مرحلة الفيلسوف سقراط، ومرحلة أفلاطون، وبعدهما أرسطو
مرحلة الفيلسوف المشهور “سقراط”:
ثم جاءت بعد ذلك مرحلة أخرى من مراحل الثقافة والفلسفة اليونانية، هي مرحلة الفيلسوف المشهور “سقراط”، وقد عاش “سقراط” ما بين عامي أربعمائة وتسعة وستين وثلاثمائة وتسعة وتسعين قبل الميلاد.
لم يسترح “سقراط” لطريقة السوفسطائيين في تعليم شباب “أثينا” أصول البيان والبراعة الخطابية؛ لأنه كان مؤمنًا بخطأ تلك الطريقة وفسادها وقلة جدواها في تعليم الفنون، وقد انتهى “سقراط” إلى تقرير أمرين مهمين:
الأول: أن الشعر -وهو فن كلامي- إلهام لا صنعة، فالشاعر يستلهم صوره من الغيب، والمحاولات الشعرية التي هي دون إلهام تنتج صورًا شعرية منطفئة لا إشراق فيها.
الثاني: أن الشعراء غير قادرين على شرح ما تضمنته أشعارهم؛ لأنهم لم يستوحوا في ذلك عقولهم كما يصنع الحكماء، وعلى هذا فهم عاجزون عن تفسير أشعارهم عجزًا لا يراه “سقراط” لغيرهم من النقاد.
إذًا: كان “سقراط” يؤمن بنظرية الإلهام ويعتقد أن الشعر له مصدر علوي، وأن الصنعة -الصنعة الشعرية- أمرها هين، وأن الإلهام حين يظفر بروح ساذجة طاهرة فإنه يوقظها ويسمو بها، فتمجد مآثر الأجداد وتربي الأجيال.
أما ذلك الذي حُرم النشوة الصادرة عن آلهة الفنون -أي: الذي حرم الإلهام- فإنه لا يجترئ على الاقتراب من أبواب الشعر، فالذي يتوهم أن الصنعة اللفظية تكفي لخلق الشاعر فإنه لن يكون سوى شاعر ناقص؛ لأن شعر المرء البارد العاطفة يظل دائما لا إشراق فيه إذا ما قورن بالشعر الملهم.
إذًا: الفرق كبير بين هذا المسلك، ومسلك السوفسطائيين الذين رأوا تعلم الجدل وإتقانه، بصرف النظر عن الإلهام والغاية التي تكون وراءه، فالفرق كبير بين ما كان يعتقده السوفسطائيون وما كان يعتقده الفيلسوف المعروف “سقراط”.
ثم تأتي بعد ذلك مرحلة “أفلاطون”:
وهو ثاني الثلاثة الكبار في التاريخ الفلسفي عند اليونان؛ “سقراط” و”أفلاطون” و”أرسطو”، وقد عاش أفلاطون ما بين عامي أربعمائة وسبعة وعشرين وثلاثمائة وسبعة وأربعين قبل الميلاد، وقد اختلطت آراء “أفلاطون” في الفلسفة والنقد أحيانًا بآراء أستاذه “سقراط” في المحاورات التي أدارها حول الحكمة والفن، ومع هذا فإن الدارسين والمؤرخين استطاعوا أن يستخلصوا الآراء التي تميز بها “أفلاطون” عن أستاذه.
ومن أهم ما كتبه “أفلاطون” كتابه الذي عرف بعنوان (الجمهورية)، وفي هذا الكتاب يتغنى بالحب الإلهي على أنه الحب الخالد الدائم، ويتجه بعقله الكبير إلى أصول الأشياء وحقائقها الثابتة، ويردّ إليها ظلالها وأشكالها التي تراها أبصارنا وتحس بها جوارحنا فنحسبها الحقيقة نفسها، مع أنها انعكاساتها التي تشبه رجع الصدى بالنسبة للصوت والظلال للأشجار، وعلى هذا بنى تأملاته الفكرية والفنية فجعل المثال الأعلى لكل ما نشعر به أو نشاهده هو الجوهر الثابت، الذي ينبغي أن تنفذ إليه العقول؛ لأن ذلك أسمى درجات المعرفة وأشرفها وقد أطلق عليها نظرية المثل.
وكانت هذه النظرية هي رائده في أحاديثه عن العلوم والفنون على السواء؛ ولذلك فهو يقول: “إن فكرة الجمال نفسها يجب أن تحب، أكثر من حب الشخص الجميل”.
