مرحلة التأسيس للصهيونية المعاصرة
ثم نصِل بعد ذلك إلى الحركة الكبرى التي قادها المؤسِّس الحقيقي للصهيونية المعاصرة وهو الصحفي النمساوي: “تيودور هرتزل” الذي وُلد في سنة 1860م وتوفي 1904م. وسوف أتكلّم عن هذا الرجل بشيء من التفصيل فيما بعد؛ لكن الذي يهمّني هنا هو: أن نجعل هذا الرجل، وهذه الفترة التاريخية التي نحن بصددها هي المؤسس الحقيقي للصهيونية المعاصرة، أو لصهيونية ما بعد “هرتزل”؛ فيمكن اعتبار ما قبل “هرتزل” مجموعة حلقات أدّت كلّها -وبطبيعة البعد التاريخي- إلى تزايد نشاط الحركة الصهيونية جيلًا بعد جيل، وقرْنًا بعد قرن، إلى أن وصلَت إلى قمّتها في عهد “تيودور هرتزل”. وقبل أن أتكلّم عن هذا الرجل، وعن نشاطه، علينا أن نضع هذا التاريخ أمام أعيننا 1904م، أواخر عهد الدولة العثمانية، السلطان عبد الحميد. وقلنا -ونحن نتكلم عن الاستشراق والتبشير: إنَّ ممّا تعاون عليه الاستشراق مع الاستعمار مع التبشير هو: العمل على سقوط الدولة العثمانية، وإنّ ممّا تعاون عليه الاستشراق والتبشير والاستعمار وحالفهم فيه الصهيونية المعاصرة: أن أتوا بـمصطفى كمال أتاتورك الماسوني الصهيوني اليهودي الذي تربّى في أحضان يهود الدّونمة، وربَّوْه في نوادي ألمانيا على الفكر القومي، وتولّى بنفسه قيادة حركة “الاتحاد والترقي” التي عملت على إسقاط الخلافة العثمانية.
إذًا، كأنَّ “تيودور هرتزل” كان على موعد مع هذا الظَّرف التاريخي الذي هيَّأ له فرصة ساعدَتْه على أن يحقِّق أحلام الصهيونية المعاصرة، فدعا إلى مؤتمر عُقد في “بال” بسويسرا، وطَرح فيه مجموعة من الأفكار لتأسيس هذه الدولة التي سُمِّيت فيما بعد: (بروتوكولات حكماء صهيون). وقد صرّح هذا الرجل بعد المؤتمر بقوله: “اليوم وُلدت الدولة اليهودية، وبعد خمسين عامًا سيراها العالم بالتأكيد”.
هذا الكلام تم في سنة 1895م تقريبًا. وصرح أنّ الدولة الإسرائيلية أو الدولة الصهيونية سوف يراها العالَم بعد خمسين عامًا. ولو راجعنا التاريخ، سوف نجد أنّ ميلاد الدولة الحقيقي كان في 1948م قرار التقسيم والمسافة الزمنية المحصورة بين مؤتمر “بال” بسويسرا تاريخ ميلاد الدولة تقريبًا استغرق هذه الفترة التي أشار إليها “تيودور هرتزل”.
ومن المهمّ: أن أشير إلى الأمور التي تضمّنها هذا المؤتمر، والتي تمخّض عنها هذا المؤتمر؛ لكي أضع هذه البنود أمام إخواننا العلمانيِّين الذين يتهاونون في العناصر المكوِّنة للهوية العربية الإسلامية. عليهم أن يرَوْا الآن وصايا “تيودور هرتزل” لِبَني قومه، ويتأمّلوا في أنفسهم ماذا يطرحون على أبناء جلدتهم الآن؟!
بعضهم ينادي باللغة العامية مكان الفصحى، وبعضهم ينادي بإلغاء الإعراب، وبعضهم ينادي بفصل الدِّين عن الدولة، وبعضهم، وبعضهم.
أدعوهم أن يتأمّلوا وصايا “هرتزل” في هذا المؤتمر، ماذا قال “هرتزل” بعد أن صرّح بميلاد هذه الدولة بعد خمسين عامًا؟
لقد تمّ الاتفاق في هذا المؤتمر على: أنّ أوّل ما يَعمل به أبناء صهيون: التنشيط المستمر، والدعوة التي لا تنقطع على تعليم اللغة العبرية لأبناء اليهود، وإحياء الآداب اليهودية في مضمونها اللغوي الكلاسيكي التي كانت قد ماتت واندثرت منذ عشرات القرون؛ لكنه لكي يؤسِّس دولة، لكي يَبني قوميّة, لكي يضع نقطة يلتفّ حولها أبناء صهيون، عليه أن يُحيي هذه اللغة التي تُمثِّل في نظره وفي نظر بني جلدته رمْزَ الوحدة الصهيونية، رمز الالتفاف حول الكتاب المقدس: اللغة العبرية، والآداب اليهودية.
ثم ماذا؟ إنشاء صندوق تمويل للمشاريع اليهودية يموّل عن طريق الجهود الذاتية، مع وضع المنهج الأمثل للانتفاع بتلك البقعة المباركة من كافّة جوانبها.
كما تمّ الاتفاق في هذا المؤتمر على تكرار عقد المؤتمرات، لتحقيق الآمال المرجوّة لليهود في أرض فلسطين.
