مراتب ألفاظ الصحابة في رواية الحديث
ننتقل إلى كيفية الرواية، أو بمعنًى آخر: ألفاظ الرواية بالنسبة للصحابي ومراتبها.
ألفاظ الصحابة رضي الله عنهم في نقل الأخبار عن رسول الله، كما ذكر ابن قدامة في روضته، وذكر من قبله الغزالي في (المستصفى)- فالصحابة إنما ينقلون خبر النبي صلى الله عليه وسلم بألفاظ مختلفة، هذه الألفاظ خمسة، وهي مرتبة من حيث إفادتها ودلالتها على المطلوب:
المرتبة الأولى من مراتب ألفاظ الصحابة في رواية الحديث:
وهي أقوى هذه الألفاظ: أن يقول الصحابي رضي الله عنه: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول كذا، أو حدثني صلى الله عليه وسلم أو شافهني، أو أخبرني رسول الله صلى الله عليه وسلم.
وعليه، إذا ما سمعنا حديثًا يقول فيه الصحابي: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول كذا، فهذا دليل على أنَّ الصحابي سمع مباشرةً من رسول الله صلى الله عليه وسلم واحتمال وجود واسطة بين الصحابي وبين الرسول احتمال بعيد.
اتفق العلماء على أنَّ الصحابي إذا قال: حدثني رسول الله صلى الله عليه وسلم أو أخبرني، أو شافهني، أو رأيته يفعل كذا، أو سمعته يقول كذا، اتفقوا على أن هذا حجة بلا خلاف.
من أمثلة هذه المرتبة:
1. حديث أمير المؤمنين أبي حفص عمر بن الخطاب رضي الله عنه قال: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: ((إنما الأعمال بالنيات، وإنما لكل امرئ ما نوى، فمن كانت هجرته إلى الله ورسوله فهجرته إلى الله ورسوله، ومن كانت هجرته لدنيا يصيبها، أو امرأة ينكحها، فهجرته إلى ما هاجر إليه)) الحديث رواه البخاري ومسلم.
والشاهد في الحديث قول عمر بن الخطاب رضي الله عنه “سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم” يعني: بلا واسطة، وهذا أعلى مستند للصحابي في رواية الحديث عن النبي صلى الله عليه وسلم.
2. حديث ابن عمر رضي الله عنهما: ((أخذ رسول الله صلى الله عليه وسلم بمنكبي، فقال: كن في الدنيا كأنك غريب، أو عابر سبيل)) والشاهد هنا أن ابن عمر قال: أخذ رسول الله صلى الله عليه وسلم بمنكبي. يعني: سمع سماعًا مباشرًا من رسول الله صلى الله عليه وسلم بدليل أن يد الرسول صلى الله عليه وسلم على منكب عبد الله بن عمر، فلو قال: ((كن في الدنيا كأنك غريب أو عابر سبيل)) فلا شك أن هذا الحديث سمعه عبد الله بن عمر رضي الله عنهما من رسول الله صلى الله عليه وسلم مباشرةً.
المرتبة الثانية من مراتب ألفاظ الصحابة في رواية الحديث:
وهي أن يقول الصحابي: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم كذا، وهي أقل من المرتبة الأولى، فالمرتبة الثانية ظاهرها النقل عن رسول الله صلى الله عليه وسلم وليس نصًّا صريحًا فيه؛ لاحتمال أن يكون الصحابي سمع الحديث من غير النبي صلى الله عليه وسلم وهذا أمر جائز عقلًا، وإنما قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم اعتمادًا على ما نقل إليه، يعني: كأن سائلًا يسأل: إذا كان قول الصحابي: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم كذا، يحتمل أن الصحابي لم يسمع من النبي، فكيف يروي عن النبي؟ قالوا: هذا إنما روى عن النبي صلى الله عليه وسلم اعتمادًا على ما نقل إليه؛ فالصحابي سمع من صحابي آخر، فهو يعتقد أن الصحابي الآخر سمع مباشرةً من النبي صلى الله عليه وسلم وإن لم يسمعه هو منه؛ ومن ثم ذهب الجمهور من أهل العلم إلى أن الحديث الذي يأتي بهذا اللفظ يحتج به، سواء كان الصحابي الذي رواه من صغار الصحابة أو من كبارهم.