وفي حديثه عن هؤلاء الفلاسفة الإغريق القدماء، يقول الدكتور عبد الرحمن عثمان في كتابه (مذاهب النقد وقضاياه) عن “أفلاطون”: “يبدو أن “أفلاطون” قد كره لشباب “أثينا” ومفكريها أن يردّوا الفضيلة والخير إلى الجمال الحسي، فصعد بهم في نظرية المثل إلى جمال أبقى وأخلد، وقادهم إلى النبع الذي يعكس بهاءه وفتنته على كل ما هو جميل في حياة الإنسان”.
يقول “أفلاطون” عن الشعراء: “فإنهم يتخذون من الألفاظ والعبارات أدوات تلون الأشياء كالرسام، وتؤثر في السامعين عن طريق الوزن والنغم، وفي الوزن تقوم قوتهم الساحرة المؤثرة؛ لأننا إذا نزعنا عن القصائد الألوان التي تخلعها عليها الأوزان، وأصبحت كلامًا منثورًا عاديًّا فقدت أثرها، وأصبحت كالحسناء في رونق الشباب إذا فقدت شبابها، ولم تكن ذات جمال حقيقي”، ومن ثَمّ كان صارمًا تجاه الفن الذي لا يتجه به الفنان إلى ذلك النبع الخالد.
وقد كانت صرامته أشد مع الشعراء والخطباء؛ لأنه هو نفسه كان شاعرًا في صباه ومحدثًا رائق العبارة حلو الأسلوب، فهو بالضرورة يدرك أكثر من غيره أن للبيان سحرًا لا تؤمن عواقبه حين ينحرف الشاعر، أو يعمد الخطيب إلى التمويه والكذب، ولعله وجد أن الأمر لا يحسم إلا بأن يمهد للشعراء والخطباء طريقًا واضح المعالم، محدد الغاية.
وفي هذا الكتاب -(الجمهورية) الذي ترجمه العرب بعد ذلك وجعلوا عنوانه: (المدينة الفاضلة)- لم يرضَ “أفلاطون” عن بعض الطوائف من الشعراء، الذين تفرقت بهم السبل عن سبيله التي يدعو إليها؛ ولذلك لم يدخلهم في جمهوريته أو أخرجهم منها، ولم يهاجم “أفلاطون” إلا الفن الرديء الذي ينحرف عن الخير، فهو قد كان يريد من الشعراء أن يجعلوا شعرهم مصورًا بصورة الخير وإلا حرمت عليهم مدينته؛ فـ “أفلاطون” إذًا يخضع الفن لخدمة الأخلاق والمجتمع.
وله كتاب آخر مهم جدًّا اسمه (القوانين)، وتقويم “أفلاطون” للشعر والخطابة يتلخص فيما يلي:
الشعر الجيد عنده هو النوع الغنائي الذي يمجّد الفضيلة ويدعو إلى الحق ويرفع من شأن الفضلاء والأخيار، والشعراء الذين تفتح لهم أبواب مدينته الفاضلة أو الجمهورية هم دعاة العدل، والمبشرون بخلود المُثُل التي يتجه إليها شعرهم.
في مقابل ذلك يأتي الشعر الرديء عنده، وهو ما جرى على ألسنة شعراء الملاحم والمآسي؛ لأنه يحمل في نظره عيبين كبيرين:
العيب الأول: الإساءة البالغة في محاكاة الحقيقة بالخروج على نظامها الثابت وقانونها المطرد؛ إذ الحقيقة لديه تتمثل في أن الأخيار بالفطرة لا يمكن أن يصيبهم شقاء بسبب أنهم أخيار، فهم سعداء في الدنيا والآخرة، والخير لا ينتج إلا خيرًا، وامتلاء القلب بالمعاني الفاضلة هو الذي يضمن السعادة والأمن لصاحبه حيًّا وميتًا، ولا شيء من الشر يمكن أن يحدث للإنسان الخير، لا في هذه الحياة ولا بعد الموت.
