Top
Image Alt

مرسل الصحابي

  /  مرسل الصحابي

مرسل الصحابي

تعريف الإرسال لغة، ومرسل الصحابة اصطلاحًا:

المرسل في لغة العرب مشتق من الإرسال، والإرسال هو الإطلاق والتسليط والإهمال والتوجيه.

قال ابن منظور في (لسان العرب): أرسل الشيء أطلقه وأهمله.

ولذلك يقول الله تعالى: {أَلَمْ تَرَ أَنّآ أَرْسَلْنَا الشّيَاطِينَ عَلَى الْكَافِرِينَ تَؤُزّهُمْ أَزّاً} [مريم: 83] بمعنى أطلقنا، وقيل: إن الإرسال مأخوذ من قولهم: “جاء القوم أرسالًا” -أي: متفرقين- لأن بعض الإسناد منقطع عن بعضه.

وقيل: المرسل مأخوذ من قولهم: ناقة مرسال –أي: سريعة السير، كأن المرسل للحديث أسرع فحذف بعض إسناده.

أما المرسل في الاصطلاح فقد اختلف العلماء في تعريفه اصطلاحًا على أقوالٍ كثيرة، نذكر أهم هذه الأقوال:

القول الأول: إنه ما رواه التابعي الكبير عن النبي صلى الله عليه  وسلم، واحترز بالكبير عن التابعي الصغير، فكأن هذا التعريف الأول للمرسل فرق بين التابعي الكبير والتابعي الصغير، فقال: ما رواه التابعي الكبير عن النبي صلى الله عليه  وسلم وفي هذا احتراز عن التابعي الصغير، فإن حديثه يسمى منقطعًا لا مرسلًا، والفرق بينهما أن التابعي الذي لقي جمعًا كثيرًا من الصحابة وروى عنهم هو تابعي كبير، كعبيد الله بن عدي بن الخيار، وسعيد بن المسيب، وعلقمة بن قيس النخعي، وأبي مسلم الخولاني حكيم هذه الأمة، ومسروق، وكعب الأحبار، وغيرهم، هذا يسميه العلماء بالتابعي الكبير.

أما من صح له لقاء بعض الصحابة وقلت روايته عنه فهذا يسميه العلماء بالتابعي الصغير، ومثاله: يحيى بن سعيد الأنصاري، وأبي حازم، وابن شهاب رضي الله عن الجميع، وهذا التعريف فيه نظر؛ إذ المشهور عند المحدثين التسوية بين التابعين أجمعين، لا فرق بين كبيرهم وصغيرهم.

القول الثاني: إن المرسل: رواية الراوي عمن لم يسمع منه، ويدخل في هذا التعريف قول الصحابي والتابعي إذا رواه عنهما مَن لم يسمعه منهما؛ لأن رواية الراوي عمن لم يسمع منه يجوز أن يكون الراوي لم يسمع من الصحابي أو لم يسمع من التابعي ثم ينسب الحديث إلى هذا الصحابي وإلى هذا التابعي.

القول الثالث: أن المرسل ما رواه التابعي عن النبي صلى الله عليه  وسلم قولًا أو فعلًا أو تقريرًا كبيرًا كان التابعي أو صغيرًا، وهذا التعريف هو المشهور بين أئمة الحديث وبه قطع الحاكم ووافقهم جمع من الفقهاء والأصوليين.

القول الرابع: يعرف بعض الأصوليين المرسل فيقولون: الحديث المرسل: هو قول العدل الذي لم يلقِ النبي صلى الله عليه  وسلم: قال رسول الله صلى الله عليه  وسلم.

وواضح أن هذا التعريف أعم من تعريف المحدثين؛ لأنه يشمل المرسل والمنقطع والمعضل وغيرها عند المحدثين.

2. أسباب ودواعي الإرسال:

ذكر العلماء أسبابًا ودواعي للإرسال يمكن أن نلخصها في النقاط التالية:

السبب الأول: أن يكون المرسل -الراوي المرسل- سمع الحديث عن جماعةٍ ثقات وصح عنده الحديث فيرسل اعتمادًا على صحته عن شيوخه، فإذا أراد أن يروي الحديث يقول: قال رسول الله صلى الله عليه  وسلم ولم يذكر الثقات الذين رووا الحديث أصلًا؛ لأنه مطمئن إلى ثقتهم، كما صح عن إبراهيم النخعي قال: ما حدثتكم عن ابن مسعود فقد سمعته عن غير واحدٍ، وما حدثتكم وسميت فهو عمن سميت.

السبب الثاني: من أسباب إرسال الحديث: هو أن يكون المرسل نسي من حدثه وعرف المتن فذكره مرسلًا، وأصل طريقته ألا يحمل إلا عن ثقة –يعني: هو أخذ على نفسه عهدًا بدايةً ألا ينقل الحديث إلا عن ثقة- فإذا ما أرسل الحديث والحالة هذه فهو يرسل عن ثقة وبالتالي يكون هذا سببًا وجيهًا للإرسال.

السبب الثالث: ألا يقصد المرسل التحديث –يعني: لما ذكر الحديث لم يكن مقصوده أن يحدث به- بل يذكره على وجه المذاكرة أو على جهة الفتوى، فيذكر المتن حينئذٍ لأنه المقصود في تلك الحالة دون السند، وهذا أيضًا من الأسباب الوجيهة.

هذه أهم الأسباب أو أشهر الأسباب لإرسال الحديث.