من أمثلة هذه المرتبة:
- ما روي أن أبا هريرة رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((من أصبح جنبًا فلا صوم له)) الشاهد من الحديث أن أبا هريرة رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم، فلما سُئل أبو هريرة هل سمع هذا الحديث بنفسه من رسول الله؟ قال: حدثني به الفضل بن عباس.
- عن ابن عباس رضي الله عنهما قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((إنما الربا في النسيئة)) فلما روجع ابن عباس رضي الله عنهما واستكشف -يعني: سُئل عن ذلك- هل أنت سمعت هذا الحديث من الرسول بنفسك؟ قال: إنه سمعه من أسامة بن زيد رضي الله عنه.
ولهذا قال الإمام النسائي -رحمه الله- يروي هذا الخبر: حدثنا سفيان عن عمر عن أبي صالح أنه سمع أبا سعيد الخدري يقول: قلت لابن عباس: أرأيت الذي تقول؟ أشيئًا وجدته في كتاب الله عز وجل أو شيئًا سمعته من رسول الله صلى الله عليه وسلم يعني في قوله: ((إنما الربا في النسيئة))؟ قال -يعني: ابن عباس رضي الله عنهما: ما وجدته في كتاب الله عز وجل ولا سمعته من رسول الله صلى الله عليه وسلم ولكن أسامة بن زيد أخبرني أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: ((إنما الربا في النسيئة)).
والحاصل بالنسبة لهذه الرتبة: أن الحديث الذي يأتي بلفظ: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم يُحتج به، يعني: هذا على مذهب جماهير أهل العلم، ولكنه دون ما قبله، لاحتمال الواسطة في الرتبة الثانية.
المرتبة الثالثة من مراتب ألفاظ الصحابة في رواية الحديث:
هي أن يقول الصحابي: أمر رسول الله صلى الله عليه وسلم بكذا، أو نهى عن كذا.
هل هذه العبارة يتطرق إليها احتمال أو لا يتطرق؟
قال أهل العلم: قول الصحابي: أمر رسول الله صلى الله عليه وسلم بكذا أو نهى عن كذا، يتطرق إليه احتمالان:
الأول: السماع هل سمع أو لم يسمع؟
الثاني: في مفهوم لفظ الأمر والنهي نظرًا لاختلاف الناس في مفهوم لفظ الأمر والنهي، قال بعض أهل الظاهر: لا حجة في هذا القول، لكن هل الصحيح قول الجمهور أم قول بعض أهل الظاهر؟
الصحيح الذي عليه أكثر العلماء أن الحديث الذي يأتي بلفظ: أمر رسول الله صلى الله عليه وسلم بكذا أو نهى عن كذا يحتج به، لماذا؟
فالجمهور يقولون: احتمال الغلط من قبل الصحابي بأن يحمل اللفظ على الأمر غلطًا فلا يُحمل عليه أمر الصحابة؛ لأنه يجب حمل ظاهر قولهم وفعلهم على السلامة ما أمكن، وذلك لمكانة الصحابة رضي الله عنهم ولم يثبت أن صحابة رسول الله صلى الله عليه وسلم اختلفوا في الأمر ونحوه، إنما الاختلاف في صيغ الأمر، ومعاني صيغ الأمر إنما جاء متأخرًا، أما الصحابة رضي الله عنهم للغتهم الصحيحة وملازمتهم للنبي صلى الله عليه وسلم كانوا يفهمون الأمر فهمًا حقيقيًّا، وكذا النهي فهمًا حقيقيًّا، فلم يثبت أن صحابة الرسول صلى الله عليه وسلم اختلفوا في الأمر ونحوه؛ لأنه لو ثبت هذا الاختلاف في مفهوم الأمر والنهي لنقل إلينا لكنه لم ينقل، فمعناه أنهم لم يختلفوا كما نقل اختلافهم في بعض الأحكام.
المرتبة الرابعة من مراتب ألفاظ الصحابة في رواية الحديث:
هي أن يقول الصحابي: أُمرنا بكذا أو نُهينا عن كذا، بصيغة المبني للمجهول. فهذا اللفظ يتطرق إليه ما يلي:
- احتمال الواسطة بين الصحابي ورسول الله صلى الله عليه وسلم: فلو قال الصحابي: أُمرنا بكذا يُحتمل أنه سمع من رسول الله أو أنه ينقل عن صحابي مثله- فاحتمال الواسطة موجود.
