Top
Image Alt

مذاهب العلماء في حجية قول الصحابي

  /  مذاهب العلماء في حجية قول الصحابي

مذاهب العلماء في حجية قول الصحابي

محل اتفاق العلماء في حجية قول الصحابة:

جرت عادة الأصوليين إذا أرادوا أن يذكروا مسألة خلافية أن يحرروا محل النزاع فيها، بمعنى: أن يذكروا الجزئيات التي هي محل اتفاق، ويضعوها جانبًا ثم يصلوا بعد ذلك إلى محل النزاع حتى ترد المذاهب والأدلة والمناقشات والترجيح على هذا المحل.

اتفق جمهور العلماء على أنه: إذا اتفق الصحابة رضي الله  عنهم على أمر من الأمور، فإن اتفاقهم هذا يكون إجماعًا وحجة شرعية في ذاته بلا خلاف بين القائلين بحجية الإجماع، لماذا؟ قالوا: لأنَّ الصحابة رضي الله  عنهم هم أحق الناس بذلك، يعني: بانعقاد الإجماع، فهذه هي الجزئية الأولى التي اتفق أهل العلم عليها.

إذن: تحرير محل النزاع في هذه المسألة بأسلوب أخصر وأوضح، هو: أنَّه لا خلاف بين العلماء في أنَّ الصحابة إذا اتفقوا على أمر من الأمور أنَّ هذا الاتفاق يكون إجماعًا.

الجزئية الثانية: اتفق العلماء على: أنه إذا قال الصحابي قولًا وافق به نصًّا من كتاب أو سنة، فليس قوله حجة بلا خلاف؛ لأن الحجة حينئذ إنما تكون في النص الوراد من الكتاب، أو من السنة.

من الأمثلة التي وافق فيها قول الصحابي نصًّا من السنة ما جاء في السنن أن عبد الله بن مسعود رضي الله  عنه سئل عن رجل تزوج امرأة فمات عنها، ولم يدخل بها وهذا الرجل قبل موته لم يفرض لهذه المرأة صداقًا، يعني: ما تكلم في أمر الصداق، ولا في أمر المهر، هو عقد عليها، وقبل الدخول بها مات، ولم يفرض لها صداقًا- فما تقول يا بن مسعود في هذه المسألة؟ وترددوا إليه كثيرًا، فقال رضي الله  عنه: أقول فيها برأيي.

ومتى ما سمعت كلمة “رأيي” وما اشتق منها: أقول فيها برأيي، أو أرى كذا، أو رأيت كذا، أو اجتمع رأيي ورأي فلان في كذا، متى ما سمعت مادة رأي، فافهم أن المسألة مسألة اجتهادية، وأن الذي سيتكلم فيها سيتكلم فيها برأيه واجتهاده، وليس عنده نص في المسألة، فعبد الله بن مسعود لم يحضره في مثل هذه الواقعة نص معين، لا من القرآن ولا من السنة، ولذلك لما تردد عليه الناس وسألوه قال: أقول فيها برأيي. يعني: اجتهد فإن يكن صوابًا فمن الله، وإن يكن خطأ قال: فمني ومن الشيطان، والله ورسوله بريئان منه، ثم قال: أقول فيها برأيي: لها الصداق كاملًا، وعليها العدة، ولها الميراث.

الجزئية الثالثة: اتفق العلماء على أنَّه إذا قال الصحابي قولًا، وثبت رجوعه عنه، فلا يكون ذلك القول حجة؛ لأنَّه صار برجوعه عنه أمرًا لا يعتد به.

من ذلك ما ثبت عن ابن عباس رضي الله  عنهما أنه قال بجواز نكاح المتعة، كان عبد الله بن عباس رضي الله  عنهما في أول الأمر يرى جواز نكاح المتعة، ثم رجع عن الإفتاء بذلك، لما ثبت له حديث النبي صلى الله عليه  وسلم الذي نهى فيه عن نكاح المتعة.

