Top
Image Alt

مدخل إلى العلاقات الدولية في الإسلام

  /  مدخل إلى العلاقات الدولية في الإسلام

مدخل إلى العلاقات الدولية في الإسلام

عاشت البشرية فترة من الزمن في مجموعاتٍ صغيرة لا تربطها رابطة، ولا يجمعها هدف، تنطوي كلّ فئة منها على نفسها لتدبير شئون حياتها بمعزل عن غيرها من المجموعات الأخرى. وكانت رابطة الوحدة في الاجتماع البشري محصورة في البيوت أو العائلات، ثم اتّسعت فصارت في القبائل، ثم اتّسعت أكثر بناموس الترقّي فكانت الشعوب والأمم الكبيرة التي وحّدتها الجنسية باللغة أو الدِّين، أو البلاد أو الوطن.

وكان الدِّين خالصًا لا يتعدّى الشعب الذي وُجد فيه، إلى أن ظهر الإسلام، فدعا إلى توحيد البشرية تحت لواء واحد هو: لواء العبودية للهسبحانه وتعالى تنفيذًا للأمر الإلهي الخالد في قوله تعالى: {وَمَا خَلَقْتُ الْجِنّ وَالإِنسَ إِلاّ لِيَعْبُدُونِ} [الذاريات: 56]، فحمل المسلمون لواء الدعوة للعبودية الخالصة لله وحْده دون شريك.

فأبَت الدعوات الباطلة والأهواء الزائفة أن تستجيب لهذه الدعوة، وحشدت حشودها للقضاء على دعوة التوحيد في مهدها. من ثَمّ كان الصراع بين الحق والباطل على جبال مكة وفي شعابها. وانتصر الحق على الباطل، على الرغم ممّا تحصّن به الباطل من قوة وسلطان وطغيان. إلاّ أن سُنّة الله قد مضت في انتصار الحق دائمًا، أو في خاتمة المطاف، مهما طال الزمن. فالله سبحانه وتعالى يقول: {وَقُلْ جَآءَ الْحَقّ وَزَهَقَ الْبَاطِلُ إِنّ الْبَاطِلَ كَانَ زَهُوقاً} [الإسراء: 81].

وُجدت إذًا دعوة التوحيد في أرض الإيمان، ووجدت لها أرضًا بيثرب أو بالمدينة المنورة، فانطلقت منها؛ حيث رحل المؤمنون الأُوَل بقيادة الرسول صلى الله عليه وسلم إلى تلك الأرض الجديدة لنشر الإسلام من ربوعها. فالأرض كلها لله، وإذا ضُيِّق على دعوة التوحيد في موقع، فإنها بالضرورة تنطلق من موقع آخَر؛ ويأبى الله إلا أن يتمّ نوره ولو كره الكافرون.

تم إذًا بناء دولة الإسلام على يد محمد صلى الله عليه وسلم لتعلن للبشرية أنّ كلّ المبادئ والأديان التي حرّفها أتباعها، لا مكان لها في العهد الجديد؛ فلا يُقبل من البشرية جمعاء إلاّ أن تُسلم لرب العالمين. فكان النداء الخالد: {إِنّ الدّينَ عِندَ اللّهِ الإِسْلاَمُ وَمَا اخْتَلَفَ الّذِينَ أُوتُواْ الْكِتَابَ إِلاّ مِن بَعْدِ مَا جَآءَهُمُ الْعِلْمُ بَغْياً بَيْنَهُمْ وَمَن يَكْفُرْ بِآيَاتِ اللّهِ فَإِنّ اللّهِ سَرِيعُ الْحِسَابِ} [آل عمران: 19].

والدولة الإسلامية دولة عقيدة أوّلًا، فهي ليست دولة مصلحة أو دولة مرحلة، وليست دولةَ قبيلةٍ أو طائفةٍ أو قومٍ. ثم إن هذه العقيدة ثانيًا عقيدة من نوع خاص -إن صحّ هذا التعبير أو هذه الاقتباس- بمعنى: أنّ لهذه العقيدة مواصفات وخصائص ومزايا. ويكفي أن نشير هنا إلى أنها عقيدة إنسانية عالَمية، وعقيدة سماوية محفوظة وخاتمة، لا تلحقها عقيدة أخرى. فقد انقطع الوحي بوفاة رسول الله صلى الله عليه وسلم ونزل عليه قوله تعالى: {الْيَوْمَ أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ وَأَتْمَمْتُ عَلَيْكُمْ نِعْمَتِي وَرَضِيتُ لَكُمُ الأِسْلاَمَ دِيناً} [المائدة: 3].

