Top
Image Alt

مرابحة الآمر بالشراء

  /  مرابحة الآمر بالشراء

مرابحة الآمر بالشراء

في العصر الحديث أصبح بعض الناس، بل وبعض المصارف خصوصًا المصارف الإسلامية، تلجأ إلى ما يعرف “بمرابحة الآمر بالشراء”.

مرابحة الآمر بالشراء: هي أن يأمر شخصٌ شخصًا آخر بشراءِ سلعةٍ معينة بالتعيين أو بالوصف، ويقوم هذا الشخص الآخر بشرائها، وهو يشتريها منه، ويربحه فيها.

مثلًا: أنا أريد أن اشتري بيتًا فآتي إلى (س) من الناس، وأقول له: أطلب منك أن تشتري سلعةً معينة، كهذا البيت، أو أريد بيتًا من طابقين وفيه حديقة، أو فيه كذا وفيه كذا، وأنا اشتري ذلك منك، وأربحك فيه عشرة في المائة، أو خمسة في المائة، والواقع أن هذه الصورة يحتاج إليها الناس، وفيها نفس الغرض من المرابحة في بيوع الأمانات، يعني: يحتاج من لا خبرة له إلى من كانت لديه الخبرة.

لقد قلنا في بيع المرابحة: أن الناس يتفاوتون في ذكائهم، وخبراتهم، ونتيجة لهذا التفاوت يحتاج من قلَّ ذكاؤه الاستعانة بشخص نابهِ الذكاء، واستعان عديم الخبرة بالخبير.

ومن صور هذه الاستعانة، أن يأمره بشراء ما هو بحاجة إليه، ثم يشتريه منه ويربحه فيه، يقول: اشترِ هذه السيارة، وأنا أشتريها منك وأربحك فيها عشرة في المائة، خمسة في المائة… إلخ؛ ولذلك كانت مرابحة الآمر بالشراء معاملة قديمة عرفها فقهاؤنا القدامى، وأشاروا إليها في مصادرهم، هذا خلاف ما لو احتجت لسلعة وقلت لك: اشترِ لي هذه السلعة وأربحك كذا؛ فهذه وكالة.

إذًا مرابحة الآمر بالشراء، ليست على صورة واحدة، إنما هي عدة صور، وكل صورة تقريبًا لها حكم من الأحكام.

صور مرابحة الآمر بالشراء:

الصورة الأولى: أن يطلب شخص من الآخر شراء سلعة مخصوصة -سيارة، بيت، أو أيّ شيء- على أن يكون له الخيار بين أن يشتريها منه ويربحه فيها، أو لا، كما يكون للأول خيار بين أن يبيعه إياها، أو لا، هذه صورة واضحة جدًّا، وهذه الصورة اتفق الفقهاء على جوازها؛ لعدم وجود محظور شرعي فيها.

الصورة الثانية: أن يأمر شخص من الناس، شخصًا آخر، يقول له: اشترِ سلعة وأنا أشتريها منك بربحٍ وقبلا هذا، فهذه الصورة لا تجوز، والبيع فيها باطل؛ لأن البائع قد باع ما لا يملك، وقد قال رسول الله صلى الله عليه  وسلم: ((لا تبع ما ليس عندك)).

والفرق بين هذه الصورة وبين الصورة الأولى، أن البائع هنا باع قبل أن يملك، وأيضًا هذا البائع قد ربح ما لم يضمن، والنبي صلى الله عليه  وسلم: ((نهى عن ربحك ما لا تضمن))، والمبرر للربح، هو أن البائع معرَّض لأن يخسر عندما تتلف السلعة، لكن أن يضمن الربح قبل أن يبيع، فهذا مرفوض، وهو ربح ما لم يضمن؛ لأن بيع الإنسان ما ليس عنده معناه: أن يحدث غرر في احتمال أن يملك هذه السلعة أو لا يملكها؛ ولأن يترتب عليها أن يربح في شيء دون أن يكون ضامنًا له إذا تلف.

الصورة الثالثة: أن يأمر شخص شخصًا آخر بشراء سلعة معينة ولتكن سيارة مثلًا، ويلتزم تجاهه بوعد بأن يشتريها منه بثمنٍ حال، ويربحه فيها دون بيان لمقدار هذا الربح.

والحقيقة، أن التجار يلجأون إلى هذه الصورة عندما ترفض شركة معينة أن تبيع لتاجر معين لسبب ما، كأن يُقال لأحد التجار: لن أبيع لك؛ لكن التاجر يريد أن يحصل على هذه السلعة؛ لكثرة الطلب عليها؛ فيلجأ إلى تاجر آخر فيقول له: اشترِ هذه السلعة، وأنا أشتريها منك بثمن حال زائد الربح.

وفي هذه الحالة إذا نفذ الآمرُ وعده، واشترى السلعة من المأمور بالشراء بربح اتفق عليه، فبها ونعمت، وإذا امتنع الآمر بالشراء عن تنفيذ وعده، فهل للمأمور بالشراء أن يجبره على تنفيذه، وإلزامه قضاءً بالشراء، أو ليس له ذلك؟

كل الفقهاء متفقون على أن الوفاء بالوعد من صفات المؤمنين، وأن الخلف بالوعد من صفات المنافقين؛ لأن النبي صلى الله عليه  وسلم قال: ((آية المنافق -يعني علامة المنافق- ثلاث: إذا حدث كذب، وإذا وعد أخلف، وإذا عاهد غدر))، وهو حديث صحيح، أخرجه البخاري، ومسلم.