- ويحتمل كذلك اعتقاد ما ليس بأمرٍ أمرًا، واعتقاد ما ليس بنهيٍ نهيًا، كما ذكرنا في الرتبة الثالثة، يعني: يعتقد الصحابي أن هذا الأمر أمر وهو في الواقع ليس بأمر، أو هذا نهي وهو في الواقع ليس بنهي، هذا احتمال.
- الاحتمال الثالث والأخير: أن يكون الآمر غير النبي صلى الله عليه وسلم من الأئمة والعلماء، يعني: إذا قال الصحابي أمرنا بكذا، يُحتمل أن يكون الآمر للصحابة ليس هو النبي بل صحابي آخر، أو إمام من أئمة الصحابة، أو علم من أعلام الصحابة.
فذهب الجمهور إلى أن قول الصحابي: أُمرنا بكذا أو نُهينا عن كذا حجة، حيث لا يُحمل إلّا على أمر الله تعالى أو أمر رسوله صلى الله عليه وسلم لأنه يريد به إثبات الشرع وإقامة الحجة، وعليه فلا يحمل على قول من لا يحتج بقوله. وهذا لا يتأتي إلّا إذا كان أمرًا لله، أو نهيًا لله، أو أمرًا لرسول الله، أو نهيًا لرسول الله صلى الله عليه وسلم.
إذن الجمهور يرى أن الاحتمالات الثلاث السابقة لا تؤثر في الاحتجاج بالحديث الذي يأتي بصيغة المبني للمجهول: أُمرنا بكذا أو نُهينا عن كذا، هذا هو رأي الجمهور في المسألة.
الرأي الثاني: وبه قال أبو بكر الصيرفي، والجويني، والكرخي: أنه لا يُحتج به، يعني قول الصحابي: أُمرنا بكذا أو نُهينا عن كذا ؛ لأنَّه يُحتمل أن يكون الآمر أو الناهي بعض الخلفاء والأمراء.
وأجيب عن هذا من قبل الجمهور بأنَّه احتمال ضعيف وبعيد، فالصحابي الجليل أنس بن مالك رضي الله عنه حين قال: ((أُمر بلال أنَّ يشفع الأذان ويوتر الإقامة)) لم يقل له أحد: من الذي أمر بلالًا بذلك؟ لعلم الجميع بأن الأمر عند الإطلاق يرجع إلى النبي صلى الله عليه وسلم.
الرأي الثالث في المسألة: فقد حكاه ابن السمعاني -رحمه الله- وهو: الوقف وعدم القطع برأي معين، يعني: قول الصحابي: أُمرنا بكذا أو نُهينا عن كذا نتوقف فيه ولا نحكم بأنه حجة أو ليس بحجة، وظاهرٌ أن هذا القول لا وجه له، وأنَّ هذا الرأي لا وجه له؛ لأنَّ التوقف لا يكون إلّا إذا تعادلت الأدلة، ولا مرجح لدليل على آخر، وليس الأمر هنا كذلك؛ لأنَّ ما ذهب إليه الجمهور هو الراجح لما ذكرناه لكم عند مذهبهم.
الرأي الرابع في المسألة: حكاه ابن الأثير، وهو: التفصيل بين أن يقول قائل ذلك هو: أبو بكر الصديق رضي الله عنه فيكون ما رواه بهذه الصفة حجة، قالوا: لأنه لم يتأمر عليه أحد، فهو الخليفة بعد رسول الله صلى الله عليه وسلم مباشرةً ولم يتأمر عليه أحد، وبين أن يكون القائل غير أبي بكر رضي الله عنه فلا يكون حينئذٍ حجة.
وواضح أن هذا التفصيل أيضًا لا وجه له، وهو تفصيل ضعيف؛ لضعف احتمال كون الآمر والناهي غير صاحب الشريعة، فالآمر والناهي في الحقيقة هو الرسول صلى الله عليه وسلم.