الجزئية الرابعة: وكذلك اتفقوا –أي: علماء الأصول- على أنه إذا قال الصحابي المجتهد قولًا وخالفه صحابي مجتهد مثله لا خلاف في أنه لا يكون قول هذا الصحابي حجة على الصحابي الآخر المجتهد. ولا فرق في ذلك بين أن يكون هذا الصحابي إمامًا أو حاكمًا أو مفتيًا.

ومن الأمثلة: أبو بكر رضي الله  عنه كان يسوي في العطاء بين الناس، وعمر ما كان يسوي في العطاء بين الناس، بل كان يعطي صاحب السبق في الإسلام أكثر من غيره، فهذه مسألة اختلفوا فيها، فأبو بكر له وجهة نظر، وعمر له وجهة نظر، وهذا ابن عباس وابن مسعود يخالفون بعض الصحابة، أو معظم الصحابة في مسائل في الميراث، وفي الفرائض، انفردوا بها، ولم ينكر واحد منهم على الآخر.

إذن الشاهد أنَّ الصحابي المجتهد إذا قال قولًا وخالفه صحابي مجتهد مثله، لم يكن قول أحدهما حجة على الآخر.

ولهذا استنبط العلماء قاعدة فقهية جديرة بالذكر، وهي أن الاجتهاد لا ينقض بالاجتهاد.

محل النزاع في حجية قول الصحابة:

إذن أين محل الخلاف بعدما حررنا جزئيات الاتفاق؟ نقول: إنَّما الخلاف بين العلماء في قول الصحابي الذي لم يخالفه غيره من الصحابة، هذا هو محل الخلاف أو محل النزاع الذي ينبغي أن ندرسه دراسة جيدة، وهذا المحل يمكن تقسيمه إلى ثلاثة أقسام:

القسم الأول: قول الصحابي إذا اشتهر بين جميع الصحابة ولم ينكروه، وصورة هذه المسألة -أو صورة هذا النوع من أقوال الصحابة- أن يقول الواحد من الصحابة أو أكثر من الواحد كالاثنين أو الثلاثة قولًا، ويشتهر ذلك القول في بقية الصحابة، ولا يظهر منهم موافقة، أو إنكار لذلك القول الذي قاله الصحابي.

القسم الثاني: قول الصحابي إذا اطلع عليه غيره ولم يُعْلَم انتشاره بينهم جميعًا، وهذا النوع من أقوال الصحابة رضي الله  عنهم أقل منزلة من النوع الذي قبله، وذلك لعدم اشتهاره بين الجميع.

القسم الثالث: قول الصحابي الذي لم يشتهر في الصحابة، ولم يخالف غيره، وهذا النوع من أقوال الصحابة هو الذي وقع فيه الخلاف الكبير بين الأصوليين في كونه حجة أو ليس بحجة.

قول الصحابي الذي لم يشتهر في الصحابة، ولم يُعلم له مخالف:

اختلف الأصوليون في قول الصحابي الذي لم يشتهر في الصحابة، ولم يعلم له مخالف، اختلفوا فيه من حيث الحجية على مذاهب.

أما المذهب الأول: فقالوا: إنَّ قول الصحابي الذي لم يشتهر في الصحابة ولم يعلم له مخالف حجة مطلقًا، يعني: في ما تعم به البلوى، وفيما لا تعم به البلوى، هذا المذهب الأول في المسألة: أنَّ قول الصحابي حجة مطلقًا، وهذا المذهب هو مذهب الإمام مالك وجمهور أصحابه ومذهب جمهور أهل الحديث، ومذهب الإمام أبي حنيفة، وإليه ميل أكثر أصحابه، منهم محمد بن الحسن، وأبو يوسف رحمهما الله تعالى وهو رواية مشهورة عن الإمام أحمد بن حنبل -رحمه الله.

