Top
Image Alt

مذاهب أهل العلم في العمل بالحديث الضعيف

  /  مذاهب أهل العلم في العمل بالحديث الضعيف

مذاهب أهل العلم في العمل بالحديث الضعيف

المذهب الأول: مذهب الجمهور، ذهب جمهور العلماء إلى جواز رواية الأحاديث الضعيفة التي لا تصل إلى درجة الوضع في الترغيب والترهيب وفضائل الأعمال والقصص، وممن ذهب هذا المذهب من الأئمة: سفيان الثوري، وسفيان بن عيينة، وأحمد بن حنبل، وعبد الرحمن بن مهدي، وعبد الله بن المبارك، وابن عبد البر والخطيب البغدادي، وابن الصلاح، والنووي، وابن القطان الفاسي، وغيرهم.

قال الخطيب البغدادي: قد ورد عن غير واحد من السلف أنه لا يجوز حمل الأحاديث المتعلقة بالتحليل والتحريم إلا من كان بريئًا من التهمة، وأما أحاديث الترغيب والمواعظ ونحو ذلك، فإنه يجوز كتابتها عن سائر المشايخ، ثم روى بأسانيده عن الأئمة جواز رواية الأحاديث الضعيفة في الفضائل والترغيب والترهيب.

أخرج الخطيب بإسناده عن سفيان الثوري أنه قال: لا تأخذوا هذا العلم في الحلال والحرام إلا من الرؤساء المشهورين بالعلم الذين يعرفون الزيادة والنقصان، فلا بأس بما سوى ذلك من المشايخ. وأخرج الخطيب بإسناده عن الإمام أحمد أنه قال: إذا روينا عن رسول الله صلى الله عليه وسلم في الحلال والحرام والسنن والأحكام تشدَّدنا في الأسانيد، وإذا روينا عن النبي صلى الله عليه وسلم في فضائل الأعمال وما لا يضع حكمًا ولا يرفعه؛ تساهلنا في الأسانيد.

وقال الإمام أحمد أيضًا: أحاديث الرقاق يُحتمل أن يتساهل فيها حتى يجيء شيء فيه حكم.

قال الحافظ السخاوي: أخرج البيهيقي في (المدخل) عن عبد الرحمن بن مهدي أنه قال: إذا روينا عن رسول الله صلى الله عليه وسلم في الحلال والحرام والأحكام شددنا في الأسانيد، وانتقدنا الرجال، وإذا روينا في الفضائل والثواب والعقاب تساهلنا في الأسانيد، وتسامحنا في الرجال.

قال ابن عبد البر: أحاديث الفضائل لا يحتاج فيها إلى من يُحتجّ به.

قال الشيخ أبو عمرو بن الصلاح: يجوز عند أهل الحديث وغيرهم التساهل في الأسانيد، ورواية ما سوى الموضوع من أنواع الحديث الضعيفة من غير اهتمام ببيان ضعفها فيما سوى صفات الله تعالى وأحكام الشريعة من الحلال والحرام وغيرهما، وذلك كالمواعظ والقصص وفضائل الأعمال وسائر فنون الترغيب والترهيب، وسائر ما لا تعلق له بالأحكام والأعقاد، وممن روينا عنه التنصيص على التساهل في ذلك: عبد الرحمن بن مهدي وأحمد بن حنبل.

قال السخاوي: قال أبو الحسن بن القطان: هذا القسم -أي: قسم الحديث الضعيف- لا يحتج به كله بأن يعمل به في فضائل الأعمال ويتوقف عن العمل به في الأحكام إلا إذا كثرت طرقه أو عضَّده اتصال عمل أو موافقة شاهد صحيح أو ظاهر القرآن، واستحسنه شيخنا الحافظ ابن حجر. قال الإمام النووي: وقد اتفق العلماء على جواز العمل بالحديث الضعيف في فضائل الأعمال.

شروط العمل بالحديث الضعيف في فضائل الأعمال:

ليس كل ضعيف يصلح للعمل به في فضائل الأعمال والترغيب والترهيب، قال الحافظ السيوطي: لم يذكر ابن الصلاح والنووي هنا وفي سائر كتبهما سوى شرطًا واحدًا للعمل بالضعيف، وهو كونه في الفضائل ونحوها، وذكر شيخ الإسلام أي: الحافظ ابن حجر ثلاثة شروط، وهي:

  • أن يكون الضعف غير شديد، فيخرج من انفرد من الكذابين والمتهمين بالكذب، ومن فحش غلطه، نقل العلائي الاتفاق على هذا الشرط.
  • أن يندرج الحديث تحت أصل معمول به.
  • لا يعتقد عند العمل به ثبوته، بل يعتقد الاحتياط.