الرأي الخامس في المسألة: وذكره ابن دقيق العيد -رحمه الله- وهو: الفرق بين كون قائله من أكابر الصحابة كالخلفاء الأربعة وعلماء الصحابة كابن مسعود، وزيد بن ثابت، ومعاذ بن جبل، وابن عمر، وأبي هريرة، وأنس، وابن عباس رضي الله عنهما قالوا: فيكون ذلك حجة، وبين كون قائله من غيرهم فلا يكون حجة.
فالرأي الخامس في المسألة شبيه بالرأي الرابع، لكن الرأي الرابع قال: إذا كان القائل أبو بكر. أما الرأي الخامس: أدخل مع أبي بكر غيره فقال: إذا كان أكابر الصحابة كالخلفاء الراشدين وعلماء الصحابة فقولهم: أُمرنا بكذا أو نُهينا عن كذا حجة، وإذا كان قول غيرهم فلا يكون حجة، ولك أن تجيب عن هذا الرأي بما أجبنا عليه في الرأي الرابع.
والخلاصة: أن الصحابي إذا قال: أُمرنا بكذا أو نُهينا عن كذا بالبناء للمجهول، فجمهور العلماء يرون أن هذا القول حجة؛ لأن الصحابي إنما أراد أن يُبلغ الشريعة وينقل الأحكام، وهذا لا يتأتى إلّا عن صاحب الشريعة صلى الله عليه وسلم.
هذا وقد قال الجمهور: إن في معنى قول الصحابي: أُمرنا بكذا أو نُهينا عن كذا قوله: من السنة كذا، والسنة جارية بكذا؛ لأن مثل هذا اللفظ لا يُحمل إلّا على سنة رسول الله صلى الله عليه وسلم دون سنة غيره ممن لا تجب طاعته.
هذا بالنسبة للصحابي، لكن ما الحكم لو كان القائل تابعي؟ يعني: إذا قال التابعي: من السنة كذا- فله حكم مراسيل التابعين وسيأتي -إن شاء الله- حكم مراسيل التابعين، واحتمال كونه مذهب صحابي وما كان عليه العمل في عصر الصحابة رضي الله عنهم خلاف الظاهر فإن إطلاق ذلك في مقام الاحتجاج وتبليغه إلى الناس يدل على أنَّه أراد سنة رسول الله صلى الله عليه وسلم.
ولهذا قال ابن عبد البر: إذا أطلق الصحابي السنة فالمراد بها سنة النبي صلى الله عليه وسلم وكذلك إذا أطلقها غيره ما لم تضف إلى صاحبها، كقولهم: سنة العمرين ونحو ذلك.
ومن أمثلة قول التابعين: من السنة كذا- قول سعيد بن المسيب -رحمه الله: “من السنة إذا أُعسر الرجل بنفقة امرأته أن يفرق بينهما” ولا شك أن كلمة السنة التي أطلقها سعيد بن المسيب مراد بها سنة النبي صلى الله عليه وسلم.
المرتبة الخامسة من مراتب ألفاظ الصحابة في رواية الحديث:
هي أن يقول الصحابي: كنا نفعل كذا على عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم أو كانوا يفعلون كذا على عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم فما حكم هذه الرتبة؟
الجمهور وأكثر العلماء على أن هذه الرتبة كالمسند إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم يعني: كنا نفعل كذا أو كانوا يفعلون كذا، كالحديث المسند إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم ويدل على جواز ما كانوا يفعلونه أو وجوبه على حسب مفهوم لفظ الراوي من جواز أو وجوب أو ندب، لماذا؟
لأن ذكرَ الصحابي له في معرض الاحتجاج يقتضي أنه بلغ النبي صلى الله عليه وسلم فأقرّ عليه، وإقراره حجة، والسنة من حيث ذاتها، قولية، أو فعلية، أو تقريرية، فلو أن صحابيًّا قال: كنا نفعل كذا على عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم أو كانوا يفعلون كذا على عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم فهو كالمسند إلى رسول الله؛ لأن الصحابي لا يذكر ذلك في معرض الاحتجاج إلّا وقد بلغ هذا النبي صلى الله عليه وسلم فأقر عليه، وبإقرار النبي له صار سنة تقريرية.