أما المذهب الثاني في المسألة: وهو مذهب القائلين بأن قول الصحابي ليس حجة مطلقًا وافق القياس أو خالفه، والقول بعدم حجية أقوال الصحابة هو مذهب جمهور الأصوليين، واختاره الشيخ الغزالي -رحمه الله- في كتابه (المستصفى) واختاره الرازي وأتباعه، وهو اختيار الآمدي وابن الحاجب وصححه الشيرازي -رحمه الله- في كتابه (اللمع) واختاره الشوكاني -رحمه الله- وجعله مذهبًا لجمهور العلماء.

وهذا المذهب أعني: مذهب أن قول الصحابي ليس بحجة مطلقًا، هو مذهب ابن حزم الظاهري -رحمه الله- وذلك بناء على أنه لا يجيز تقليد أحد لا من الصحابة ولا من غيرهم، وهذا المذهب أيضًا أومأ إليه الإمام أحمد بن حنبل -رحمه الله- فجعل ذلك رواية ثانية عنه واختاره أبو الخطاب الحنبلي من أصحاب الإمام أحمد، رحم الله الجميع.

المذهب الثالث وهو: أن قول الصحابي حجة إذا خالف القياس، وهو مذهب فريق من الأصوليين وذهبوا إلى أنَّ: قول الصحابي أو مذهب الصحابي أو رأي الصحابي أو فتوى الصحابي يكون حجة إذا خالف القياس، ويعنون بمخالفته للقياس -وهذه الجزئية دقيقة لا بد أن تعوها، وليس المراد بالقياس القياس المشهور الذي هو مساواة فرع لأصل في علة الحكم- إنَّما يعنون: بمخالفة قول الصحابي للقياس أن مذهبه قد اشتمل أحكامًا لا يستقل العقل بإداركها، يعني: قول الصحابي أو رأيه أو مذهبه أو فتواه يكون في واقعة أو حادثة أو قضية العقل ليس له قدرة على أن يستقل بالحكم فيها، بمعنى آخر يعني: لا مجال للرأي فيها، هذا المراد بمخالفة القياس.

أما المذهب الرابع: في مسألتنا هذه -أعني: قول الصحابي الذي لم ينتشر ولم يعلم له مخالف من الصحابة: فأصحاب هذا المذهب يرون أنَّ الحجة في قول الخلفاء الأربعة فقط، أعني: أبا بكر وعمر وعثمان وعلي رضي الله  عنهم فهؤلاء يرون أنَّ الحجة تكون في قول الخلفاء الأربعة فقط، ومن عداهم لا يكون قوله حجة هذا المذهب الرابع في مسألتنا.

أما المذهب الخامس: فيرى أصحابه: أنَّ الحجة في قول الشيخين؛ أبي بكر وعمر رضي الله  عنهما دون غيرهما.

وقلت لكم قبل ذلك -عند كلامنا عن الإجماع- أن المراد بالشيخين: أبو بكر وعمر رضي الله  عنهما وعلى هذا ذهب فريق من الأصوليين فقالوا: إنَّ الحجة من أقوال الصحابة إنما هي في قول الشيخين أبي بكر وعمر رضي الله  عنهما دون غيرهما من الصحابة، فاتفاق الشيخين على حكم شرعي يعتبر حجة ملحقة بالسنة، ولا يعتبر قول الآخرين من الصحابة حجة.

أدلة من قال بحجية قول الصحابي مطلقًا:

إذا تقررت المذاهب على هذا النحو فلنشرع الآن في ذكر أدلة كل مذهب فنقول -والله تعالى المستعان:

أما من قال: إنَّ قول الصحابي حجة مطلقًا، وهم أصحاب المذهب الأول فقد استدلوا على مذهبهم بالكتاب، والسنة، والآثار، والإجماع، والمعقول، استدلوا بأدلة كثيرة جدًّا نأخذ من هذه الأدلة اليسير، ومن اليسير السهل.

أما استدلالهم بالكتاب فآيات كثيرة، منها:

قول الله تعالى كما في سورة آل عمران: {كُنْتُمْ خَيْرَ أُمّةٍ أُخْرِجَتْ لِلنّاسِ تَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَتَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنْكَرِ} [آل عمران: 110] .