المذهب الثاني: ذهب الإمام أحمد بن حنبل وأبو داود صاحب السنن وابن منده وغيرهم إلى العمل بالحديث الضعيف في الأحكام، وتقديمه على القياس، قال عبد الله بن أحمد بن حنبل: سمعت أبي يقول: لا تكاد ترى أحدًا ينظر في الرأي إلا وفي قلبه ضغن، والحديث الضعيف أحبّ إليَّ من الرأي.

قال: فسألته عن الرجل يكون ببلد لا يوجد فيها إلا صاحب حديث، لا يدري صحيحه من سقيمه، وصاحب رأيٍ، فمن يسأل؟ قال: يسأل صاحب الحديث، ولا يسأل صاحب الرأي.

وقال الإمام أحمد -رحمه الله تعالى- لابنه عبد الله: لو أردت أن أقتصر على ما صح عندي لم أرو من هذا المسند إلا الشيء بعد الشيء، ولكنك يا بني تعرف طريقتي في الحديث، إني لا أخالف ما يضعف إلا إذا كان في الباب شيء يدفعه.

قال الحافظ ابن حجر عقب ذكر هذين الأثرين عن الإمام أحمد: فهذا نحو ما حُكي عن أبي داود، ولا عجب، فإنه كان من تلامذة الإمام أحمد، فغير مستبعد أن يقول قوله.

قال الحافظ ابن حجر، وهو يتكلم عن سنن أبي داود السجستاني: ومن هنا يتبيَّن أن جميع ما سكت عليه أبو داود لا يكون من قبيل الحسن الاصطلاحي، بل هو على أقسام:

  1. منه ما هو في الصحيحين أو على شرط الصحة.
  2. منه ما هو من قبيل الحسن لذاته.
  3. منه ما هو من قبيل الحسن إذا اعتضَّ، وهذان القسمان أي: الثاني والثالث كثير في كتابه جدًّا.
  4. ومنه ما هو ضعيف لكنه من رواية من لم يُجمع على تركه غالبًا، وكل هذه الأقسام عنده تصلح للاحتجاج بها، كما نقل ابن منده عنه أنه يُخرِّج الحديث الضعيف إذا لم يجد في الباب غيره، وأنه أقوى عنده من رأي الرجال.

قال الحافظ السخاوي: كان أبو داود يتتبع من حديثه أقوى ما وُجد، كما رأيته بخط الحافظ العراقي، ويروي الحديث الضعيف أي: من قبل سوء حفظ راويه، ونحو ذلك كالمجهول عينًا أو حالًا لا مطلق الضعيف الذي يشمل ما كان راويه متهمًا بالكذب؛ حيث لا يوجد في الباب حديثًا غيره، فذلك الحديث الضعيف عنده أقوى من آراء جميع الرجال.

وكذلك احتجَّ بالحديث الضعيف وقدمه على الآراء الحافظ أبو عبد الله محمد بن إسحاق بن منده، أحد أكابر هذه الصناعة، ممن جاب وجال ولقي الأعلام والرجال، وشرق وغرب، رحمه الله تعالى.

وكذلك يُخرِّج الإمام النسائي في سننه، وهي مصنفة على أبواب الفقه حديث من لم يجمع أئمة الحديث على تركه حتى أنه يخرِّج للمجهولين حالًا وعينًا للاختلاف فيهم، فلا يقتصر الإمام النسائي في التخريج على المتفق على قبولهم. قال الإمام النسائي: لا يُترك الرجل عندي حتى يجمع الجميع على تركه، فأما إذا وثَّقه عبد الرحمن بن مهدي، وضعفه القطان -أي: يحيى بن سعيد القطان مثلًا- فإنه لا يترك لما عرف من تشديد يحيى القطان، ومن هو مثله في النقد.

قال الحافظ السخاوي: وحينئذٍ فقول ابن منده، وكذلك أبو داود، يأخذ مأخذ النسائي؛ يعني في عدم التقيد بالثقة، والتخريج لمن ضعف في الجملة وإن اختلف صنيعهما، وظاهر صنيع الإمام الترمذي في سننه أنه يعمل بالضعيف أيضًا، فالسنن للإمام الترمذي كتاب صُنف على الأبواب الفقهية، ومع ذلك فقد خرج فيه الترمذي أحاديث ضعيفة، وذكر الإمام الترمذي أن العلماء قد عملوا بهذه الأحاديث الضعيفة خلا حديثين.

قال أبو عيسى الترمذي: جميع ما في هذا الكتاب من الحديث معمول به، وقد أخذ به بعض أهل العلم ما خلا حديثين:

الحديث الأول: حديث ابن عباس: ((أن النبي صلى الله عليه وسلم جمع بين الظهر والعصر بالمدينة والمغرب والعشاء من غير خوف، ولا سفر ولا مطر)) قال: فقيل لابن عباس ما أراد بذلك؟ قال: أراد ألا يحرج أمته. الحديث أخرجه الإمام مسلم في صحيحه، وأخرجه الترمذي.