هذا إلى جانب خصائص الشريعة الإسلامية في عبادتها ومعاملاتها على حدّ سواء، وهو ما سبق أن أشرنا إليه بنوع من التفصيل في أوّل محاضراتنا عن السياسة الشرعية، حيث عرضنا لخصائص التشريع الإسلامي، وأهم المبادئ التي جاء بها الإسلام.

وعلى أية حال؛ فالذي أودّ تقريره هنا هو: اختلاف أسلوب العلاقات التي أقامتْها الدولة الإسلامية مع غيرها من الأمم تبعًا لاختلاف أصول هذه العلاقات، وهي: الإسلام من جانب الدولة الإسلامية، والأنظمة الوضعية أو الدِّينيّة المحرّفة التي كانت تقوم عليها الدول الأخرى.

ولم يقف الإسلام عاجزًا أمام المسائل التي كانت تستجدّ في علاقاته مع الآخَرين، سواء كان ذلك من خلال العلاقات الحربية أو السلمية التي كانت تمرّ بها الدولة الإسلامية في مراحلها المختلفة، أو في عصورها المتباينة، وبيئاتها المتعدّدة. فقد واجه الإسلام منذ نشأة دولته أحداثًا سياسةً وعسكريةً، واستطاع أن يتجاوز هذه الأحداث، وأن يَجِد لها الحلّ المناسب. فكانت هناك المعارك الحربية التي خاضها المسلمون مع أعداء الدولة الإسلامية، أولئك الذين حاولوا القضاء عليها واجتثاثها من الوجود نهائيًّا.

كما واجه الإسلام أحداثًا سياسيةً كذلك، واستطاع أن يتعامل معها بأسلوب يختلف عمّا كانت عليه الدّول السابقة. فعقد المعاهدات، واستقبل المستأمَنين، وأعان الضعفاء، وتحالف مع القبائل، وأقام العلاقات الخارجية؛ كل ذلك بتصوّر إسلامي مستمدّ من كتاب الله وسُنة نبيه صلى الله عليه وسلم ولذا، فلا يمكن القول بأن الدولة الإسلامية لم تعرف العلاقات مع غيرها من الدّول. وإذا كان الاختلاف قائمًا بين المفكرين المسلمين حول طبيعة هذه العلاقة, فإنّ ذلك لا يعني نفي الفكرة في ذاتها؛ فالمسلمون الأُوَل منذ عهد الرسول صلى الله عليه وسلم أقاموا علاقاتٍ واسعةً مع الدّول التي كانت قائمة في ذلك الوقت، مثل الدولة البيزنطية والدولة الفارسية. والحقّ أنّ المعسكر البيزنطي، أو الروماني النصراني هو الذي حظي بالقسط الأعظم من حركة الرسول صلى الله عليه وسلم العالمية المعروفة في التاريخ باسم مكاتبة الملوك والأمراء, ربما لأن الرسول صلى الله عليه وسلم أدرك الوشائج التي تربط الإسلام بهذه الجبهة أو بهذه الطائفة من الناس، باعتبارها تنتمي إلى دين سماويٍ تنصّ مصادره الدينية على نبوّة الرسول محمد صلى الله عليه وسلم وستقودهم إلى تفهّم دعواته التي ينطلق بها سفراؤه إلى ملوك وحكّام هذا المعسكر، فضلًا عن قربه الجغرافي من شبه الجزيرة العربية.

إلاّ أنّ ردود الفعل النصرانية لم تكن سواء، وتدرّجت بين الانتماء إلى الدعوة الجديدة -أو الموقف الودّي منها- وبين الرفض الغاضب الوقح أحيانًا.

