Top
Image Alt

مدرسة الاستشراق

  /  مدرسة الاستشراق

مدرسة الاستشراق

نبدأ الآن حديثنا عن أهمّ فصيل أو فرع، أو أهمّ مدرسة منظّمة تنظيمًا علميًّا دقيقًا أُسِّست منذ ما يقرب من سبعة أو ثمانية قرون، وبالتحديد بعد الحروب الصليبية مباشرةً، وأخذت على عاتقها المواجهة المباشرة والمنظّمة للإسلام؛ هذه المدرسة هي: مدرسة الاستشراق.

أ. معنى الاستشراق:

كلمة “الاستشراق”: نحن معنا في اللغة العربية أنّ “الألِف” و”السِّين” و”التاء” إذا دخلت على فعل أفادت: معنى الطلب. عندما أقول: “غَفَرَ”، هذا فعل ماض. إذا أدخلنا عليها “الألِف” و”السين” و”التاء” فنقول: “استغفر” تفيد هنا معنى الطلب، يعني: طلب المغفرة من الله.

معنا كلمة: “شرق” إذا أضفنا إليها “الألِف” و”السين” و”التاء” وقلنا: “استشرق” معناها: طلب علوم الشّرق. إذًا كلمة: “استشرق” التي أُخِذ منها لفظ: “الاستشراق” معناها: طلب علوم الشّرق، محاولة التعرف على ما في الشرق من حضارة وثقافة، ودِين ومجتمعات بشريّة. ومنه أُخِذ لفظ: “المستشرِق”.

والمستشرقون هم: الذين يقومون بالتعرف، أو بطلب معرفة ما في الشرق من حضارة، من ثقافة، من أديان، من تاريخ، من أدب، من لغة، من اجتماعات بشرية … فكأنّ هذه الظاهرة -ظاهرة الاستشراق- تعني: التعرف على ما في الشرق، على كلّ ما في الشرق، من تاريخ، وحضارة، ولغة، ودين، وثقافة، واجتماع بشري.

ورُبَّما كان تقسيم العالم إلى شرق وغرب مرتبطًا بظهور هذا المصطلح؛ لأنه قبل ظهور هذا المصطلح كان العالم يُعرف بأنه الرومان أو عالم الروم، والفُرس، والعرب، والهنود، والصينيون. أمّا تقسيم العالَم إلى شرق وغرب فهذا تقسيم استعماري، وربما ارتبط بظهور أو بظاهرة الاستشراق. من هنا نستطيع أن نقول: إنَّ الاستشراق هو: محاولة العلماء والمفكِّرين الأوربيِّين أو الغربيِّين، التعرف على ما في الشَّرق من حضارة، وتاريخ، ودين، ولغة، وأوضاع اجتماعية.

والذين استعملوا هذا التعبير: “استشراق”، والذين أطلقوه، والذين وظّفوه ليسوا العرب، وإنما هم الغربيّون أنفسهم. فإذا حاول أحدهم أن يتعلّم اللغة العربية، أو يتعلّم الدين الإسلامي، أو التاريخ العربي، أو الأدب العربي يُطلق عليه في أوربا: أنه مستشرق.

ب. نشأته:

وهذه الظاهرة نشأت تاريخيًّا، أو ارتبط ظهورها تاريخيًّا بالحروب الصليبية؛ لأن الحروب الصليبية التي انتصر فيها صلاح الدين الأيوبي على جيوش أوربا قاطبةً، وخلَّص بيت المقدس من أطماعهم بعد أن احتلّوه ما يقرب من قرن، هزيمة أوربا أمام صلاح الدين طرحت على مفكِّري أوربا العديد من الأسئلة: كيف ينتصر صلاح الدين على أوربا وعلى أكثر من جيش أوربي وهو أقل منهم عددًا وعُدّة؟ ما العوامل الكامنة في الجندي المسلم حتى ينتصر على جيوش أوربا؟ ما ثقافته؟ ما عقيدته؟ ما دِينه؟ ما حضارته؟ ما العوامل التي بَنَتْ هذه الشخصية حتى ينتصر على جيش أوربا وهو أكثر منه عددًا وعُدّة؟

هذه التساؤلات كلّها طُرحت على العقلية الأوربية، وبدءوا يدرسون أو يتناولون الحضارة الإسلامية، والدِّين الإسلامي، واللغة العربية، والتاريخ العربي والإسلامي -يتناولونه درسًا وفحصًا وتمحيصًا ونقدًا. ومن هنا وجدنا أن المستشرقين وزّعوا أنفسهم أو تخصّصوا في كثير من فروع الثقافة الإسلامية؛ بحيث لم نجد فرعًا من فروع ثقافتنا إلا وفيه أكثر من مستشرق متخصّص في دراسة هذا الفرع.

فهناك مستشرقون تخصّصوا في التصوّف الإسلامي، وفي التفسير -تفسير القرآن- وفي الأحاديث النبوية. وهناك مستشرقون تخصّصوا في الأدب والشعر، وآخَرون تخصّصوا في اللغة، وفي علم الاجتماع، وفي التاريخ، وفي الجغرافيا العربية، وفي الحضارة ككلّ. على سبيل الإجمال: لم يتركوا فرعًا من فروع الثقافة العربية والإسلامية إلا وخصٍّصوا فيه فريقًا من المستشرقين الذين تفرغوا لدراسة هذا الفرع.