ولذلك حمل “أفلاطون” على الشاعر الإغريقي “هوميروس” صاحب ملحمة (الإلياذة والأوديسة)؛ لأنه كان قدوة سيئة لشعراء الملاحم الذين جاءوا من بعده؛ لأنه في نظره انزلق في شعره إلى ما يناقضه ومحاكاة الحقيقة الثابتة، وذلك حينما رفع أبطاله إلى مواطن الخير التي كان ينبغي أن تصير بهم إلى السعادة الناجمة من طبائعهم الخيرة، ولكنه صورهم في النهاية أشقياء تعساء، وذلك نقيض الحقيقة كما يعتقد “أفلاطون”، فإن الخير من حيث هو فضيلة نفسية لا يفضي بصاحبه إلى تعاسة أو شقاء.
العيب الثاني الذي أخذه على شعر الملاحم والمآسي: مخالفته للحقيقة العلمية، وانتهى في ذلك إلى أن “هوميروس” كان لا يفهم السياسة ولا الطب ولا فنون القتال، وأنه خالف الحقائق العلمية في شعره.
وأما حديثه عن الخطابة فقد كان -كما يقول الدكتور عبد الرحمن عثمان- ممتعًا حقًّا؛ إذ اختط لها طريقا مستقيما تجري فيه، بعد أن سلك بها السوفسطائيون مسالك معوجة اندفعت فيها، ولا زمام لها إلا طلاوة العبارة وحلاوة الوقع اللتان يتأتى بهما الظفر والنجاح، ولو كان في ذلك إلباس الحق ثوب الباطل، أو جحد الحقيقة التي يقوم عليها العدل.
وقد رأى “أفلاطون” أن هذا المنهج السوفسطائي في فن الخطابة لا يخدم الحقيقة ولا يؤدي إلى العدل، وكان يرى أن الفن الخطابي ليس ذلاقة لسان وتمويه حجج، وإنما هو سبيل الحقيقة والرائد إليها، وهذا الفن ينبغي أن يتجه بالعقول والعواطف إلى المعرفة الصادقة وإلا كان بهرجًا وزيفًا، ومن كلامه: “فن الكلام الحق الذي لا يقود إلى تملق الحقيقة، لا وجود له ولن يوجد أبدًا”.
وكان يرى أن على الخطيب أن يحدد الموضوع الذي يتناوله تحديدًا دقيقًا، عن طريق معرفة جنسه وترتيب خصائصه في مراتب متفاوتة، ثم التدرج في مدارج الأنواع التي تنضوي تحت الجنس؛ ليتم له التنسيق في الفكرة على نمط مستوٍ يحقق الجمال في الخطبة.
وكان يرى أن الخطيب يجب أن يكون عالمًا بأحوال المخاطبين وذا بصر بمواطن الخطابة، وعليه أن يطابق بأسلوبه مراتب المستمعين النفسية والعقلية، فإن مطابقة الكلام لمقتضيات الأحوال ترفع من شأن الكلام والمتكلم، وتحقق الغرض المنشود على أبلغ وجه، ومن كلامه في ذلك: “ولكل حالة نفسية نوع خاص من الخطابة”، فعلينا لكي نولّد في النفوس نوعًا من الإقناع أن نطابق بين كلامنا وطبيعتهم، وإذا توافرت للمرء هذه المبادئ عرف متى يجب أن يتكلم، ومتى يجب عليه أن يمتنع عن الكلام، ومتى يليق به أن يكون موجزًا أو مطيلًا أو مبالغًا، أما قبل الوقوف على هذه المبادئ فلا وسيلة له إلى التعرف على ذلك.
جاء بعد “أفلاطون” تلميذه “أرسطو”:
الذي عاش ما بين عامي ثلاثمائة وأربعة وثمانين وثلاثمائة واثنين وعشرين قبل الميلاد، وقد سلك هذا الفيلسوف منهجًا منطقيًّا تحليليًّا في دراسة الأدب واستخلاص قواعد النقد، ولم يتقيد بطريقة أستاذه “أفلاطون” في النظر إلى الفنون، وبخاصة في فن الشعر الذي كانت تعجّ به مسارح “أثينا”، وتهفو إليه ألباب الشباب حينذاك، وكان النموذج الأعلى للشعر والشعراء عند “أرسطو” هو “هوميروس”، أكبر شعراء اليونان وأولاهم بالقبول والتفضيل في رأيه.