بل إن بعض الباحثين يذهبون إلى أبعد من ذلك حين يقولون: إنّ أصول العلاقات الدولية الإسلامية بدأت قبل قيام الدولة الإسلامية في المدينة المنورة. وترجع تلك البدايات إلى قيام الرسول صلى الله عليه وسلم بلقاء القبائل الوافدة إلى الحج ودعوتهم للإسلام، أو الذهاب إلى مواطنهم ودعوتهم للإسلام. ولا شك أنّ مثل هذه الاتصالات المبكرة لوفود القبائل العربية التي كانت تَرِد أو تَفِد على مكة, هذه الاتصالات المبكرة التي بدأت قبل قيام الدولة الإسلامية في يثرب، وكذلك الهجرة إلى الحبشة، وما تبع ذلك من محادثات ولقاءات، واتصال بين الجماعة المسلمة المهاجرة والحكومة الحبشية، كلّ ذلك كان يشير إلى أنّ ثمّة سياسة خارجية للإسلام، أو ملامح لها قد ظهرت حينئذٍ في مكة، وستؤدِّي حتمًا إلى إعادة النظر في النهج القرشي التقليدي القائم على أساس التوازن -إن لم نقُل الحياد- في العلاقة مع القوى المهيمنة على خطوط التجارة؛ لا سيما المتّصلة بأسواق الشام واليمن، في رحلتيْها الشهيرتيْن إلى الشام واليمن كلّ عام.

لقد كانت الدعوة الإسلامية الراصدة عن كثب ما يجري على تخوم شِبْه الجزيرة العربية وأطرافها، تطرح نفسها دائمًا القوّةَ الدولية البديلة. ومع وضوح هذه العلاقات التي تمّت خلال العهد المكي للدعوة الإسلامية، إلاّ أننا لا يمكن أن نعتبر ذلك صورة من صور العلاقات التي تتمّ بين الدّول؛ فالركن الأساس لهذه العلاقة -وهو الدولة الإسلامية- لم تكن قد تشكّلت بعد بصورة رسمية واضحة يصبح معها إطلاق مفهوم العلاقات أمرًا طبيعيًا على هذه الصورة من صور الانتقال، أو العلاقات الدولية بين قبائل ودُول المنطقة. كما أنها كانت اتصالاتٍ لتعريف القبائل بالإسلام، وليس لإقامة علاقات دولية معها بالمعنى الذي اصطُلح عليه فيما بعد.

وإذا كان الرأي في العلاقات خلال المرحلة المكية كذلك، إلاّ أننا لا يمكن أن نغفل الدوْر الذي تميّز به العهد المدني في ربط العلاقات بين الدولة الإسلامية وغيرها من الدّول؛ فالعصر المدني على خلاف العصر المكي غنيّ بالروايات والأحداث التي تُلقي ضوءًا شاملًا على العلاقات بين الطرفين؛ لا سيما وأنّ الإسلام كان قد تمكّن آنذاك من بناء دولته التي تتجاوز في سياستها وفي علاقتها الحدودَ الإقليمية والقومية، صوْب العالم المحيط حيث تقع الدولة البيزنطية وحلفاؤها العرب، وهم جميعًا محسوبون على المعسكر النصراني.

والمكتبة الإسلامية زاخرة بمؤلّفات المتقدّمين والمتأخّرين من الباحثين المسلمين في ميدان العلاقات الدولية. وإن لم يكن التصنيف الموضوعي قد أخذ صورته الحديثة، إلاّ أن البحث في ميدان العلاقات الدولية، أو ما أطلق عليه: “السِّيَر” قديمًا، أخذ بابًا واسعًا في الفقه الإسلامي. ومنها كتب: “(السِّيَر الصغير)، و(السِّيَر الكبير) لمحمد بن الحسن الشيباني، المتوفى سنة (189هـ)، وصاحب أبي حنيفة رحمه الله ومنها أيضًا: (الرد على “سيَر الأوزاعي”) للقاضي أبي يوسف صاحب أبي حنيفة أيضًا، ثم (سيَر الواقدي)، وغير ذلك…

وهكذا يتّضح لنا: أن فقهاء المسلمين قد وضعوا قواعد ومبادئ لتنظيم العلاقة بين الدولة الإسلامية وغيرها من الدّول، وبحثوها تحت أبواب: السِّيَر، والجهاد، والأمان، والرباط، والجزية، والخراج، وأهل الذمة، واختلاف الدارَيْن، وما شاكل ذلك…

ومن مقالٍ للدكتور علي جمعة -مفتي الديار المصرية- حول العلاقات الدولية في الدولة الإسلامية مع الأمم الأخرى، نشر في جريدة (الوفد) المصرية في عدد الجمعة 20 ربيع أوّل (1426هـ/ 29 أبريل 2005م)، اقتبست فقراتٍ لتكون مدخلًا للدعائم التي تقوم عليها العلاقات الإنسانية، قبل المضي قُدُمًا في الكلام عن العلاقات الدولية في السلم والحرب.