وقول الله تعالى كما في سورة الفتح: {لّقَدْ رَضِيَ اللّهُ عَنِ الْمُؤْمِنِينَ إِذْ يُبَايِعُونَكَ تَحْتَ الشّجَرَةِ} [الفتح: 18] فهذا ثناء من الله عز وجل على الصحابة رضي الله  عنهم الذين كانوا يبايعون النبي صلى الله عليه  وسلم تحت الشجرة.

ومن ذلك قول الله تعالى كما في سورة التوبة: {وَالسّابِقُونَ الأوّلُونَ مِنَ الْمُهَاجِرِينَ وَالأنْصَارِ وَالّذِينَ اتّبَعُوهُم بِإِحْسَانٍ رضي الله  عنهم وَرَضُواْ عَنْهُ} [التوبة: 100] فهذه الآية كذلك فيها ثناء من الله على الصحابة، وفيها بيان رضا الله على الصحابة رضي الله  عنهم.

أما الاستدلال بالسنة على ذلك فأحاديث كثيرة، منها:

قول الرسول صلى الله عليه  وسلم: ((أصحابي كالنجوم بأيهم اقتديتم اهتديتم)) والحديث تكلم العلماء فيه كثيرًا وحكموا بضعفه، بل قال بعضهم: إنَّه موضوع، وجه الاستدلال منه على حجية قول الصحابي: أنَّ النبي صلى الله عليه  وسلم جعل الاهتداء لازمًا للاقتداء ((بأيهم اقتديتم اهتديتم)) فيلزم من الاقتداء بهم الاهتداء.

ولنا أن نستعيض عن هذا الحديث الضعيف بحديث آخر نستدل به على حجية قول الصحابي إذا لم ينتشر ولم يعلم له مخالف من الصحابة، هذا الحديث ما ثبت عن النبي صلى الله عليه  وسلم في الصحيح من وجوه متعددة، أنَّه قال: ((خير القرون القرن الذي بعثت فيه، ثم الذي يلونهم ثم الذي يلونهم)) ووجه الاستدلال من الحديث على ما قرره علماء الأصول أن النبي صلى الله عليه  وسلم أخبر أن ((خير القرون قرني)) مطلقًا، وذلك يقتضي تقديم هذا القرن، ومن فيه في كل باب من أبواب الخير، إلى هذا الحد نكون قد استدللنا واستشهدنا على حجية قول الصحابة بالسنة.

وأما الاستدلال بآثار الصحابة والتابعين رضي الله  عنهم على حجية قول الصحابي الذي لم ينتشر ولم يعلم له مخالف في الصحابة ما يلي:

روي عن ابن مسعود رضي الله  عنه مخاطبًا أهل زمانه أنَّه قال: من كان منكم متأسيًا فليتأسَّ بأصحاب رسول الله صلى الله عليه  وسلم، فإنهم كانوا أبرَّ هذه الأمة قلوبًا، وانظر إلى الحيثيات التي يذكرها ابن مسعود حينما يأمر الناس أن يتأسوا بأصحاب رسول الله صلى الله عليه  وسلم: من كان منكم متأسيًا فليتأسَّ بأصحاب رسول الله صلى الله عليه  وسلم، فكل الأمة مأمورة أن تتأسى بالرسول، والأمة أيضًا مأمورة أن تتأسى بأصحاب رسول الله صلى الله عليه  وسلم وسبب ذلك كما يقول ابن مسعود: فإنَّهم كانوا أبر هذه الأمة قلوبًا، قلوبهم بررة، وأعمقها علمًا، يعني: قلوب الصحابة مملوءة بالعلم، فهم عاصروا النبي صلى الله عليه  وسلم وشاهدوا التنزيل، وهم أعرف بالتأويل، وأعرف بمقاصد الشريعة، وأعرف بسبب ورود الحديث، وعندهم من المؤهلات والملكات والفقه ما يجعلهم أكثر من غيرهم في فهم نصوص التشريع، واستنباط الأحكام منها.

