Top
Image Alt

مذهب عمر بن الخطاب رضي الله عنه في نقد الشعر

  /  مذهب عمر بن الخطاب رضي الله عنه في نقد الشعر

مذهب عمر بن الخطاب رضي الله عنه في نقد الشعر

يعتبر مذهب ابن الخطاب في نقد الشعر الجاهلي طرازًا جديدًا يظهر لأول مرة في النقد العربي؛ لأنه قرر مبدأين مهمين في صناعة الشعر:

الأول: الحذق في الصناعة الشعرية، وذلك يتناول الشكل.

الثاني: الصدق في الوصف بحيث لا يجانب المنطق، وهذا يتعلق بالمضمون.

ويستشهد الدكتور عبد الرحمن بالرواية التي سبق أن ذكرناها، فقد روي عن ابن عباس: “قال لي عمر بن الخطاب رضي الله عنه: أنشدني لأشعر شعرائكم، قلت: من هو يا أمير المؤمنين؟ قال: زهير، قلت: ولم كان كذلك؟ قال: كان لا يعاظل بين الكلام، ولا يتبع حوشيه، ولا يمدح الرجل إلا بما فيه”.

فوصفه لزهير بأنه كان لا يعاظل بين الكلام؛ أي: لا يسلك الأساليب الملتوية والغامضة في بناء كلامه وأساليبه، وإنما كانت أساليبه مستقيمة، وصياغته صحيحة وواضحة.

ولا يتبع حوشيه؛ أي: لا يتعمد أن يأتي بالألفاظ الغامضة الغريبة، وذلك كله متعلق بالصياغة والتعبير والشكل.

أما قوله: ولا يمدح الرجل إلا بما فيه، فهو منصرف إلى المضمون، وهذه الجملة تعلي من شأن الصدق؛ صدق النفس والصدق الواقعي في الأدب، وهذه الرواية التي استفاضت في أمهات المراجع الأدبية تضع ابن الخطاب في الصدارة حين يذكر النقاد من العرب؛ لأنه وضع الأساس الذي قام عليه النقد العربي في أغلب صوره حتى عصر عبد القاهر الجرجاني، حين تحدث في (دلائل الإعجاز) عن النظرة الجمالية في الشعر.

وإعجاب عمر بالحذق في الصناعة الشعرية عند زهير بن أبي سلمى، يجعله لا محالة معجبًا بصياغة الشاعر الحطيئة وحوكه القريض؛ لأنه تلميذ زهير وراوية شعره، غير أن إعجابه بحكيم العرب زهير بن أبي سلمى من حيث صدقه وأمانته في محاكاة الصفات التي يؤلفها للموضوع الشعري، باعتبارها صفات غير غريبة أو منتحلة، يجعل عمر كذلك منصرفًا بعض الشيء عن شعر الحطيئة.

ولكنه انصراف فيه تلفت إلى حذق الصناعة الشعرية، وفيه كثير من الإعجاب ببراعة الحطيئة وأناته الحاذقة في تقويم قريضه، وذلك شأن الناقد الذوّاقة حين ينظر إلى فن شاعر، جمع في نتاجه قبحًا إلى حسن كثير.

إذًا كان عمر مدركًا لجمال الصياغة عند الحطيئة، وعند غيره من الشعراء الهجّائين، ولكن موقفه منهم وهو يعاقبهم كان موقف الراعي أو الحاكم أمير المؤمنين، الذي يحافظ على القيم الخُلُقية في المجتمع، ويعاقب من يتعدى حدوده فيهجو غيره كما فعل مع الحطيئة، وكما فعل مع النجاشي حينما هجا بني العجلان.

واستئناس عمر برأي حسان بن ثابت لكي يكون حكمه غير مطعون فيه؛ لأنه يستأنس برأي شاعر لا مجال للاعتراض على حكمه، وهذا الأساس الذي بنى عليه عمر رضي الله عنه نقده للشعر، وهو المتمثل في البراعة الفنية والحذق في الصناعة، والبعد عن التعقيد الذي يتداخل به الكلام فتخفى مسالكه، مع التزام الشاعر جانب الصدق في واقع الناس والحياة، هذا الأساس هو المثال في العدل الذي اتخذه عمر بن الخطاب رضي الله عنه مقياسًا يُثيب عليه الشعراء من بيت مال المسلمين إذا هم التزموا به؛ فقد أنشده عبد بني الحساس قوله:

عميرة ودع إن تجهزت غاديا

*كفى الشيب، والإسلام للمرء ناهيا
 

فقال له: “لو قلت شعرك مثل هذا؛ لأعطيتك عليه”.