الحديث الثاني: حديث النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: ((إذا شرب الخمر فاجلدوه، فإن عاد في الرابعة فاقتلوه)) هذا الحديث أخرجه أبو داود والترمذي، وقد بيّنّا علة الحديثين جميعًا في الكتاب.

قال الإمام النووي: عقب حديث ابن عباس هذه الروايات الثابتة في صحيح مسلم، كما تراها وللعلماء فيها تأويلات ومذاهب، وقد قال الترمذي في آخر كتابه: ليس في كتابي حديث أجمعت الأمة على ترك العمل به إلا حديث ابن عباس في الجمع بالمدينة من غير خوف ولا مطر، وحديث قتل شارب الخمر في المرة الرابعة.

وهذا الذي قاله الترمذي في حديث شارب الخمر هو، كما قاله، فهو حديث منسوخ دلَّ الإجماع على نسخه، وأما حديث ابن عباس فلم يُجمعوا على ترك العمل به، بل لهم في ذلك أقوال.

قلت: السنن للإمام الترمذي، كتاب صُنّف على الأبواب الفقهية، وفيه أحاديث ضعيفة، ومع ذلك عمل بها العلماء إلا هذين الحديثين، كما هو نص كلام الإمام الترمذي.

شروط العمل بالحديث الضعيف في الأحكام، وتقديمه على القياس:

إذا كان فريق من العلماء قد عملوا بالحديث الضعيف، واستنبطوا منه الأحكام وقدَّموه على القياس، فإن ذلك ليس على إطلاقه، بل بشروط:

الشرط الأول: ألا يكون ضعفه شديدًا، فيُحتجّ بما كان في إسناده راوٍ سيء الحفظ أو المجهول عينًا أو حالًا، أما إذا كان الحديث في إسناده راوٍ متهم بالكذب، فلا يُحتجّ به مطلقًا.

الشرط الثاني: ألا يوجد في بابه غيره؛ أي من أدلة القرآن الكريم والسنة المقبولة.

الشرط الثالث: ألا يوجد في بابه شيء يدفعه أي: يُعارضه.

هل مراد الإمام أحمد وأبو داود وغيرهما ممن ذهب إلى جواز العمل بالضعيف، وتقديمه على القياس الضعيف الذي تحققت فيه الشروط السابقة أم يراد به الحسن، كما ذهب إلى ذلك شيخ الإسلام ابن تيمية وتلميذه ابن القيم؟ وقد علل ابن تيمية كلامه بأن المراد بالضعيف الذي يُعمل به ويقدم على القياس هو الحسن، وذلك لأن المتقدمين قسموا الحديث إلى صحيح وضعيف، وأول من عُرف أنه قَسّم الحديث إلى صحيح وحسن وضعيف هو الإمام الترمذي في جامعه.

قال الحافظ العراقي: كان أبو داود يرى الحديث الضعيف إذا لم يرد في الباب غيره أولى من رأي الرجال، وكان أحمد يقدم الحديث الضعيف على القياس. قال الحافظ العراقي: وحمل بعضهم هذا على أنه أريد بالضعيف هنا الحسن.

قال الحافظ السخاوي: على أن بعضهم حمل قول ابن منده على أنه أريد بالضعيف هنا الحديث الحسن. وهو بعيد، وكلام أبي داود في رسالته التي وصف فيها كتابه مشعر بخلافه، وذكر كلام أبي داود في رسالته إلى أهل مكة، التي بيَّن فيها منهجه في سننه، إلى أن قال: وليس في كتاب السنن الذي صنفته عن رجل متروك الحديث شيء، وإذا كان فيه حديث منكر بيّنت أنه منكر، وليس على نحوه في الباب غيره. ولكن يرد على كلام شيخ الإسلام ابن تيمية وابن القيم ما يأتي:

  1. أما عن قولهم أن المراد بالضعيف هو الحسن؛ فيلزم على هذا الكلام ألا يُعمل بالحديث الحسن في الأحكام، وإنما يعملون بالحديث الصحيح فقط، وهذا خلاف الواقع، فإن جماهير العلماء يعملون بالحديث الحسن في الأحكام، لذلك قال أبو سليمان الخطابي في تعريف الحديث الحسن: هو ما عُرف مخرجه، واشتهر رجاله، وعليه مدار أكثر الحديث، ويقبله أكثر العلماء، واستعمله عامة الفقهاء.
  2. أما عن قولهم: إن تقسيم الحديث إلى صحيح وحسن وضعيف لم يُعرف عند المتقدمين، وإنما كانوا يقسمون الحديث إلى صحيح وضعيف فقط إلى أن جاء الإمام الترمذي فقسمه إلى صحيح وحسن وضعيف، فهذا غير مسلّم، فقد وُجد الحكم على الحديث بالحسن قبل الترمذي في كلام مشايخ الترمذي ومشايخ مشايخه، كما قال ابن الصلاح.