من الآثار كذلك التي تدل على أنَّ قول الصحابة حجة: ما روي عن حذيفة بن اليمان رضي الله  عنه أنَّه قال: يا معشر القراء خذوا طريق من كان قبلكم، فوالله لإن استقمتم لقد سبقتم سبقًا بعيدًا، ولئن تركتموهم يمينًا وشمالًا لقد ضللتم ضلالًا بعيدًا.

فهذا حذيفة بن اليمان يحث القراء وأهل العلم على أن يقتدوا بالصحابة رضي الله  عنهم وأن في الاقتداء بهم الخير الكثير، وأن في البعد عنهم -والعياذ بالله- الضلال البعيد. وبهذا نكتفي من الآثار التي تدل على حجية الصحابة.

ولننتقل الآن إلى الدليل من الإجماع: على حجية قول الصحابة، كما يقول أصحاب المذهب الأول، وأما استدلالهم بالإجماع فتقريره: أن عبد الرحمن بن عوف رضي الله  عنه بايع عليًّا -كرم الله وجهه- بالخلافة على شرط، عبد الرحمن بن عوف لما أراد أن يبايع عليًّا كرم الله وجهه بالخلافة اشترط عليه شرطًا، ما هذا الشرط؟ الاقتداء بالشيخين -يعني: أبا بكر وعمر- بعدما ذكر الكتاب والسنة -يعني: عبد الرحمن بن عوف- قال: أبايعك يا عليُّ على أن تقتدي بالكتاب والسنة، وتقتدي بالشيخين: أبي بكر وعمر رضي الله  عنهما يعني: بمنهجهما. فلم يقبل علي كرم الله وجهه.

وهذا لا يعني أن عليًّا ما يريد أن يقتدي بأبي بكر وعمر، وإنما لعل عليًّا كرم الله وجهه يرى أن اجتهاد أبا بكر وعمر في المسائل التي لا نص فيها قد يصيب وقد يخطئ، وعلي بلغ من الاجتهاد مبلغًا يجعله يستطيع أن يتوصل إلى الحكم الشرعي دون الاقتداء.

فهذا يدل على أنَّ مذهبي أبي بكر وعمر حجة؛ ومن ثم فيكون مذهب غيرهما من الصحابة حجة لا فرق -حينئذٍ- بين أبي بكر وعمر، وبين غيرهم من الصحابة رضي الله  عنهم هذا الدليل من الإجماع على أن قول الصحابي إذا لم ينتشر ولم يعلم له مخالف يكون حجة.

والاستدلال بالمعقول على أن قول الصحابة حجة من وجوه:

الوجه الأول: أنَّ قول الصحابي إذا انتشر ولم ينكر عليه منكر كان حجة، فكان حجة أيضًا مع عدم الانتشار، كقول الرسول صلى الله عليه  وسلم.

الوجه الثاني: قالوا: إنَّ مذهب الصحابي إما أن يكون عن نقل أو عن اجتهاد.

الوجه الثالث: من الاستدلال بالمعقول: أن من أمعن النظر في كتب الآثار، وجد التابعين يقتفون آثار الصحابة رضي الله  عنهم ويحتجون بها فيما ليس فيه كتاب ولا سنة، ولا إجماع.

أدلة من قال بعدم حجية قول الصحابي مطلقًا:

والآن ننتقل إلى أدلة القائلين بأن قول الصحابي ليس بحجة مطلقًا وافق القياس أم لم يوافقه، وقد استدلَّ أصحاب هذا المذهب الثاني الذين يرون أن قول الصحابي ليس حجة مطلقة بالكتاب أيضًا، وبالسنة، وبالإجماع، وبالمعقول.