يقول الشيخ: “العلاقات الدولية في الإسلام قائمة على السلم والبر، والإقساط والتعاون والرحمة مع الأمم الأخرى؛ لقوله تعالى: {يَأَيّهَا الّذِينَ آمَنُواْ ادْخُلُواْ فِي السّلْمِ كَآفّةً وَلاَ تَتّبِعُواْ خُطُوَاتِ الشّيْطَانِ إِنّهُ لَكُمْ عَدُوّ مّبِينٌ} [البقرة: 208]؛ فالأصل في العلاقات الدولية في الإسلام: تحريم البغي والعدوان، أو التعاون والتحالف على العمل على ارتكابه؛ لأنه تعاون على الإثم؛ وهذا محرّم بالنص لقوله تعالى: {وَتَعَاوَنُواْ عَلَى الْبرّ وَالتّقْوَىَ وَلاَ تَعَاوَنُواْ عَلَى الإِثْمِ وَالْعُدْوَانِ وَاتّقُواْ اللّهَ إِنّ اللّهَ شَدِيدُ آلْعِقَابِ} [المائدة: 2] وقوله سبحانه وتعالى: {وَقَاتِلُواْ فِي سَبِيلِ اللّهِ الّذِينَ يُقَاتِلُونَكُمْ وَلاَ تَعْتَدُوَاْ إِنّ اللّهَ لاَ يُحِبّ الْمُعْتَدِينَ} [البقرة: 190]”.

ويؤكّد فضيلة المفتي: أنّ الدولة الإسلامية تحترم الكيان المادي، والمركز السياسي للدّول الأخرى، كما أنها تحترم مركزها الأدبي. وبالمقابل، فإنّ مِن حقها أن تطالب الدول الأخرى بمثل هذا الاحترام. ويوضّح أيضًا بأن الاهتمام بالعلاقات الدولية بين المسلمين وغيرهم خارج الجزيرة العربية، بدأ في المرحلة المكية عندما نصح الرسول صلى الله عليه وسلم بعض أصحابه من المسلمين الأُوَل بالهجرة إلى الحبشة للتخلص من ظلم قريش لهم؛ وهو ما يعتبر إرسال وفود إسلامية مظلومة مستضعفة إلى أحد ملوك الأرض وقْتها، وهو ما يمكن أن نعبِّر عنه في العصر الحديث: أنّ النبي صلى الله عليه وسلم طلب حق اللجوء السياسي لأصحابه عند النجاشي في الحبشة حماية لهم؛ فأجاب النجاشي طلب النبي صلى الله عليه وسلم.

وحين استقرت دولة المدينة، بادر النبي صلى الله عليه وسلم بإرسال رسائل إلى الدول الكبرى في المنطقة: بيزنطة، وفارس، ومصر، واليمن، والحبشة، وشيوخ القبائل, يدعو زعماءها وشعوبها إلى الإسلام. وبعد ثمانين عامًا تقريبًا كانت الدولة الإسلامية أكبر إمبراطورية في المنطقة، تمتدّ من الهند شرقًا إلى أسبانيا غربًا؛ حيث أصبحت لها حدود مشتركة وطويلة مع العديد من الدول والشعوب غير المسلمة. وعبر عصور طويلةٍ مارست الدول الإسلامية توقيع الاتفاقيات والمعاهدات مع الدول غير الإسلامية، وتضمّنت تلك الاتفاقيات التزاماتٍ وقواعد وشروطًا ومبادئ عديدة، بشكل يمثّل تطورًا في القانون الدولي الإسلامي، وقبول مفاهيم جديدة بشكل يجعل الباحث يتصوّر طبيعة الظروف التاريخية التي جعلت تلك الدول توقّع هذه المعاهدة أو تلك.

نعم، لقد عرف الإسلام المعاهدات السلمية في السنوات الأولى من تأسيس الدولة الإسلامية الجديدة في المدينة؛ إذ عقد الرسول -صلى الله عليه وعلى آله وسلم- اتفاقياتٍ سليمة مع الجماعات غير الإسلامية.