قال ابن الصلاح: كتاب أبي عيسى الترمذي -رحمه الله تعالى- أصل في معرفة الحديث الحسن، وهو الذي نوه باسمه وأكثر من ذكره في جامعه، ويوجد في متفرقات من كلام بعض مشايخه والطبقة التي قبله كأحمد بن حنبل والبخاري وغيرهم.

قلت: الذي عليه العمل في كتب السنة والفقه جواز العمل بالحديث الضعيف بشرطه في الأحكام الشرعية من الحلال والحرام وغير ذلك، وذلك من الظهور بحيث لا يخفى على الباحثين، فالإمام مالك يحتجّ بالمراسيل والبلاغات، وصنيعه في (الموطأ) يشهد بذلك.

قال ابن عبد البر: أصل مذهب مالك -رحمه الله تعالى- والذي عليه جماعة أصحابنا المالكيين أن مرسل الثقة تجب به الحجة، ويلزم به العمل، كما يجب للمسند سواء.

والإمام الشافعي يحتجّ بالمرسل بشروطه، كما سيأتي، والسنن الأربعة مع أنها صُنّفت على أبواب الفقه إلا أن بها أحاديث ضعيفة، وأصل التصنيف على الأبواب الفقهية أن يقتصر المصنف فيها على ما يصلح للعمل به في بابه.

قال الحافظ ابن حجر: أصل وضع التصنيف في الحديث على الأبواب أن يقتصر فيه على ما يصلح للاحتجاج أو الاستشهاد، بخلاف من رُتّب على المسانيد، فإن أصل وضعه مطلق الجمع.

المذهب الثالث: ذهب بعض العلماء إلى العمل بالحديث الضعيف احتياطًا، فإذا ورد حديث ضعيف في تحريم نوع من البيوع عمل به احتياطًا، قال الحافظ السخاوي: إذا كان الحديث الضعيف في موضع احتياط، كما إذا ورد حديث ضعيف بكراهة بعض البيوع أو الأنكحة، فإن المستحب -كما قال النووي- أن يتنزّه عنه، ولكن لا يجب. قال الحافظ السيوطي: ويعمل بالضعيف أيضًا في الأحكام إذا كان فيه احتياط.

المذهب الرابع: ذهب جماعة من العلماء إلى أن الحديث الضعيف لا يعمل به مطلقًا، لا في الترغيب ولا في الترهيب ولا في الأحكام ولا غير ذلك. من هؤلاء: الإمام يحيى بن معين، والبخاري ومسلم، وأبو بكر بن العربي، وابن حزم الظاهري. قال القاسمي: ليعلم أن المذاهب في الضعيف ثلاثة:

الأول: لا يُعمل به مطلقًا، لا في الأحكام ولا في الفضائل، حكاه ابن سيد الناس في (عيون الأثر) عن يحيى بن معين، ونسبه في (فتح المغيث) لأبي بكر بن العربي. والظاهر أنه مذهب البخاري ومسلم أيضًا، يدل عليه شرط البخاري في صحيحه، وتشنيع الإمام مسلم على رُواة الضعيف وعدم إخراجهما في صحيحيهما شيئًا منه، وهذا مذهب ابن حزم، رحم الله الجميع.

وفي نسبة ذلك إلى الإمام البخاري نظر؛ لأن الإمام البخاري إذا كان قد شرط ألا يخرّج في صحيحه إلا أصح الصحيح، فلا يلزم من ذلك أن يكون مذهبه أنه لا يعمل بالحديث الضعيف على الإطلاق؛ لأنه خرَّج في كتبه الأخرى مثل (الأدب المفرد) وجزء (القراءة خلف الإمام)، وفي جزء (رفع اليدين) وغير ذلك أحاديث ليست بصحيحة، يستدلّ بها في بابها، فلم يشترط إخراج الصحيح إلا في كتابه الصحيح.

وأيضًا خرَّج الإمام البخاري في صحيحه أحاديث معلقة لا تصل إلى درجة الصحيح، وقد خرجها في صحيحه للاستدلال بها على ما ذهب إليه، قال أبو بكر بن العربي المالكي: لا يعمل بالحديث مطلقًا.

الثاني: أنه يُعمل به مطلقًا، قال السيوطي: وعزا ذلك إلى أبي داود وأحمد؛ لأنهما يريان ذلك أقوى من رأي الرجال.

الثالث: يُعمل به في الفضائل بشروطه الآتية، وهذا هو المعتمد عند الأئمة، ثم ذكر أقوال العلماء في ذلك، وقد سبقت.

error: النص محمي !!