مذاهب العلماء فيما يفيده خبَر الآحاد
بعد انتشار هذا القول في الأمّة، اختلف العلماء فيما يُفيده خبر الآحاد، على ثلاثة أقوال:
الأول: أنه لا يفيد إلاّ الظّنّ:
وهؤلاء فريقان:
1. المعتزلة ومَن نهَج نهْجهم: يقولون: إنّه ظنٌّ، فلا يفِي علْمًا، ولا يوجب عملًا؛ ولذلك ردُّوه في العقائد والأحكام.
2. متكلِّمو الأشاعرة: يقولون: نعم، إنه ظنٌّ، ولكن يجوز العمل بالظّنّ الرَّاجح في الأحكام دون العقائد.
وحُجّة هذا المذهب: أنّك لو سُئلتَ عن أعدل رواة الآحاد، أيجوز في حقِّه الكذبُ والغلط؟ لاضطررت أن تقول: نعم. فيُقال: قطْعُك إذًا بصِدْقِه مع تجْويزك عليه الكذب والغلط، لا معنى له.
الثاني: أنّه يُفيد العلْم، ويوجب العمَل، إن كان الرُّواة عدولًا ضابطِين:
قال أبو محمد بن حزم: قال أبوسليمان الخطابي، والحسين بن على الكرابيسي، والحارث المحاسبيّ، وغيرهم: إن خبَر الواحد العدْل عن مِثْله إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم يوجب العلْم والعمل معًا؛ وبهذا نقول. وقد ذكر هذا القول: أحمد ابن إسحاق، المعروف بابن خويز منداد، عن مالك بن أنس”.
ثم شرَع بعد ذلك في ذِكْر البراهين على قبول السّلف لخبَر الواحد مِن الصحابة ومَن بعْدَهم. وأغلب ما ذكَر مِن الأدلة والبراهين -وهي مُهمّة ومفيدة- قد ذكرها الإمام الشافعيّ -رحمه الله- في: (الرسالة).
الثالث: التفصيل بأنه إذا احتفّت بخبر الواحد قرائنُ دالّة على صِدْقه، أفاد اليقينَ، وإلاّ أفاد الظّنّ
ومِن أمثلة ما احتفّت به القرائن: أحاديث (الصحيحين)؛ لأنّ القرائن دالّة على صِدْقها لجلالتهما في هذا الشّأن، وتقديمهما في تمْييز (الصحيحيْن) على غيرهما، وتَلَقِّي العلماء لكتابيْهما بالقبول؛ وهذا التّلقِّي وحْده أقوى في إفادة العلْم مِن مُجرّد كثْرة الطُّرق، كما قاله غير واحد. واختار هذا القول: ابنُ الحاجب، وإمام الحرميْن، والآمدي، والبيضاوي، وأبو العباس ابن تيمية -رحمهم الله-. وحمل بعضهم الرواية عن أحمد على ما قامت القرائن على صِدْقه خاصّة دون غيْره.
قال شيخ الإسلام ابن تيمية: وأمّا قول السائل:
إذا صحّ الحديث هل يكون صدقًا؟:
فجوابه: أنّ الصحيح أنواع:
فمِن الصحيح: ما تواتر لفْظُه:كحديث: ((مَن كَذَب عليَّ مُتعمِّدًا، فلْيتَبوَّأْ مقْعدَه مِن النّار)).
ومن الصحيح: ما تواتر معناه: كأحاديث الشّفاعة، وأحاديث الرُّؤية، وأحاديث نبْع الماء مِن بيْن أصابعه، وغير ذلك…
فهذا يفيد العلْم ويُجزَم بأنه صِدْق، لأنه متواتر، إمّا لفظًا وإمّا معنًى.
ومن الصحيح: ما تلقّاه المسلمون بالقبول، فعملوا به، كما عمِلوا بحديث الغرّة في الجنين: وكما عملوا بأحاديث الشّفعة، وأحاديث سجود السهو، ونحو ذلك… فهذا يُفيد العلْم ويُجزَم بأنه صِدْق؛ لأنّ الأمّة تلقَّتْه بالقبول تصديقًا وعملًا بموجبه؛ والأمّة لا تجتمع على ضلالة. فلو كان في نفس الأمْر كذِبًا، لكانت الأمّة قد اتّفقت على تصديق أهل الكذِب والعمل به، وهذا لا يجوز عليها.
ومِن الصحيح: ما تلقّاه بالقبول والتصديق أهلُ العلْم بالحديث: كجمهور أحاديث (الصحيحيْن).
جميع أهل العلْم بالحديث يجزِمون بصحّة جمهور أحاديث الكتابيْن، وسائر النّاس تبعًا لهم في معرفة الحديث. وإذا أجمع أهل العلْم على شيء، فسائر الأمّة تبَعٌ لهم؛ فإجماعهم معصوم، لا يجوز أن يُجمعوا على خطأ.
ومن الصحيح: ما اتّفق العلماء على صحّته: فهو مِثْل ما اتّفق عليه العلماء مِن الأحكام؛ وهذا لا يكون إلا صِدقًا. وجُمهور متون (الصّحيح) مِن هذا الضّرب، وعامّة هذه المتون تكون مرويّة عن النبي صلى الله عليه وسلم مِن عِدّة وجوه، رواها هذا الصاحب وهذا الصاحب، من غيْر أنْ يتواطأ؛ ومثل هذا يوجب العلم القطعيّ.
وممّا قد يُسمَّى صحيحًا: ما يُصحِّحه بعض علماء الحديث، وآخرون يخالفون في تصحيحه فيقولون: “هو ضعيف وليس بصحيح”: مثْل: ألفاظ رواها مسلم في صحيح ونازعه في صحّتها غيْره مِن أهل العلْم، إما مِثْله أو دونه أو فوقه؛ فهذا لا يُجزَم بصِدْقه إلاّ بدليل… انتهى مُلخَّصًا.
الخلاصة: أنّ السّلف مُجمعون على قبول خبَر الآحاد والعمَل به، دون تفريق بيْنه وبيْن غيْره؛ والأدلّة على هذا الأصل كثيرة جدًّا مِن الكتاب والسّنّة والإجماع. وهذا ما سنذكره فيما هو آتٍ.