مرسل الصحابي، وحكمه
مرسل الصحابي:
من المعلوم أن الصحابة رضي الله عنهم قد تحمَّلوا الحديث عن نبيهم صلى الله عليه وسلم، غير أن الصحابة جميعًا لم يُلازموا نبيهم صلى الله عليه وسلم في كل أحواله وأوقاته، بل إن هذا أمرٌ مستحيل؛ فقد شغلوا بأعمال أخرى لا تقل في الفضل عن ملازمته صلى الله عليه وسلم، فلقد خرجوا مجاهدين في سبيل الله تعالى، وأرسل رسول الله صلى الله عليه وسلم منهم من يُعلِّم الناس الإسلام، ويُقرئ الناس القرآن، بل وشغلوا أيضًا بمعاشهم وتحصيل حاجتهم المعيشية؛ فعملوا بالزراعة والتجارة وغير ذلك، مما يحقق للمسلم الحياة الكريمة.
فقد كانت هناك أمور شغلت الصحابة عن ملازمته صلى الله عليه وسلم ملازمة تامة في كل أحواله وأوقاته، غير أنهم لفَرَط حرصهم على تعلم أمور دينهم كان إذا غاب واحد منهم في سفر أو جهاد في سبيل الله، أو غير ذلك من مصالحهم الخاصة أو العامة، سأل الغائب منهم الحاضر عما قال رسول الله صلى الله عليه وسلم فيخبره، بل كان من شدة حرصهم يتناوبون النزول على رسول الله صلى الله عليه وسلم ويُخبر الشاهد منهم الغائب بما قال رسول الله صلى الله عليه وسلم.
عن البراء بن عازب رضي الله عنه قال: “ليس كلنا سمع حديث رسول الله صلى الله عليه وسلم، كانت لنا ضيعة وأشغال وكان الناس لم يكونوا يكذبون يومئذٍ، فيحدث الشاهد الغائب” أخرجه الخطيب البغدادي في كفايته، وأخرجه ابن عدي في (الكامل).
عن أنس بن مالك رضي الله عنه قال: “ليس كل ما نُحدّثكم عن رسول الله صلى الله عليه وسلم سمعناه منه، ولكن حدثنا أصحابنا ونحن قوم لا يكذب بعضهم على بعض”. أخرجه الخطيب البغدادي في كفايته، وأخرجه ابن عدي أيضًا.
ثم إن بعض الصحابة تأخَّر إسلامه كأبي هريرة، فلقد أسلم في العام السابع من الهجرة عام خيبر، ومع أن إسلامه قد تأخَّر إلى هذه الفترة فلم يصحب النبي صلى الله عليه وسلم سوى أربع سنوات تقريبًا، ومع ذلك فهو أكثر الصحابة حديثًا؛ لأنه لازم النبي صلى الله عليه وسلم هذه الفترة وتفرَّغ للسماع منه، وتفرغ بعد وفاته للرواية عنه صلى الله عليه وسلم، وكان في غاية الحرص على حديث رسول الله صلى الله عليه وسلم حتى شهد له النبي صلى الله عليه وسلم بذلك.
ثم إنه سمع من كبار الصحابة ما فاته سماعه من النبي صلى الله عليه وسلم، فتعدَّدت مصادر التحمل بالنسبة لأبي هريرة، وكذلك فقد تحمل صغار الصحابة الحديث عن رسول الله صلى الله عليه وسلم وأكثر حديثهم عن الصحابة الذين سمعوا من رسول الله صلى الله عليه وسلم أمثال عبد الله بن عباس؛ فإنه وإن كان من المكثرين من الرواية إلا إنه لم يسمع من الرسول صلى الله عليه وسلم كل ما حدَّث به عنه، بل معظم الأحاديث التي رواها إنما سمعها من الصحابة عنه صلى الله عليه وسلم وكذلك معظم أحاديث صغار الصحابة فلقد سمعوها من كبار الصحابة.
وعلى هذه الأحاديث التي تحمَّلها الصحابة عن بعضهم عن رسول الله صلى الله عليه وسلم ولم يسمعوها من النبي صلى الله عليه وسلم مباشرة، ولم يذكروا مَن حدَّثهم بها من الصحابة عن الرسول صلى الله عليه وسلم يُطلق العلماء عليها مراسيل الصحابة، ومع أن الصحابة قد تحمَّلوا الحديث عن بعضهم للأسباب التي ذكرناها إلا أنهم في الأغلب والأكثر لم يذكروا مَن حدَّثهم بهذه الأحاديث عن رسول الله صلى الله عليه وسلم وإن ذكروا الواسطة فهذا نادر جدًّا؛ لأنهم قد تقيَّدوا في روايتهم عن الصحابة غالبًا، والصحابة جميعًا عدول بتعديل الله ورسوله صلى الله عليه وسلم فلا تضر جهالة أعينهم بصحة الحديث.
فإذا روى الصحابي عن تابعي، وهذا قليل جدًّا نصَّ على ذلك حتى لا يقع لبس، وأكثر ما روى الصحابة عن التابعين إنما هي إسرائيليات وحكايات موقوفة وليست أحاديث مرفوعة.