وقد اعتُبرت معاهدة الحديبية قدوةً ومثالًا لدى الخلفاء والفقهاء، عند عقد الاتفاقيات وإجراء المفاوضات. وعُقدت معاهدة الحديبية بين الرسول صلى الله عليه وسلم ومُشركي مكة في عام (6هـ/ 627م). وكانت مواد المعاهدة تتضمّن ضمانًا مِن كِلا الطرفيْن بعدم مهاجمة الطرف الآخَر؛ فرَسخت الأمن والسلام الذي كان الطرفان بحاجةٍ إليه، بعد أن شهدت الجزيرة العربية صراعًا عنيفًا، وحروبًا ومعارك ضارية بين المسلمين والمشركين.

وكان الرسول صلى الله عليه وسلم قد عقد معاهداتٍ أخرى، مع اليهود والنصارى، سواء المقيمون داخل الجزيرة العربية أو خارجها وخارج حدود دولة المدينة. فقد عقدصلى الله عليه وسلم اتفاقية سلمية مع نصارى نجران عام (10هـ/ 631م)، ومع يهود تيماء وغيرها، ومع بني صخر من كنانة. وكانت تلك الاتفاقيات تضمن لهم حكمًا إداريًّا ذاتيًّا واستقلالًا عن دولة المدينة.

لقد كان بإمكانهم الاستمرار بتطبيق قوانينهم على أراضيهم، ولم تكن الجزية إلزامية في كل الاتفاقيات والمعاهدات مع أهل الكتاب؛ ففي معاهدة المدينة بيّن الرسول صلى الله عليه وسلم ويهود المدينة وأطرافها -وهي أول معاهدة سلمية للدولة الإسلامية- لم تتضمّن دفع جزية, بل يمكن اعتبارها معاهدة صداقة، أو بروتوكولًا ينظّم العلاقة والصلاحيات والامتيازات الممنوحة لليهود داخل المدينة الإسلامية. وكان من شأنها ترسيخ الأمن والسلام؛ إذ لم يسبقها عِداء أو حرب مع اليهود، لولا نكْث اليهود لها فيما بعد.

كما أنّ المعاهدة التي عقدها الرسول صلى الله عليه وسلم مع بني ضمرة لم تتضمّن دفع جزية، بل اقتصرت على نصرة الطرفيْن أحدهما للآخَر، وعدم مهاجمته. وعُقدت نفس المعاهدة مع بني غفار، وبالشروط نفسها.

أمّا العلاقات السليمة مع الحبشة -الدولة النصرانية- فقد استمرّت قرونًا دون معاهدة مكتوبة؛ ففي العهد المبكّر للإسلام هاجر إلى الحبشة حوالي ثمانين صحابيًا هربًا من تعذيب قريشٍ لهم، وبحثًا عن ملجأ آمن؛ حيث أمضوا هناك سنوات. فكان موقف المسلمين هو الشكر والعرفان بالجميل؛ حتى إنهم اعتبروا الحبشة مصونة عن الجهاد والفتوحات العسكرية, فلم يتعرضوا لها حتى في أوج قوة الدولة الإسلامية في العصر العباسي. ويعود ذلك إلى موقف الطرفيْن السلمي؛ ففي حين امتنع المسلمون عن مهاجمة الحبشة، من ناحية أخرى، اعتمدت الحبشة سياسة سلمية, فلم تفكر بمهاجمة الدولة الإسلامية رغم أنها لديها خبرة في ذلك؛ إذ كانت تحتل اليمن لقرونٍ طويلة قبل الإسلام، وأسّست فيها حكومةً حبشية مسيحية. وحاول أبرهة الحبشي مهاجمة مكة عام (570 م) سعيًا لهدم الكعبة المقدّسة. وبقيت تلك الحادثة التاريخية ماثلةً في أذهان العرب, حتى سُمِّي ذلك العام بـ”عام الفيل”، وحتى أرّخوا به فيما بعد لعِظم هذا الحادث في تاريخهم، إلى أن كان التاريخ الهجري بعد ذلك.

كما عقد الخلفاء المسلمون بعد النبي صلى الله عليه وسلم معاهداتٍ سلمية، رغم أنّ القوة التي كان يتمتّع بها المسلمون وقتها تسمح لهم باستمرار القتال.