قد يتساءل المرء: لماذا هذا الاهتمام بالثقافة العربية والإسلامية من المستشرقين؟ ولعلّ فيما قلناه من ارتباط ظاهرة الاستشراق بهزيمة أوربا في الحروب الصليبية ما يجيب على هذا السؤال؛ لأن السبب الأساسي هو: البحث عن العوامل الداخلية التي جعلت الجندي المسلم ينتصر على الجندي الأوربي في حرب غير متكافئة. الجندي الأوربي أو الجيش الأوربي كان أكثر من الجيش الإسلامي عددًا وعُدّة، ومع ذلك انتصر عليهم صلاح الدين. كان هذا هدفًا أساسيًّا: دراسة مكوّنات النفسية الإسلامية، مكوّنات الوجدان العربي، العقيدة التي جعلت من المسلم يدفع بنفسه أمام جيوش أوربا ذودًا عن المسجد الأقصى، وعن حياض الإسلام والمسلمين.

هذا هو تعريف “الاستشراق”، وهذا هو تاريخ نشأة الاستشراق، وسبب ارتباط ظاهرة الاستشراق بالحروب الصليبية.

جـ. مدارس الاستشراق:

ننتقل من هذا إلى القول بأن الاستشراق مدارس: هناك استشراق يهودي، واستشراق مسيحي. وهناك مستشرقون لا دين لهم لكنهم اهتموا أيضًا بالحضارة العربية والدين الإسلامي، وبدءوا يتخصّصون -كما قلنا سابقًا- في فروع الثقافة العربية والإسلامية. لكن سوف نركز في حديثنا عن الاستشراق على الجانب المهمّ المتصل بمصادر الثقافة الإسلامية وهو: موقف المستشرقين من القرآن الكريم، ومن السُّنة النبوية المطهرة، ومن النبي محمد صلى الله عليه  وسلم .

د. أسباب الاستشراق:

ولعل من المفيد: أن أشير هنا إلى أن بعض المفكِّرين حين درس ظاهرة الاستشراق حاول أن يلفت النظر إلى أنّ ظاهرة الاستشراق لها أسباب تفسّر هذه الظاهرة، وبعضها أسباب غير دينية، أو أسباب لا تتعلق بدراسة الإسلام للنيْل منه، وإنما لمحاولة التعرف على العالم الإسلامي لمجرّد العلْم به. بعضهم قال: إنّ وراء الاستشراق أسبابًا علمية: محاولة التعرف على الشرق لمجرد العلّم بما في الشرق، وليس لمجرد النيْل من الإسلام، أو النيْل من اللغة العربية. هذه أسباب علمية.

وبعضهم قال: إن هناك أسبابًا اقتصادية: كانت أوربا تعيش في فقر مدقع، وحاول مفكرو أوربا -أو بعض مفكري أوربا- أن يدرسوا الشرق؛ ليقفوا على خيرات الشرق وما فيه من خيرات كثيرة؛ ليمهّدوا لغزو الشرق غزوًا عسكريًّا، لمحاولة السيطرة على خيرات هذه البلاد. وهذا السبب له نصيبه من الوجاهة أيضًا؛ لأننا لو استقرأنا البلاد التي احتلتها أوربا احتلالًا عسكريًّا بجيوش عسكرية، نجد أنّ هذا الغزو العسكري أو الاحتلال العسكري كان مسبوقًا بجيوش من المستشرقين الذين سبقوا الغزو العسكري، وأقاموا في هذه البلاد ودرسوا ظروفها الاجتماعية، وأحوالها الثقافية، وأديانها، وحضارتها، وتاريخها، ونفسية أبنائها، وما هي المداخل النفسية للسيطرة على هذه الشعوب. فعَلوا ذلك مع الهند، وفعلوا ذلك مع مصر، وفعلوا ذلك مع السودان والعراق. سُبقت الجيوش العسكرية بجيوش من المستشرقين، لتمهّد لهم، وترسم لهم الخطط، وتبيِّن لهم الوقت والظرف المناسب للاحتلال العسكري بعد أن يكونوا قد درسوا نفسية هذه الشعوب.

البعض يرى أيضًا: أن للاستشراق أسبابًا سياسية؛ لأن الاستعمار الأوربي -هناك عصر يسمّى عصر الاستعمار- عصر الاستعمار العسكري هذا مهّد له المستعمرون العسكريُّون باستعمار آخَر، يجوز أن نسمٍّيه: الاستعمار العقلي، ويجوز أن نسميه استعمارًا فكريًّا، أو غزوًا فكريًّا. المهم: أن البعض يربط الغزو العسكري لبعض البلاد العربية والإسلامية، يربط بينه وبين الغزو الفكري أو ظهور الاستشراق، ويجعل جيوش المستشرقين سابقة على جيوش الغزاة العسكريين. ويستدلون على هذا بموقف نابليون بونابرت حين غزا الشرق في الحملة الفرنسية على مصر أو على الشرق، فكانت مسبوقة بجيش من المستشرقين مهد لبونابرت، وبيّن له كيف يحتلّ مصر بأقلّ قدر من الخسائر البشرية.

error: النص محمي !!