أما استدلالهم بالكتاب: فآيات منها: قول الله تعالى كما في سورة الحشر قول الله تعالى: {فَاعْتَبِرُواْ يَأُوْلِي الأبْصَارِ} أمر بالاعتبار، والاعتبار هو القياس، والاجتهاد فيما لا نص فيه، والأخذ بقول الصحابي تقليد، وليس اجتهاد، والتقليد هو الأخذ بقول الغير من غير دليل، فيكون الأخذ بقول الصحابي ليس اجتهادًا، والآية تأمرنا بالاجتهاد، والأمر يقتضي الوجوب، هذا الدليل الأول لأصحاب المذهب الثاني على: أن قول الصحابي ليس بحجة.

الدليل الثاني من القرآن أيضًا قول الله تعالى كما في سورة النساء: {فَرُدّوهُ إِلَى اللّهِ وَالرّسُولِ}  [النساء: 59] وحاصل هذه الآية -بمنطوقها- أن كل مسألة تنازعتم في حكمها فردوها إلى الله -يعني: إلى كتاب الله- وإلى الرسول -يعني: إلى سنة الرسول صلى الله عليه  وسلم- ولا تردوها إلى قول الصحابي، ولا قول غيره.

وهذا حاصل الدليل الثاني على: أن قول الصحابي ليس بحجة، وهو أن الله أمر عند التنازع بالرد إلى الكتاب وإلى السنة، لا إلى قول الصحابي. وهذا يعني: أن قول الصحابي ليس حجة، ولا دليلًا.

أما استدلال أصحاب المذهب الثاني من السنة على: أن قول الصحابي ليس بحجة، فقد استدلوا بحديث معاذ بن جبل، المحفوظ لكم جميعًا. حينما بعثه النبي صلى الله عليه  وسلم قاضيًا إلى اليمن، وقال له: ((كيف تقضي إذا عرض لك قضاء؟ قال: أقضي بما في كتاب الله؟ قال: فإن لم يكن في كتاب الله؟ قال: فبسنة رسول الله، صلى الله عليه  وسلم. قال: فإن لم يكن في سنة رسول الله صلى الله عليه  وسلم؟ قال: أجتهد رأيي ولا آلو -أي: لا أقصر- قال: فضرب رسول الله صلى الله عليه  وسلم صدري ثم قال: الحمد لله الذي وفق رسول رسول الله لما يرضي الله ورسوله)) ووجه الاستدل من الحديث هو: أن معاذًا رضي الله  عنه لم يذكر قول الصحابي ولا مذهب الصحابي كمصدر ودليل عند معرفة حكم الشرعي.

أما استدلالهم من الإجماع على أن قول الصحابي ليس بحجة، فحاصله: أنَّه قد أجمعت الصحابة على جواز مخالفة كل واحد من آحاد الصحابة المجتهدين للآخر، الصحابة جوزوا هذا، فجوزوا لأبي بكر أن يخالف باقي الصحابة، وجوزوا لعمر أن يخالف أبا بكر، هذا أمر سائغ وجائز وموجود.

ولذلك استفاد العلماء بعد ذلك لما قعَّدوا القواعد وقرروا الأدلة الإجمالية: أن المجتهد يحرم عليه أن يقلد مجتهد غيره؛ لأنَّ حكم الله في المسألة هو ما وصل إليه المجتهد باجتهاده، فلو كان مذهب الصحابي حجة كما يقول أصحاب المذهب الثاني لما جاز مخالفته، وكان يجب على كل واحد منهم اتباع الآخر، وهذا محال، ولم يوجد، ولم يقع، بل الواقع جواز مخالفة كل واحد من آحاد الصحابة المجتهدين للآخر.

أما الدليل من المعقول على أن قول الصحابي ليس بحجة فمن وجوه أيضًا:

لو كان مذهب الصحابي حجة للزم من ذلك أن تكون حجج الله تعالى متناقضة، ولم يكن اتباع التابع للبعض أولى من اتباع الآخر، لاختلاف الصحابة ومناقضة بعضهم بعضًا، وعليه فقول الصحابي لا يكون حجة إذ لو كان حجة للزم من ذلك أن تكون حجج الله تعالى متناقضة، ولم يكن اتباع التابع للبعض أولى من اتباع الآخر لاختلاف الصحابة، ومناقضة بعضهم بعضًا، كما وجد ذلك في مسائل كثيرة تباينت فيها أقوالهم.