فقد عقد حاكم مصر عبد الله بن سعد بن أبي السرح في عهد الخليفة الثالث عثمان بن عفان رضي الله عنه معاهدة سلمية مع أهل النوبة أو السودان، تضمّنت إقرار السلم بعد معركة طاحنة، فسألوه الصلح والموادعة؛ فأجابهم إلى ذلك على غير جزية؛ لكن على هديّة ثلاثمائة رأس في كل سَنة، وعلى أن يهدي المسلمون إليهم طعامًا بقَدْر ذلك. وبقيت تلك المعاهدة سارية المفعول يحترمها الطرفان لمدة ثلاثمائة عام، حتى وصل الحكم الفاطمي في مصر سنة (969هـ).

فإذا كان سبب قبولها عجْز المسلمين عن فتح بلاد النوبة، فإنّ استمرارها رغم وصول المسلمين إلى درجة القوّة أكبر دليلٍ على اعتقادهم بمشروعيتها، وعلى أنّ السلام يمكن أن يقع بين المسلمين والكافرين بدون اشتراط الجزية، إذا التزم الكافرون بعدم الإعانة ضد المسلمين، وبعدم التعرض للدعوة الإسلامية.

وفي عام (28هـ/ 648م) عقد المسلمون معاهدةً سلمية مع سكان جزيرة قبرص، والذين لم يدفعوا الجزية، ولم يُعتبروا من أهل الذمة؛ فكانوا يؤدّون خراجًا قدْره سبعة آلاف ومائتا دينار سنويًّا. ثم نقضوا العهد لمساعدتهم الروم ضد المسلمين, فغزاهم معاوية عام (33هـ/ 654م), ففتح المسلمون الجزيرة، وأقرّهم على الشروط السابقة. ولَما تولّى عبد الملك بن صالح ولاية قبرص، قام بعض أهلها بالثورة عليه، فاستشار عبد الملك الفقهاء في شأن إلغاء معاهدتهم لنكثهم العهد، فأشار عليه أكثر الفقهاء ـ ومنهم الإمام مالك- بالإبقاء على العهد والكف عنهم. وعلّل ذلك بأن أهل قبرص ليسوا أهل ذمّة، رغم أنهم كانوا يدفعون خراجًا إلى المسلمين. وهكذا بقيت قبرص على شروط الصلح رغم نقْضها للعهد، ولم يلتزم أهلها بعقد الذمة وبدفع الجزية، لمصلحةٍ قدّرها المسلمون.

وفي عهد الخليفة الثاني عمر بن الخطاب رضي الله عنه عقد المسلمون معاهدة صلحٍ مع الجراجمة، وهم قوم غير مسلمين كانوا يسكنون جبل اللكام على الحدود بين بيزنطة والدولة الإسلامية. وكانوا يعيشون شبه مستقلِّين مع استعداد مسبق لخدمة الإمبراطورية البيزنطية. وقد نصت الاتفاقية المعقودة معهم على أن يكونوا أعوانًا للمسلمين وعيونًا، -أي: جواسيس- ومسالح، أي: دورات عسكرية في جبل اللكام، وألاّ يؤخذوا بالجزية -أي: لا يدفعوا الجزية- وأن يُنفَلوا -أي: يُعطَوْا- أسلاب أو غنائم مَن يَقتلون من عدو المسلمين إذا حضروا معهم حربًا في مغازيهم.

على أية حال؛ كان من أهم أسباب نجاح المسلمين في علاقتهم الدولية هو: الوفاء بالعهود؛ فقد شدّد الإسلام على وجوب الوفاء بالعهد، وعدّه من أسباب القوة، لأنه من أسباب الثقة وقوة التعارف، قال الله تعالى: {وَأَوْفُواْ بِعَهْدِ اللّهِ إِذَا عَاهَدتّمْ وَلاَ تَنقُضُواْ الأيْمَانَ بَعْدَ تَوْكِيدِهَا وَقَدْ جَعَلْتُمُ اللّهَ عَلَيْكُمْ كَفِيلاً إِنّ اللّهَ يَعْلَمُ مَا تَفْعَلُونَ} [النحل: 91]، وقال أيضًا: {فَمَا اسْتَقَامُواْ لَكُمْ فَاسْتَقِيمُواْ لَهُمْ إِنّ اللّهَ يُحِبّ الْمُتّقِينَ} [التوبة: 7]، وقال: {الّذِينَ يُوفُونَ بِعَهْدِ اللّهِ وَلاَ يِنقُضُونَ الْمِيثَاقَ} [الرعد: 20]، وقال: {وَالْمُوفُونَ بِعَهْدِهِمْ إِذَا عَاهَدُواْ} [البقرة: 177].