وله كتابان يعدان مرجعين لمعرفة آرائه في الشعر وفي الخطابة، وهي الآراء التي تمثل في أغلبها آراء هؤلاء الفلاسفة الثلاثة الكبار، هذان الكتابان هما (فن الشعر) و(الخطابة)، وقد ترجم العرب هذين الكتابين في العصر العباسي، فكتاب (فن الشعر) ترجمه متى بن يونس المتوفى عام ثلاثمائة وثمانية وعشرين من الهجرة، من اللغة السريانية، ثم تتابعت ترجمته وتلخيصه على يدي الفارابي وابن سينا وابن رشد من فلاسفة المسلمين، وترجم إسحاق بن حنين المتوفى سنة مائتين وستين من الهجرة كتاب (الخطابة) لـ “أرسطو” إلى اللغة العربية كذلك.
وأول ما يلفت النظر في الفرق بين آراء “أرسطو” وأستاذه “أفلاطون”: أن “أرسطو” لم يشر إلى الشعر الغنائي في كتابه؛ لأنه يمتهن هذا النوع ولا يحفل به، وقد وجدنا أن “أفلاطون” أولى هذا الشعر الغنائي حظًّا كبيرًا من عنايته وفضّله على شعر الملاحم والمآسي والملاهي، وأذن لشعرائه أن يستوطنوا مدينته الفاضلة؛ لأن هذا الشعر يشيد بالفضائل والخير، ولأن الشعر الملحمي فيه عيوب رآها لا تتفق مع مبادئه التي اعتقدها، ويبدو أن حفاوة “أرسطو” بالشعر الملحمي والشعر التمثيلي كان نتيجة شيوعهما في عصره وما قبل عصره.
وهذان النوعان من الشعر يخضعان لنظرية المحاكاة؛ لأنهما يعرضان قطاعات من الطبيعة وأحوال الناس، والغنائي لا يخضع لهذه النظرية ولهذا تركه، وكان “أرسطو” مؤمنًا بنظرية المحاكاة.
وأهم الآراء التي استخلصها الدارسون، والتي تمثل وجهة “أرسطو” في مجال الشعر ونقده، تتمثل فيما يلي:
أولًا: لا يتاح الفن الشعري إلا لشعراء موهوبين بالفطرة، أو لشعراء على حظ عظيم من المشاعر الفوّارة والعواطف الجيّاشة، فالذين تخطئهم المواهب أو تخمد فيهم العواطف مصروفون عن هذا الفن الرفيع.
ثانيًا: إن معالجة موضوع المأساة والملحمة يحتاج من الشاعر إلى ضبط الفكرة وتنسيق الحدث، فعليه أن يحدد الفكرة العامة وبعد ذلك يؤلف الأحداث الفرعية ويبسطها.
ثالثًا: المحاكاة الفنية في رأيه ينبغي أن تتسم بالبراعة والتفوق من الفنان؛ إذ المقصود منها ليس مجرد تقديم صورة تشابه الأصل المحكي، بل المقصود إبراز نموذج يبزّ الأصل جمالًا وروعة، والوحدة العضوية أمر واجب في بناء العمل على اختلاف مقاصده، فهي شرط أساسي عند “أرسطو” في الملحمة والمأساة والملهاة، وهو يدعو إلى أن يكون تأليف الخرافة الدرامية دائرًا حول فعل واحد تام كله، له بداية ووسط ونهاية؛ لأنه إذا كان واحدا تاما كالكائن الحي أنتج اللذة الخاصة به، وعلى الشاعر إذًا أن يحرص على تحقق الوحدة العضوية في عمله، وأن يؤلف أجزاء الموضوع، بحيث إذا بتر جزء انفرط الكل وتزعزع؛ لأن العمل الأدبي يجب أن يكون كالكائن الحي في استواء أعضائه وتناسبها ووجود كل عضو في مكانه، وأنه لا يغني عضو عن عضو آخر.
رابعًا: ومن آرائه أيضًا التي قررها أن الأسلوب الشعري الجميل يعتمد على براعة الشاعر في استعمال المجازات؛ حتى لا تكون لغته الشعرية مبتذلة ساقطة، ولا نوعًا من الألغاز والتعمية، والوضوح وعدم الابتذال في لغة الشعر يرفعانه إلى المقام الذي يحقق له الحسن وينفي عنه الرداءة، والمدار في كل ذلك على ما يبذله الشاعر من مهارة في اختيار لغته الشعرية.