الرأي الثاني في المسألة: ذهب إليه بعض العلماء وقالوا: قول الصحابي: كنا نفعل كذا أو كانوا يفعلون كذا على عهد رسول الله ليس كالمسند، فلا يحتج به؛ لأن الصحابة رضي الله عنهم كانوا يفعلون في عهد النبي صلى الله عليه وسلم ما لا يكون مسندًا، ألا ترى أنهم لما اختلفوا في التقاء الختانين -يعني: هل يجب الغسل أو لا يجب الغسل- قال بعضهم: ((كنا نجامع على عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم ونكسل)) ومعنى نكسل: يعني: لا ننزل -يعني كان جماع بدون إنزال- ((فلا نغتسل)) فقال له عمر: أو علم النبي صلى الله عليه وسلم ذلك فأقركم عليه؟ فقال: لا، وقال جابر: ((كنا نبيع أمهات الأولاد على عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم)) فهذه النصوص دليل لمن قال: إن قول الصحابي كنا نفعل كذا على عهد رسول الله أو كانوا يفعلون كذا، دليل على أنه ليس كالمسند فلا يحتج به.
وقد أجاب الجمهور على هذا:
1. بالنسبة لمسألة التقاء الختانين بدون إنزال، قال الجمهور: معلوم أنه لم يجب فيه الغسل في أول الإسلام -يعني: في أول الإسلام كان التقاء الختانين لا يوجب الغسل- وكانوا يجامعون ولا يغتسلون، وقد حُمل على ذلك قوله صلى الله عليه وسلم: ((إنما الماء من الماء)) كما رواه الإمام مسلم -يعني: إنما يجب الاغتسال بنزول المني- فلما نسخ ذلك بحديث: ((إذا التقى الختانان فقد وجب الغسل)) لم يعلم بعض الصحابة بالنسخ واستمر على ذلك، وحال الاستدامة والاستمرار يجوز أن يخفى أمره على بعض الصحابة؛ ولذلك اختلفوا فقال بعضهم: لا يجب الغسل من التقاء الختانين، وقال بعضهم: الغسل إنما يجب بنزول الماء، هذا بالنسبة لمسألة التقاء الختانين.
فأما الإقدام على ابتداء الشيء فلا يفعل إلّا عن إذن النبي صلى الله عليه وسلم.
2. وأما بالنسبة لحديث جابر رضي الله عنه الذي يقول فيه: ((كنا نبيع أمهات الأولاد على عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم)) ومعلوم أن أم الولد لا تُباع، فبالنسبة لحديث جابر رضي الله عنه فالمراد به أمهات الأولاد في غير مِلك اليمين، وهو أن يتزوج جارية لهم، وذلك جائز كما ذكر الشيرازي -رحمه الله- في (التبصرة).
ومن أمثلة هذه الرتبة: ما روي عن أبي سعيد الخدري رضي الله عنه قال: ((كنا نُخرج صدقة عيد الفطر على عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم صاعًا من تمر أو صاعًا من شعير)) رواه البخاري ومسلم.
وجدير بالذكر التنبيه على أن الصحابي لو قال: كنا نفعل أو كانوا يفعلون ولا يقول: على عهد رسول الله -فلا تقوم بمثل هذه الحجة؛ لأنه ليس بمسند إلى تقرير النبي صلى الله عليه وسلم، ولا هو حكاية للإجماع خلافًا لأبي الخطاب الحنبلي الذي يرى أنه يكون نقلًا للإجماع لتناول لفظ كانوا يفعلون إياه، لذلك قال رحمه الله: فإن قال الصحابي أو التابعي كانوا يفعلون يعني: بدون كلمة “على عهد رسول الله” حُمل ذلك على جماعتهم -يعني: مجموعهم يفعل ذلك أما جميعهم لا- كقول عائشة رضي الله عنه: ((كانوا لا يقطعون اليد في الشيء التافه)) رواه البخاري وأحمد وغيره.
والرتبة الخامسة هي أدنى المراتب السابقة، وذلك لعدم دلالتها على إضافة الحكم إلى النبي صلى الله عليه وسلم لكن كونه من الصحابة المبلغين الشرع يدل ظاهرًا على أن ذلك بيان للشريعة وبيان لشرعية ذلك الفعل بالنسبة إلينا، وذلك إنما يصح لو كانوا يفعلون في عهده صلى الله عليه وسلم مع علمه وعدم إنكاره فيكون سنة تقرير.