حكم مرسل الصحابي:
سبق أن ذكرنا حكم مرسل غير الصحابي، ورأينا أن العلماء اختلفوا فيه فمنهم من ردَّه مطلقًا، ومنهم من قبله بشروط، ومنهم من فضَّله على الحديث المتصل، وذكرنا أن السبب في هذا الخلاف يرجع إلى أن الساقط من الإسناد يحتمل أن يكون غير صحابي؛ لأن التابعين لم يتقيدوا في روايتهم عن الصحابة، بل روى التابعون عن الصحابة وعن التابعين أيضًا، ولم يتقيَّدوا أيضًا في روايتهم عن الثقات من التابعين؛ بل روى التابعون عن الثقات وعن الضعفاء والمجاهيل.
ومما لا شك فيه أن الخلاف فيما أرسله الصحابي سيضيق جدًّا؛ لأن احتمال أن يكون الساقط من الإسناد غير صحابي أصبح نادرًا جدًّا، والنادر يُنزَّل منزلة المعدوم.
أولًا: مذهب الجمهور، ذهب الجمهور الأعظم من الأئمة إلى أن مرسل الصحابي حديث صحيح يجب العمل به، ولم يُخالف في ذلك إلا عدد قليل من العلماء حتى أن الشيخ أبا عمرو بن الصلاح لم يعتدّ بخلافهم، ولم يعوّل على رأيهم، فلم يذكر لهم رأيًا أصلًا، وهذا هو المذهب الصحيح الذي عليه العمل في كتب السنة كما سنوضح ذلك.
قال الشيخ أبو عمرو بن الصلاح بعد أن ذكر الخلاف الذي ذكرناه في مرسل غير الصحابي، وأنه مع الذين قالوا بضعفه ثم إنا لم نَعُدّ في أنواع المرسل ونحوه ما يُسمى في أصول الفقه مرسل الصحابي، مثل ما يرويه ابن عباس وغيره من أحداث الصحابة عن رسول الله صلى الله عليه وسلم ولم يسمعوه منه؛ لأن ذلك في حكم الموصول المسند؛ لأن رواياتهم عن الصحابة، والجهالة بالصحابي غير قادحة؛ لأن الصحابة كلهم عدول، والله أعلم.
قال العراقي: “وقد روى البخاري عن الحميدي قال: إذا صح الإسناد عن الثقات إلى رجل من أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم فهو حجة، وإن لم يُسمّ ذلك الرجل”.
قال الحافظ العراقي: “إن المحدثين وإن ذكروا مراسيل الصحابة فإنهم لم يختلفوا في الاحتجاج بها، أما الأصوليون فقد اختلفوا فيها، فذهب الأستاذ أبو إسحاق الإسفرايني إلى أنه لا يحتج بها وخالفه عامة أهل الأصول، فجزموا بالاحتجاج بها.
قال الإمام الذهبي: قال يزيد بن هارون: سمعت شعبة يقول: كان أبو هريرة يُدلّس”. قال الحافظ الذهبي: “تدليس الصحابة كثير ولا عيب فيه، فإن تدليسهم عن صاحب أكبر منهم، والصحابة كلهم عدول”.
وجهة نظرهم:
ترجع وجهة نظر هؤلاء الأئمة الذين قبلوا مراسيل الصحابة إلى الآتي: الساقط من الإسناد صحابي، وذلك لأن الصحابة تقيَّدوا في روايتهم في الأعم الأغلب عن الصحابة، والصحابة جميعًا عدول بتعديل الله ورسوله لهم، فلا تضر إذًا جهالة عين الصحابي بصحة الحديث؛ لأن العلماء إنما يبحثون عن الراوي لمعرفة حاله، وهل هو عدل فنقبل حديثه، أم غير عدل فنردّ حديثه.
والصحابة جميعًا عرفنا حالهم وأنهم عدول فليسوا بحاجة إلى تزكية أحد لهم، ثم إن الصحابة لم يَرْوُوا عن التابعين إلا نادرًا جدًّا، فإذا روى الصحابة عن التابعين بيَّنوا ذلك، وغالب ما رواه الصحابة عن التابعين ليست أحاديث مرفوعة بل حكايات وإسرائيليات وموقوفات، ثم إن هذا هو الذي عليه عمل أهل الحديث في مصنفاتهم، حتى من شرط منهم ألا يخرج إلا الصحيح كالإمامين الجليلين البخاري ومسلم وغيرهما؛ فلقد خرج الإمام البخاري ومسلم في صحيحيهما أحاديث كثيرة لا تُحصى من هذا النوع، لم يسمعها الصحابي الذي حدَّث بها من رسول الله صلى الله عليه وسلم بل سمعها من صحابي آخر سمعها من النبي صلى الله عليه وسلم وعند التحديث بها أسقط الواسطة التي بينه وبين النبي صلى الله عليه وسلم.
المذهب الثاني: ذهب بعض العلماء إلى ردِّ مراسيل الصحابة واعتبروها ضعيفة، وقالوا: إنها كمراسيل غيرهم لا فرق في ذلك؛ لاحتمال تلقيهم عن بعض التابعين، وهذا مذهب مردود لما بيّنّاه سابقًا، وأن مرسل الصحابي لا يُقاس على مرسل غيره، فهذا قياس مع الفارق الشديد، والقياس مع الفارق باطل. كما أن هذا المذهب مُخالفٌ لما عليه عمل أهل الحديث جميعًا في مصنفاتهم بما في ذلك مَن شرط في كتابه الصحة كالإمامين الجليلين البخاري ومسلم وغيرهم، وقد ذكر الخطيب البغدادي المذهبين في كفايته، وانتصر لأصحاب المذهب الأول الذي قال: إن مرسل الصحابي حُجة يجب العمل به.