ولا يوافق “أرسطو” طائفة من النقاد تحكم على الشعر بآراء استقرت لديهم، وليس لها ما يبررها، وكان يلتمس تبرير ما يوجد عند الشعراء من الأمور المستحيلة أو غير المعقولة، ويذهب في هذا التبرير إلى ثلاثة وجوه هي:
أن هذا الأمر المستحيل يجري في الفن الشعري، فإن المستحيل المقنع أفضل من الممكن الذي لا يقنع، وأن استعمال اللامعقول يؤدي إلى غاية منشودة للشاعر، وتصوير أناس على نحو يستحيل وجوده يبرره أن الشاعر يريد أن يقدم قدوة يجب أن تحتذى، والقدوة يجب أن تكون أفضل من عامة الناس، وأحيانًا يقبل اللامعقول على اعتبار أن النزول على ما يشيع من الآراء، مع أن هذا الشائع قد يكون غير معقول؛ لأنه من المحتمل أن الأشياء تقع أحيانًا بخلاف ما هو محتمل، فإذا لم يكن هناك مبرر للشاعر في استعمال اللامعقول فإنه يكون ملومًا ومعيبًا.
وعن الخطأ في الشعر أو خطأ الشعراء خالف “أرسطو” أستاذه “أفلاطون”، فكان “أفلاطون” يعيب الشاعر بأنه لا يفهم في السياسة والطب وفنون القتال؛ ولذلك يقع في الأخطاء العلمية. بينما “أرسطو” يغتفر الخطأ العرضي للشاعر، ولا يبيح له الخطأ في فن الشعر ذاته.
وهو يرى أن النقد إذا قام على دعوى عدم الانطباق على الواقع والحقيقة، فربما يمكن الرد على ذلك بأن نقول: إن الشاعر إنما صوّر الأشياء كما يجب أن تكون، فهو يسمح للشاعر بأن يخالف الحقيقة أو الواقع؛ لأنه يصور الأشياء كما يجب أن تكون، ويستوي عنده أن يصور الشاعر الناس كما يجب أن يكونوا مخالفًا للواقع، أو يمثلهم كما يراهم في واقعهم.
أما آراؤه في الخطابة والتي وردت في كتابه المعنون بهذا العنوان؛ فقد تناول في هذا الكتاب تعريف الخطابة وقسّمها إلى أقسامها الثلاثة: الخطابة السياسية، والخطابة القضائية، والخطابة الحفلية، وتناول موضوعات كل قسم من هذه الأقسام، موضحًا للخطيب ما يسلكه حتى يصل إلى بغيته من الإقناع والتأثير.
وتتلخص آراؤه النقدية المتعلقة بالخطابة فيما يلي:
أولًا: تعتمد الخطابة على أمرين مهمين، هما: إقناع المخاطبين بالبرهان والحجة، وامتلاك عواطفهم بجمال الكلام وروعته، فهذان الأصلان هما قوام الخطابة وحولهما تدور كل البحوث التي عرض لها “أرسطو”، ومن هنا تتضح لنا قيمة الحجج المنطقية وأساليب الجدل ومدى ارتباطهما بهذا الفن الذي يهدف إلى الإقناع، كما يتضح لنا الارتباط بينه وبين البحوث البلاغية التي تحسن الأسلوب وتكسوه جمالًا.
ثانيًا: إذا كانت الخطابة تشبه المنطق في الاحتجاج للشيء ونقيضه، والبرهنة على الحق والباطل، فإن الخطابة بطبيعتها تعتمد على ما للحق والعدل من قوة قاهرة أمام بهرج الظلم وزيف الباطل؛ لأن الحق والعدل لهما من القوة أكثر مما لنقيضهما وهما الباطل والظلم، على أن الطبيعة قد وهبت الناس من الاستعداد ما يكفيهم لمعرفة الحق، فهم يصلون إلى معرفة الحقيقة في أغلب الأحيان. فالهدف الجمالي للخطابة يتمثل في الاعتماد على سلامة البراهين وقوتها؛ لتكشف الحقائق أمام العقول، ولتعطف مشاعر السامعين إلى سبيل العدل والخير.
ثالثًا: لكل قسم من أقسام الخطابة أسلوبه الذي يلائمه؛ حتى يحقق الغاية المرجوة منه، فالخطابة السياسية تختلف عن القضائية وهما يختلفان عن الحفلية.
