن المسائل التي تبحث فيها الفلسفة، وتقوم بدراستها قد أتت بها الرسل، فهو يقول: “لأن في علم الأشياء بحقائقها علم الربوبية والوحدانية، والفضيلة، وهذه العلوم تدعو إلى كل علم نافع، والسبيل إلى هذه العلوم النافعة، كما أنها أيضًا تدعو إلى الاحتراس، والبعد عن كل ضار”. وإذا كان الأمر كذلك، فيرى الكندي إذًا أن الفلسفة ضرورة، وأنه يجب علينا أن نشتغل بها.

وإذا رجعنا بعد ذلك إلى رسالة الكندي الثانية التي تتعلق بكتب أرسطو، وما يُحتاج إليه في تحصيل الفلسفة، نجده بعد بيانه لفروع العلوم الفلسفية على النحو الذي نجده عند أرسطو طاليس يتحدث عن علوم إلهية، أي عن علوم الأنبياء التي لا تأتي فيما يقول عن طريق التحصيل والاكتساب، بل عن طريق الإلهام الإلهي، ومعنى هذا أن هناك فرقًا جوهريًّا ينبهنا إليه الكندي بين علوم الأنبياء، وعلوم الفلاسفة، سواء تمثَّل هذا الفرق في الطريق إلى كل منهما أو في المصدر الذي يتلقى منه كل من الفلاسفة أو الأنبياء علومهم.

ويوضح الكندي بأن علوم الرسل قد تكون بلا طلب ولا تكلف، ولا بحيلة بشرية ولا زمان، وهذه العلوم تكون بإرادة الله -تبارك وتعالى؛ لأن الله عز وجل خاطب بها الرسل، أما علوم الفلسفة فتأتي عن طريق الاكتساب والتدريب، والتجربة وطول البحث، واتباع مبادئ منطقية ورياضية، وما شابه ذلك من طرق تعد كسبية، ومن الواضح أن الطريق لاكتساب هذه العلوم يختلف عن طريق علوم الأنبياء.

ولعله يكون بعد هذا، قد ظهر لنا كيف أن الكندي، وما أشرت إليهم أيضًا من فلاسفة الشرق أو الغرب حاولوا التوفيق بين الدين والفلسفة، ولا شك في بُعد منهج الفلاسفة واختلافه عن منهج الدين، وهذا ما سأبينه في العنصر التالي، وإذا بينت ذلك رددت على هذه المحاولات التي حاول بها فلاسفة العرب أن يوفقوا بين الشرع والدين، وبين الفلسفة.

error: النص محمي !!