وقد توجّه الصهيوني “هرتزل” بعد ذلك إلى السلطان عبد الحميد لكي يفاوضه في تأسيس الوطن القومي لليهود على أرض فلسطين. ونحن نعلم: أن هذه البقعة المباركة كانت تحت ولاية السلطان عبد الحميد، باعتبارها إحدى دول الخلافة العثمانية. وتوهّم “هرتزل”: أنّ السلطان عبد الحميد بمقتضى الحالة المرَضية -كما أسموها، وكانوا يسمّون الخلافة العثمانية بـ”الرجل المريض”- بمقتضى إحساس “هرتزل” بهذه الحالة المرَضية للدولة العثمانية، كان قد توقع بأن السلطان عبد الحميد سوف يتهاون ويتنازل عن هذه البقعة المباركة للصهيونية. وظن ذلك “تيودور هرتزل”، وأخذ يرسل رسُله إلى السلطان عبد الحميد؛ لكي يحدد له موعدًا للقائه ليتفاوض معه على أن يقطعه هذه الأرض لإقامة الدولة الصهيونية عليها. وكان يحمل معه بعض الإغراءات المالية والاجتماعية ليقدّمها هدية للسلطان عبد الحميد ليستجيب له في تحقيق رغباته.
تكرّرت هذه العروض ثلاث مرات بين “تيودور هرتزل” وبين السلطان عبد الحميد. كان اللقاء الأول في يونيه 1901م، واللقاء الثاني في فبراير 1902م، واللقاء الثالث في يوليه 1903م. وكانت المغريات التي حملها “هرتزل” ليعرضها على السلطان عبد الحميد كرشوة أو جُعْل في مقابل تنازله عن أرض فلسطين ما يلي:
عرَض عليه أن يُسدِّد ديون تركيا كلّها؛ وكانت ديونه كثيرة. ثم عرَض عليه تطوير الصناعة بتركيا، والتجارة؛ وذلك من خلال إنشاء بعض البنوك التي يَملكها اليهود، ويمولونها برأس مالهم هُم. ثم عرَض عليه بعد ذلك إقامة جسور للسكك الحديدية عبر القارات المتّصلة بها. وبعد ذلك عرض عليه أن يقوم بحملة إعلامية عالمية تدافع عن السلطان عبد الحميد، وعن سياسته في المنطقة العربية في مواجهة الدول الأوربية، لعِلْمِه أن الدول الأوربية كانت قد تمالأت كلّها على السلطان عبد الحميد.
بل إنّ في هذا التاريخ كانت بعض الدول وقعت فريسةً للاستعمار البريطاني والفرنسي والإيطالي في بداية القرن العشرين. ثم عرَض عليه بعد ذلك أن يُنشئ في المملكة أو في الخلافة جامعة عصرية لتعليم الشباب العلوم الحديثة بدلًا من أوربا. ثم عرض عليه هدية مالية قدرها مائة مليون جنيه ذهب، فضلًا عن وعود أخرى مقابل السماح فقط بإنشاء -لم يقل بإنشاء دولة- وإنما إنشاء شركة يهودية في فلسطين تشتري الأراضي الصحراوية غير المزروعة، وتوطّن فيها اليهود.
وقد قوبلت طبعًا تلك المطلب من السلطان عبد الحميد بالرفض والزجر. وصرّح السلطان عبد الحميد بأن الهدف هو: إيجاد حكومة لليهود في فلسطين، وليس مجرّد قطعة أراض صحراوية لا زرع فيها ولا ماء. ثم قال عبارته الشهيرة: “ولن يكون ذلك إلا على أجسادنا”. هذه هي عبارة السلطان عبد الحميد الذي ظلمه التاريخ. صرّح بهذه العبارة في وجْه من؟ في وجْه “تيودور هرتزل”: “لن يكون ذلك” وهو: السماح لليهود بإقامة شركة لشراء الأراضي في أرض فلسطين. قال: “لن يكون ذلك إلا على أجسادنا”.
ثم تألّف وفْد آخَر من اليهود من ثلاثة أشخاص، وقابلوا السلطان عبد الحميد بعد ذلك، فأبى مقابلتهم، ووكل أمرهم إلى أحد موظفي الخلافة وتقريبًا هو: تحسين باشا. وقد تبيّن من المقابلة: أنهم يرغبون من الدولة العثمانية أن تسمح بزيارة الأماكن المقدّسة في فلسطين، وبإنشاء مستعمرة قرب القدس، وذلك مقابل المغريات التي حمَلها (تيودور) في المرة الأولى، وكذلك في المرة الثالثة. وكان لتلك المحاولات أثرُها في إصدار قرار بقانون الجواز الأحمر، وكان خاصًّا بكل يهودي يدخل أرض فلسطين بقصد السياحة أو الزيارة. كما أنّ الحكومة منعت امتلاك الأراضي لليهود، أو استيطانهم فيها؛ فكان كلّ يهودي يريد أن يدخل أرض فلسطين للزيارة له جواز خاص بالزيارة فقط؛ بحيث لا يُسمح له بالإقامة فيها.
هذه المقابلات التي تمّتْ بين “هرتزل” والسلطان عبد الحميد كانت البداية الطبيعية لتأسيس الجمعية الصهيونية، أو الدولة الصهيونية، أو الدولة العبرية إن شئتم، بشكل منظّم في حراسة الدول الأوربية وحراسة المال اليهودي، مستغِلِّين في هذا الظرف التاريخي ضعف الخلافة العثمانية.
هذه هي مراحل تأسيس الحركة الصهيونية تاريخيًّا، يُمكن -كما عرفنا الآن- أن نُقسِّمها إلى مراحل: مرحلة ما قبل “هرتزل”، وقد مرّت بحلقات متتالية، كان أهمّها من وجهة نظري على الأقل: مرحلة أو حركة “نابليون بونابرت”. ثم حركة “روتشيلد” التي تولّت جمع المال. والمرحلة التالية -وهي الأخطر والأهم- هي: مرحلة “تيودور هرتزل” وما بعد “هرتزل”.