فبعض الصحابة كان يرى: الجد حاجبًا للإخوة، وبعضهم يرى: أن الجد يقاسم الإخوة، وبعضهم يرى: تشريك الجد مع الإخوة.

إذن كلمة الصحابة لم تتفق في مسألة الجد مع الإخوة، فلو كان قول الصحابي حجة لأدى ذلك إلى أن تكون الحجج متعارضة، ومتناقضة، ومتضاربة، وهذا لم يقل به أحد، ولا هو موجود في الشريعة.

وكذلك اختلفوا في نحو قول القائل لزوجته: أنت علي حرام، فبعضهم يرى: أنه طلاق، وبعضهم يرى: أنه ظِهار، وبعضهم يرى: أنه يمين، وبعضهم يرى: أنه كلام لغو، لا قيمة له.

إذن الآن اختلفت كلمة الصحابة، وأقوال الصحابة في مثل هذه المسألة، وعليه فلا يكون قول الصحابي حجة، وإلا تعارضت وتناقضت حجج الله تعالى في المسائل الفرعية.

هذه أهم أدلة النافين لحجية قول الصحابة مطلقًًا، وغالب هذه الأدلة لم يسلم من الاعتراض والمناقشة، كأدلة المثبتين لحجية قول الصحابي.

أدلة أصحاب المذهب الثالث:

إنَّ الحجة في قول الخلفاء الأربعة رضي الله  عنهم فقط، الخلفاء الأربعة: أبو بكر، وعمر، وعثمان، وعلي رضي الله  عنهم.

استدلوا على ذلك بقوله صلى الله عليه  وسلم فيما رواه أبو داود في سننه، والترمذي، وابن ماجه، والإمام أحمد في (المسند) عن العرباض بن سارية رضي الله  عنه أنَّ النبي صلى الله عليه  وسلم قال: ((عليكم بسنتي، وسنة الخلفاء الراشدين من بعدي)) إذن: دليل أصحاب المذهب الثالث دليل من السنة، وهو قوله صلى الله عليه  وسلم فيما رواه أبو داود، والترمذي، وابن ماجه، والإمام أحمد أنَّ النبي صلى الله عليه  وسلم قال: ((عليكم بسنتي وسنة الخلفاء الراشدين من بعدي)) وفي رواية: ((عليكم بسنتي، وسنة الخلفاء الراشدين المهديين، تمسكوا بها، وعضوا عليها بالنواجذ، وإياكم ومحدثات الأمور، فإن كل محدثة بدعة، وكل بدعة ضلالة)).

ووجه الاستدلال من هذا الحديث أنَّ النبي صلى الله عليه  وسلم أمر باتباع سنته في قوله: ((عليكم بسنتي)) وأمر باتباع سنة الخلفاء -أبي بكر، وعمر، وعثمان، وعلي- في قوله: ((وسنة الخلفاء الراشدين من بعدي)) والأمر المطلق يقتضي الوجوب، وهذا كلام قد أشرنا إليه مرارًا، أمر الشارع إذا ورد مطلقًا، أو مجردًا عن قرينة يقتضي الوجوب، والأمر في هذا الحديث أمر مطلق، ومقيد، ومجرد عن قرينه، فيقتضي ماذا؟ يقتضي الوجوب، وعليه فاتباع الرسول صلى الله عليه  وسلم واتباع الخلفاء الأربعة، واتباع أقوالهم واجب، لا يجوز تركه؛ فيكون قولهم حجة.