فذهب أبو حنيفة، والشافعي، وأحمد بن حنبل، والأوزاعي، والظاهرية: إلى أن الوفاء بالوعد أمر مستحب، والخلف به مكروه، كراهة تنزيه إذا لم يقصد الواعد بالخلف بالوعد إضرار الموعود؛ فهو ملزم ديانة، وغير ملزم قضاءً، ما دام الذي خلف لم يقصد من وراء هذا الخلف إلحاق الضرر؛ فلا ينبغي للمسلم أن يلحق ضررًا بأخيه المسلم.

إذًا فهذا الوعد عند هؤلاء الجمهور، هو مُلْزِمٌ ديانةً بينك وبين الله، ولكنه غير ملزم قضاءً، يعني: القاضي لا يلزم المتعاقدين، أو لا يلزم من وعد وعدًا بأن يفي به ضرورة.

ويستدلون على ذلك: بما رواه الإمام مالك: ((أن رجلًا قال لرسول الله صلى الله عليه  وسلم أكذبُ امرأتي؟ -يعني: أأكذب على امرأتي- فقال: لا خير في الكذب، فقال يا رسول الله، أفأعدها -أقول لها: أعطيكِ، وكذا- فقال صلى الله عليه  وسلم: لا جناح عليك))، يعني: لا إثم، رواه الإمام مالك في: (الموطأ)؛ فالنبي صلى الله عليه  وسلم قال: ((لا خير))، لا تكذب، لكن عن طريق الوعد بأنه سيشتري لها، وسيعطيها، ويكون في نيته أن يفي بوعده فعلًا.

واستدل أصحاب هذا التكييف الفقهي، بأن الوعد تبرع -يعني ليس معاوضة- ولا دليل على وجوب تبرع، وعقود التبرعات غير لازمة فيجوز فسخها؛ لأنها لا تكلف المتبرَّع له بشيء. والعلماء المخالفون، ناقشوا أدلة هؤلاء بأن النصوص الشرعية جاءت محذرةً من الخلف بالوعد، وجاءت تصف من يخلف وعده بالنفاق: ((آية المنافق ثلاث))، وهذا لا يتفق مع الحكم بالاستحباب؛ إذ تارك المستحب لا يكون منافقًا.

والحديث الذي احتجوا به، لا يصح أن يكون دليلًا؛ لأن فيه ضعفًا: وهو حديث: ((أأكذب امرأتي))؛ ولأنه يحتمل أن يؤول، أعدها، وأنا اعتقد الوفاء صحيح، ويؤيد هذا التأويل للحديث، ما رواه زيد بن أرقم، عن النبي صلى الله عليه  وسلم قال: ((إذا وعد الرجل أخاه، وفي نيته أن يفي، فلم يفِ ولم يجئ للميعاد؛ فلا إثم عليه))؛ لأنه عندما وعده كان في نيته أن يفي بوعده، لكن حالت دون هذا الوفاء عوامل خارجية.

أما عدم وجوب التبرعات، أو عدم لزومها، هذا قبل الشروع فيها، لكن إذا شرع الموعود بأن تكلف شيئًا أو باع شيئًا، بناء على الوعد الذي تلقاه من الطرف الآخر، فقد لزمه فقبل الوعد لا يلزمه أن يعد، ولكن إن وعد؛ وجب عليه الوفاء بما وعد؛ لأن الله تعالى يقول: {وَأَوْفُواْ بِالْعَهْدِ إِنّ الْعَهْدَ كَانَ مَسْؤُولاً} [الإسراء: 34]، وقال: {يَا أَيّهَا الّذِينَ آمَنُواْ أَوْفُواْ بِالْعُقُودِ} [المائدة: 1].

وذهب عمر بن عبد العزيز، والحسن البصري، وبعض العلماء: إلى وجوب الوفاء بالوعد مطلقًا، وأوجبوا على القاضي أن يقضي به؛ فهو ملزم ديانة وقضاءً؛ هذا رأي عمر بن عبد العزيز، والحسن البصري، وإسحاق بن راهويه، وابن شبرمة، وابن تيمية.

واستدل هؤلاء: بأن الله تعالى قال: {يَأَيّهَا الّذِينَ آمَنُواْ لِمَ تَقُولُونَ مَا لاَ تَفْعَلُونَ} [الصف: 2]، والذي يعد، ولا يفي بوعده ينطبق عليه قوله ما لا يفعل.

وذهب جمهور فقهاء المالكية: إلى إن الوعد يكون ملزمًا، ويجب الوفاء به ويقضي به القاضي، إذا ورد على سبب، أو أدخل الموعود في التزام شيء، وقد ذهبت بعض المجامع الفقهية إلى الأخذ بهذا الرأي.

فبيع المرابحة للآمر بالشراء، جائز شرعًا، وقد قرر مجمع الفقه الإسلامي في دورته الخامسة المنعقد في الكويت ما يلي: “إن بيع المرابحة للآمر بالشراء إذا وقع على سلعة بعد دخولها في ملك المأمور، وحصول القبض المطلوب شرعًا، هو بيع جائز، طالما تقع على المأمور مسئوليه التلف قبل التسليم، وتبعه الرد بالعيب الخفي، ونحوه من موجبات الرد بعد التسليم، وتوافرت فيه شروط البيع، وانتفت موانعه”.                   

error: النص محمي !!