وقد حثّ النبي صلى الله عليه وسلم على الوفاء بالعهود عامة، وعلى الوفاء بالعهود التي يعقدها رؤساء الأمم في تنظيم العلاقات الدولية خاصة، قال صلى الله عليه وسلم: ((لا إيمان لِمَن لا أمانة له، ولا دين لِمَن لا عَهْد له)).

إنّ إقامة العلاقات فيما بين الدّول أمر قديم؛ فقد كانت العلاقات بين الشعوب قديمًا تقوم على التراسل والتكاتب بواسطة الرسل الموفَدين. وقد اعتُبر لأولئك الرسل على مرّ الزمن حُرمة كبيرة في الأعراف والشرائع، ومع مرور الزمن تأصّلت هذه العلاقات، وتمَّ تنظيمها ووضْع الأسس والضوابط لها. والدولة الإسلامية شأنها في ذلك شأن بقيّة الدول من حيث التنظيم والإدارة؛ ومن ثَمّ فهي تسعى دائمًا لإقامة علاقات مع غيرها من الدّول.

لكن قبل أن أحدّد مفهوم العلاقات الخارجية للدول الإسلامية، وبيان طبيعة العلاقة التي تقوم بينها وبين غيرها من الدول، أحبّ أن أقرر:

أنّ الدول الإسلامية ليست كبقية الدّول في أهدافها ووسائلها؛ فهي قد تلتقي مع غيرها في الأسلوب والطريقة، ولكنها تختلف في الأهداف. وعلى مراحل التاريخ التي مرّت بها الدولة الإسلامية، تعاملت مع غيرها من الدّول والشعوب والأفراد تعاملًا اختلف عمّا تعاملت به معها هذه الدّول وهذه الشعوب وهؤلاء الأفراد. فتارة كانت العلاقة تتّسم بالجهاد والمقاتلة، وتارة أخرى بالسِّلم والموادعة؛ ولذا فقد اختلفت طبيعة العلاقات الخارجية التي تقيمها الدولة الإسلامية مع غيرها من الدّول. ففي المراحل الأولى من تاريخ هذه الدولة، خرج المسلمون ليفتحوا الأرض مشرقًا ومغربًا، حاملين لواء الدعوة إلى الله، ينشرون الإسلام ويبشّرون به. ولم يكن جهادهم طغيانًا أو ظلمًا أو عدوانًا كما حاول أعداء الإسلام أن يَصِفوه، بل كان لكسْر أو تحطيم كلّ الحواجز التي تقف بين الإنسان وحرية الاختيار للعقيدة التي يرغب في الانتماء إليها. ولم يشهد التاريخ فاتحين مُنصفين كما شهد الدّعاة الأُول من المجاهدين المسلمين. فإذا تحقّق النصر والفتح، واختار الناس ما يشاءون: إما الالتزام بعقيدة التوحيد التي يدعو إليها الإسلام، وإمّا البقاء على أديانهم السماوية السابقة، كان لهم ذلك على ألاّ يشهروا سيفًا في وجْه الإسلام، وعلى أن يدفعوا الجزية مقابل حمايتهم وتمتّعهم بكل مرافق الدولة وخدماتها، إلى غير ذلك من حِكم وأسرار وضْع الجزية في الإسلام، كما سبق بيانه في المحاضرتيْن السابقتيْن.

ولذا وجدنا الفقهاء ورواد الفكر الإسلامي الأوائل يصفون العلاقة بين الدولة الإسلامية وغيرها من الدّول بأنها علاقة جهاد، وقسموا العالم لذلك إلى دار إسلام ودار حرب. وأضاف بعضهم تقسيمًا ثالثًا هو: دار العهد.