وقد اعترض بعض أهل العلم على الاستدلال بهذا الحديث في أنَّ النصوص الواردة في حجية أقوال الصحابة رضي الله  عنهم التي استدل بها أصحاب المذهب الأول عامة، تشمل الخلفاء الراشدين، وتشمل غيرهم؛ وأما تخصيص الخلفاء الراشدين بالاتباع فلعل المراد اتباع سيرة الخلفاء الراشدين، وهدي الخلفاء الراشدين، وليس المراد قولهم في المسائل الاجتهادية، هذا دليل أصحاب المذهب الثالث على أن الحجة في قول الخلفاء الأربعة رضي الله  عنهم.

المذهب الرابع: أنَّ الحجة في قول الشيخين: أبي بكر، وعمر دون غيرهما، فقد استدلوا على ذلك بحديث أخرجه الترمذي في سننه، والحاكم في (المستدرك) والإمام أحمد في (المسند) عن حذيفة مرفوعًا أن النبي صلى الله عليه  وسلم قال: ((اقتدوا باللذين من بعدي: أبي بكر، وعمر)).

ووجه الاستدلال من هذا الحديث أنَّ النبي صلى الله عليه  وسلم قد أمر بالاقتداء بأبي بكر، وعمر، والأمر مطلق، والأمر المطلق ماذا يقتضي؟ يقتضي الوجوب؛ فالاقتداء بهما حينئذ يكون واجبًا.

وهذا الأمر عام لأقوالهما وأفعالهما، وعليه فيكون قول أبي بكر، وقول عمر حجة، وهذا هو المتبع.

إذن الحديث العمدة في هذا الباب هو حديث: ((اقتدوا باللذين من بعدي)) وهناك أحاديث أُخر، و((اقتدوا)) -كما قلت لكم- فعل أمر، وهو أمر بالاقتداء بكل واحد منهما إذا انفرد، والأمر هنا للوجوب، فيجب على من بعدهما اتباع قولهما، ومذهبهما.

ومن الأحاديث التي استدل بها أ صحاب المذهب أيضًا، ما رواه مسلم في صحيحه أنَّ النبي صلى الله عليه  وسلم قال: ((إن يطع القوم أبا بكر وعمر يرشدوا، إن يطع القوم أبا بكر وعمر يرشدوا)) أو كما قال صلى الله عليه  وسلم.

ووجه الدلالة من هذا الحديث أنَّ النبي صلى الله عليه  وسلم جعل الرشد معلقًًا بطاعة أبي بكر وعمر، فلو أفتوا بالخطأ في حكم وأصابه من بعدهم، لكان الرشد في خلافهما، وهذا خلاف الحديث، فالحديث فيه دلالة على أن الرشد مرتبط بطاعة أبي بكر وعمر رضي الله  عنهما.

بيان المذهب الراجح:

إنَّ أقوال الصحابة رضي الله  عنهم لها منزلة، لا تصل إليها منزلة أقوال غيرهم من المجتهدين، هذا الذي نستطيع أن نقرره، لماذا؟ لأنَّ العلماء قد استدلوا بأقوالهم، وأفعالهم على حجية أصول أخرى: كالقياس، والمصلحة، والاستحسان، وغير ذلك، بل التابعين رضي الله  عنهم كانوا يأخذون بأقوال الصحابة، فإذا ما عثروا على قول من أقوال الصحابة في مسألة تمسكوا به، وهذا إن دل على شيء فإنما يدل على أن أقوال الصحابة حجج، ويصلح الاعتماد عليها في إثبات الأحكام الشرعية.

إذا كان الأمر كذلك، فلنا أن نقول: إن أقوال الصحابة رضي الله  عنهم قد تصلح للاحتجاج، وتبنى عليها الأحكام الشرعية، هذا الذي نراه، وهذا الذي رآه جمع كبير من أهل العلم، منهم ابن القيم -رحمه الله- وهذا الذي نشمه من كلام ابن قدامة في (روضة الناظر) حيث جعل أقوال الصحابة رضي الله  عنهم صالحة للاحتجاج.

error: النص محمي !!