رابعًا: يكاد “أرسطو” يُرجع كل حسن ومزية إلى مطابقة الخطابة لمقتضيات الأحوال؛ وهو لذلك يتحدث عن أحوال السامعين ومراتبهم بحسب طبائعهم واستعدادهم الثقافي، أو بحسب درجاتهم في المجتمع الذي يعيشون فيه، ويقول في ذلك: “وقد ينبغي أن نصف بعد هذا كيف، وأي ناس يكونون في أخلاقهم على حسب الآلام والهمم والأسنان -أي: الأعمار- والجدود -أي: الحظوظ- وقد أعني بالآلام الغضب والمحبة وما أشبه ذلك، وبالهمم الأمور التي إياها يختار كل صنف منهم ولها يكون فعالا، فأما الأسنان فالحداثة والعنفوان والشيخوخة، وأما الجدود فأعني بها الحسب واليسار وأضداد هذه وكل ما كان من الجد -أي: الحظ- كافة، فلكل حالة ما يناسبها من الكلام، وحين تراعى المطابقة يتحقق الجمال والحسن في الخطابة؛ لأنها ستقع في نفوس المخاطبين موقع الرضا والقبول، باشتمالها على ما يلائم الموقف ملاءمة تستدعي إعجاب السامعين واقتناعهم جميعًا”.
خامسًا: المهارة في عرض الموضوع وتنسيقه تُعلي من هذا الفن، وتهبه التوفيق في إثارة المشاعر وامتلاك العقول، وقد يسبق العرض استهلال ومقدمة، وربما يحتاج الخطيب إلى خاتمة وجيزة تلخص ما تشعب فيه القول.
سادسًا: إذا كانت سبل الإقناع محصورة في البعد عن التناقض والتزام جانب الحق والعدل والمنطق؛ فإن سبيل تحريك الإعجاب يتمثل في اختيار الأسلوب المهذب الذي يعتمد في جماله على الوضوح والدقة، وذلك يستدعي كثيرًا من الهيبة والحذر حين انتخاب الألفاظ لتأخذ مكانها في تأليف الأسلوب، فإن ما نفعله في اللفظ من التبديل أو التغيير ينبغي أن يحدث ببراعة وحذر، كما ينبغي أن يراعى مقتضى الحال في كل موقف ويتطلب نوعًا من الأسلوب يناسبه، فللإيجاز مناسباته وللإطناب مواضعه وللتوسط مقامه وهكذا.
هذه هي أهم آراء “أرسطو” في مجال الخطابة، وقد سبقت آراؤه في مجال الشعر، وبهذا نكون قد قدمنا صورة عن النقد اليوناني القديم، وقد كان لهذا النقد أثر في النقد العربي، بعد أن اطلع العرب على كتب فلاسفة اليونان، وبعد أن اهتم عدد من المترجمين بترجمة تراث هؤلاء الفلاسفة اليونانيين القدماء إلى لغة العرب.
هذا وقد انتقلت آراء “أرسطو” في الشعر والخطابة إلى أدب الرومان، وللشاعر الكبير “هوراس” الذي عاش ما بين عامي خمسة وستين وثمانية قبل الميلاد قصيدة طويلة تضمنت آراءه في النقد الأدبي، وهي متأثرة بآراء “أرسطو”، وهذه القصيدة عرفت بعنوان: فن الشعر، وهو ذاته العنوان الذي وضعه “أرسطو” لكتابه.
والآراء التي وردت في هذه القصيدة، والتي تعبر عن رؤية “هوراس” لفن الشعر تتمثل فيما يلي:
أولًا: الفنان حر في اختيار الطريقة التي يبتكر بها فنه، على أن يلائم بين فنه والواقع الذي يعيش فيه، وعليه أن يلائم بين أجزاء العمل الأدبي حتى يخرج منسجمًا لا اضطراب فيه؛ فإن شأن الكتاب الذي يستحيل تحقيق ما يرد به من صور وأخيلة مثلما يستحيل تحقيق أضغاث أحلام رجل مريض، فإذا وضحت الرؤية وتحددت الصور الفنية والأخيلة الأدبية وتضامت بعضها إلى بعض لتخلق كُلًّا سوي الخلق؛ فإن “هوراس” يهيب بالشاعر أن اكتب ما شئت أن تكتب، ما دام عملك كلًّا منسجمًا.
ثانيًا: ينبغي أن تراعى الخصائص الفنية والنبرات المختلفة في القصائد؛ حتى ينمو العمل، ويخضع لقانون التطور. يقول: “ولم يُكره مني أن أضيف إلى خزانة اللغة القليل الذي تمكنني إضافته.