ومع مرور الزمن، وضعف الدولة الإسلامية، ودخول الوهن إلى قلوب أبنائها، وتقاعسهم عن الجهاد، ضعُف شأن الأمة، بل طمع فيها الطامعون، ومزّقوها إلى دويلات وتجمّعاتٍ يحارب بعضُها بعضًا. وأصبح بأس المسلمين بينهم شديدًا، وكلمتُهم متفرِّقة. ولم يعد للجهاد راية تُرفع. وقد أثّر ذلك في آراء الفقهاء والعلماء المتأخِّرين من المسلمين, فنظروا إلى العلاقة بين الدولة الإسلامية وغيرها من الدّول على أنها علاقة سِلم، أمّا الحرب فهي مسألة طارئة وتقدّر بقَدْرها، ولا يروْن اللجوء إليها إلاّ بعد استنفاد الوسائل الداعية للسلم، أو لردّ العدوان, وهو ما يعرف بالحرب الدفاعية. على أن هذه الوجهة لها أيضًا ما يؤيِّدها في الفكر القديم، بمعنى: هل الأصل في السياسة الخارجية للدولة الإسلامية هو السّلم والموادعة، أم الحرب والجهاد بالضوابط الإسلامية؟.

وهنا أؤكد من جديد مفهوم العلاقات الخارجية في الإسلام، وطبيعة هذه العلاقات كما قرّرها الدكتور عبد الوهاب خلاف في كتابه: (السياسة الشرعية)، إذ بدأ كلامه قائلًا: “السياسة الخارجية للدولة، تدبيرُ علاقاتها بغيرها من الدّول”. فكأنه يضع تعريفًا للسياسة الشرعية الخارجية أو للعلاقات الدولية.

ثم أضاف يقول: “والأمم قديمًا كانت حالها لا تساعد على وجود صلات بين إحداها والأخرى، لأن القوية كانت تطمع في استعباد الضعيفة، والضعيفة كانت في خوف من تغلّب القويّة. وما كانت إذ ذاك ضمانات تقف بالمطامع أو تنفي المخاوف؛ فلهذا كانت كلّ أمة في عزلة عن الأخرى، وما كانت لواحدة منها سياسة خارجية إلاّ تدبير الحروب والإغارات.

ولكن الأمم حديثًا لَمَّا اشتدت حاجة كل واحدة منها إلى الأخرى، وأصبحت كالأفراد مدنيةً بطبعها، لا غنى لأمّة عن غيرها، مسّت هذه الحاجات المتبادلة إلى تدبير العلاقات الخارجية بوضع الأسس التي تُبنى عليها، والقوانين التي تُتّبع فيها، والقوى الكفيلة بتنفيذها؛ ولهذا وُضِع علْم القانون الدولي لتقرير القواعد التي تستبين بها حقوق كلّ دولة وواجباتها قبل غيرها من الدول في حالَي السلم والحرب.

وأول ما قرره العلماء من قواعده: أنْ تكون علاقات الدّول أساسها السلم، حتى يتيسّر لها تبادل المنافع، والتعاون على بلوغ النوع الإنساني درجة كماله. وقرروا أنه لا يسوغ قطْع هذه الصلة السلمية إلاّ عند الضرورة القصوى التي تُلجئ إلى الحرب، بعد أن تفشل جميع الوسائل السلمية في حسم الخلاف. وسنّوا لحال السلم أحكامًا تكفل لكل دولة حقوقها وواجباتها قِبَل غيرها؛ حتى تُقطع أسباب الخلاف بالقدْر الممكن. كما سنّوا لحال الحرب -إذا أدّى الخلاف إلى وقوعها- أحكامًا تخفّف ويلاتها، وتهوِّن من شرورها بالقَدر الممكن كذلك. فمن الأحكام السلمية: وجوب اعتراف الدّول بوجود الدولة التي استكملت شرائط الدولية، ووجوب تمتّع كل دولة بحريتها التامة في سياستها الداخلية، واحترام حدودها، ومعاملة رعاياها بالحسنى، وإزالة العقبات من طريق تجارتها، وإكرام وفادة سفرائها وقناصلها، وغير هذا من الأحكام التي ُيقصد بها تجنّب وقوع الخلاف.

ومن الأحكام الحربية: وجوب إعلان الحرب بطريق يمنع الغدر والأخذ غيلة، وتحريم استعمال أنواع من القنابل والقذائف والأسلحة التي تزيد في تعذيب الإنسان، وإحسان المعاملة للجرحى والأسرى، وغير هذا من الأحكام التي يراد بها تخفيف ويل الحرب، ورحمة الإنسان بالإنسان”.

error: النص محمي !!