إذًا عمر يشجع عبد بني الحساس على أن يكون ملتزمًا بالجانب الخلقي في الشعر؛ لأنه قال: “كفى الشيب والإسلام للمرء ناهيًا” أي: ناهيًا له عن المجون وهو الإسراف في الغزل الفاحش والكلام الماجن، قال له: “لو قلت شعرك مثل هذا؛ لأعطيتك عليه” أي: لأثبتك عليه من بيت مال المسلمين.

لكن هذا الشاعر نفسه قال:

وبتنا وسادانا إلى علجانة

*وحقف تهاده الرياح تهاديا

وهبت شمالًا آخر الليل قرة
 
*ولا ثوب إلا درعها وردائيا
 
فما زال بردي طيبًا من ردائها
 
*إلى الحول، حتى أنهج البرد باليا
 

فقال ابن الخطاب: “ويلك، إنك مقتول!”.

ويقول الدكتور عبد الرحمن عثمان: “وعمر في تعليقه على مطلع القصيدة راضٍ كل الرضا على النهج الشعري، حتى إنه أراد أن يعطي عليه العطاء الجزيل.

وفي تعليقه على الأبيات راضٍ كل الرضا على السهولة والجمال، الذي يلوح في رقة الشعر وعذوبته؛ ولهذا كان تعليقه على هذا السحر الحلال: ويلك، وهي كلمة على ما تتضمن من إشفاق وزجر، تتضمن أيضًا قبولًا لهذا المنهج السمح، الذي وجده في شاعر مسلم تعلق في صدر قصيدته بالإسلام، ثم مضى فيها خاليًا إلى نفسه وذكرياته الحلوة في غير فحش، أو مع فحش من تهاويل الخيال”.

هكذا يشرح الأستاذ الدكتور عبد الرحمن عثمان -عليه رحمة الله- مذهب عمر بن الخطاب رضي الله عنه في نقد الشعر، وتوجيهه وتقويمه، وهو منهج ينظر إلى البراعة الفنية، والجودة في الصياغة والتصوير، وينظر أيضًا إلى المضمون الذي يتضمنه الشعر، وعمر كان حريصًا على أن يكون هذا المضمون متمشِّيًا مع قيم الإسلام متفقًا معها، ملتزمًا للصدق بعيدًا عن الفحش، وبعيدًا عن الهجاء الفاحش والغزل الماجن، وهو مع ذلك يتسامح مع الشعراء ويعتذر عنهم، ويؤوّل كلامهم على المحمل الذي يجعله مقبولًا مهما وجد إلى ذلك سبيلًا، وهو بذلك يدلل على سعة أفق، وسماحة نفس، وبصر عالٍ بالكلام.

وكما كان عمر بن الخطاب رضي الله عنه ناقدًا كبيرًا بهذه الخطورة، وبهذا الفهم الذي سبق بيانه، وكما كان عبد الله بن عباس رضي الله عنهما عالمًا بالشعر، يستعين به على تفسير القرآن الكريم -كان علي بن أبي طالب رضي الله عنه كذلك ذا نظرة فاحصة، ورأي سديد في تفضيل شعر على شعر، فقد اختصم الناس ليلة حتى ارتفعت أصواتهم في أشعر الناس، فقال: كل شعرائكم محسن، ولو جمعهم زمان واحد وغاية واحدة ومذهب واحد في القول لعلمنا أيهم أسبق إلى ذلك، وكلهم قد أصاب الذي أراد وأحسن فيه، وإن يكن أحدهم قد فضلهم، فالذي لم يقل رغبة ولا رهبة امرؤ القيس بن حجر؛ فإنه كان أصحهم بادرة وأجودهم نادرة.

وبهذا يتبين لنا أن الرسول صلى الله عليه وسلموأصحابه الكرام وجّهوا النقد الأدبي في عصر صدر الإسلام، ووسّعوا من مجراه، فكان لهذا العصر فضل كبير على النقد الأدبي.

error: النص محمي !!