لقد أبيح وسيباح دائمًا لكل جيل أن يسلك من الألفاظ ما طبعته روح العصر، فكما أن الغابة تستبدل أوراقها كلما انسلخ عام، كذلك الحال في الألفاظ أقدمها أسبقها إلى الزوال، أما الجديد منها فمزهر نامٍ مثل جيل فتيّ”، فهو يرى أن اللغة متجددة، وأن على كل جيل أن يضيف إليها.
ثالثًا: ينبغي أن تراعى المقامات ومقتضيات الأحوال؛ فلكل مقام مقال، ولكل سن ما يناسبها من الأسلوب. يقول: “أصغي إلى ما أتوقعه ويتوقعه الناس معي، لو شئت أن تظفر بجمهور يحييك؛ ينبغي عليك أن تلم بخصائص كل مرحلة من مراحل العمر، فترد إليها الطبائع التي تختلف باختلاف السنين”.
رابعًا: التأثير على مشاعر السامعين هو جوهر الشعر وحقيقته، فقد يكون الشعر جميلًا ولكنه يبدو فاترًا؛ لبعده عن شعور الشاعر ووجدانه، وافتقاره إلى ما يسميه المُحْدَثُون بالصدق الفني. يقول “هوراس”: “ليس بكافٍ أن تكون القصيدة جميلة، بل ينبغي أن يكون لها سحر فتجذب شعور السامع أينما شاء، إن أردت استدرار دموعي وجب أن تحس بنفسك عضة الألم أولًا، وعندئذٍ فقط تحزنني مصائبك”.
ويؤكد “هوراس” وجوب مطابقة الشعر لمقتضى الحال، حيث يقول: “فإذا كانت لغة المتكلم غير مطابقة لحالته؛ فإن “روما” بأسرها راكبيها وراجليها ستجتمع للسخرية منه”.
ويدعو “هوراس” الشاعر إلى أن يكون وثيق الصلة بمنابع الثقافة الأصيلة؛ حتى يتمكن من بلوغ قمة الإجادة والإبداع، وأن الشاعر إذا قصّر في ذلك وأغفله فإن ذلك يضعف نبوغه وملكاته الفنية، فالشاعر عندما يصل نفسه بمنابع الثقافة فإنه يجلب لنفسه احترام الجمهور الذي يسمعه ويتأثر به. يقول: “فأما الشاعر الذي يحرص على الفوز بثناء الجمهور، فعليه أن يكون ممن اغترف من ثقافة اليونان، وانكب على ما خلّفوا ليلًا ونهارًا”.
خامسًا: الإقبال على الحوادث المحلية، وصياغتها في الشعر أمر محمود لدى “هوراس”، على ما فيه من جرأة على الكف عن ترسم خطى الإغريق، الذين وُهبوا النبوغ والعبقرية في صياغة الكلام؛ بشرط ألا يتعثر الشعراء في مهمة الصقل والتثقيف، فالمادة الغزيرة غذاء الشاعر في مهمته، والتفكير الحكيم هو أس الكتابة القويمة وينبوعها، وأخلاقيات “سقراط” توفر المادة اللازمة لهذا، ومتى تهيأت المادة فالألفاظ تتبعها في غير عناد.
سادسًا: يرى “هوراس” أن رسالة الشعر وغايته هي الإفادة أو الإمتاع أو إثارة اللذة، وشرْح عِبَر الحياة في آن واحد، والإفادة تقتضي الإيجاز، والإمتاع يقتضي أن تكون الأحداث قريبة من الواقع قدر المستطاع، فمن مزج النافع بالممتع عن طريق تسلية القارئ وإفادته معًا فقد نال رضا الجميع، هذا هو الكتاب -الكتاب النافع الممتع في رأيه- الذي يضاعف مال الورّاقين ويعبر البحار، ويعود على واضعه بأجَل من الشهرة مديد.
سابعًا: الفن نتاج الموهبة والثقافة معًا، ولا يغني أحدهما عن الآخر شيئًا، بل إن أحدهما ليلحّ في طلب الآخر ويعاهده على صداقة باقية.
هذه هي أهم الآراء التي وردت في قصيدة فن الشعر لـ”هوراس” الناقد الروماني القديم، وهي متأثرة بما ورد في كتاب “أرسطو” (فن الشعر)، وقد اعتمدنا في عرض هذه الآراء لفلاسفة اليونان والرومان من بعدهم على كتاب الدكتور عبد الرحمن عثمان (مذاهب النقد وقضاياه)، وقد كان لهذه الآراء أثر في النقد الأدبي عند العرب.