3. أنواع المرسل:

المرسل نوعان: النوع الأول: مرسل الصحابي، والنوع الثاني: مرسل غير الصحابي.

النوع الأول: مرسل الصحابي: ما رواه الصحابي عن النبي صلى الله عليه  وسلم بواسطة صحابيٍ آخر ولم يسمه –يعني: الصحابي الذي روى الحديث لم يقول: قال الصحابي فلان قال رسول الله صلى الله عليه  وسلم كذا.

مثال ذالك: قول ابن عباس رضي الله  عنهما قال رسول الله صلى الله عليه  وسلم: ((إنما الربا في النسيئة))، فلما استكشف –يعني: طلب من ابن عباس أن يقول: من الذي حدثه بهذا الحديث- قال: حدثني به أسامة بن زيد، وسيأتي لمرسل الصحابي مزيد بيان إن شاء الله بعد قليل.

النوع الثاني: مرسل غير الصحابي: أن يقول الثقة الذي لم يلق النبي صلى الله عليه  وسلم: قال رسول الله صلى الله عليه  وسلم.

4. حكم مرسل الصحابة:

الصحيح المشهور الذي قطع به الجمهور أن مرسل الصحابي صحيح محتج به؛ لأنَّه لا يروي غالبًا إلا عن صحابي، والصحابة كلهم عدول، ورواية الصحابة عن التابعين نادرة وإذا رووا عنهم بينوها، فإذا لم يبينوا وقالوا: قال رسول الله صلى الله عليه  وسلم فالأصل أنهم سمعوها من صحابي، وحذف الصحابي لا يضر كما ذكر ابن الصلاح، هذا هو مذهب جمهور أهل العلم، ولم يخالف في هذا إلا الأستاذ أبو إسحاق الإسفراييني وطائفة يسيرة من أهل العلم، فقالوا: إن مرسل الصحابي لا يحتج به، ثم قالوا: لا لأجل الشك في عدالته، فالصحابة كلهم عدول، بل لأجل أنه قد يروي الراوي منهم عن تابعي وعن أعرابي لا تعرف صحبته ولا عدالته؛ فلذلك يجب العمل بترك مرسله، قال الأستاذ أبو إسحاق الإسفراييني: إلا أن يخبر الصحابي عن نفسه أنه لا يروي إلا عن النبي صلى الله عليه  وسلم أو عن صحابي، فحينئذٍ يجب العمل بما يروي..

هذا ويؤيد كلام الجمهور أن الصحابة والتابعين أجمعوا على قبول المراسيل من العدل، فهذا دليل من الإجماع على قبول مرسل الصحابي؛ لأن الصحابة كلهم عدول، أما منهج الصحابة أو موقف الصحابة من الحديث المرسل فإنهم قبلوا أخبار عبد الله بن عباس رضي الله  عنهما مع كثرة روايته، وقد قيل: إنه –يعني: ابن عباس رضي الله  عنهما لم يسمع من رسول الله صلى الله عليه  وسلم سوى أربعة أحاديث لصغر سنه.

إذن هذا دليل على قبول مراسيل الصحابة، ومن أمثلة ذلك أنه لما روى عن رسول الله صلى الله عليه  وسلم: ((إنما الربا في النسيئة))، وروجع فيه فقال أخبرني به أسامة بن زيد، إذن ابن عباس رضي الله  عنهما لم يسمع الحديث مباشرة وإنما سمعه من أسامة بن زيد، ومع ذلك قبل الصحابة حديث ابن عباس رضي الله  عنهما وقد صرح بعض الصحابة بأن في الذي يرويه ما هو مرسل كما تقدم في قول البراء بن عازب: ليس كل ما نحدثكم به سمعناه من رسول الله صلى الله عليه  وسلم ولكن سمعنا وحدثنا أصحابنا ولم يكن بعضنا يُكذب بعضًا، أو يَكذب بعضًا، هذا بالنسبة لموقف الصحابة.

وأما التابعون فقد كان من عادتهم إرسال الأخبار، ويدل على ذلك ما روي عن الأعمش أنه قال: قلت لإبراهيم النخعي إذا حدثتني فأسند –يعني: أسند الحديث- وأذكر الحديث بسنده إلى رسول الله صلى الله عليه  وسلم فقال: إذا قلت لك: حدثني فلان عن عبد الله –يعني: ابن مسعود- فهو الذي حدثني وإذا قلت لك: حدثني عبد الله فقد حدثني جماعة عنه، وأيضًا ما روي عن الحسن البصري أنه روى حديثًا فلما روجع فيه قال: حدثني به سبعون بدريًّا –يعني: ممن حضروا غزوة بدر.

وأيضًا ما اشتهر من إرسال ابن المسيب والشعبي وغيرهما ولم يزل مشهورًا فيما بين الصحابة والتابعين من غير نكير فكان إجماعًا.

5. مذاهب العلماء في مرسل غير الصحابي:

مرسل غير الصحابي هو: أن يقول الثقة الذي لم يلق النبي صلى الله عليه  وسلم: قال رسول الله صلى الله عليه  وسلم، وفي هذا يقول ابن قدامة: “فصل، فأما مراسيل غير الصحابة، وهو أن يقول: قال النبي صلى الله عليه  وسلم من لم يعاصره، أو يقول: قال أبو هريرة من لم يدركه”.

وقد اختلف أهل العلم في قبول مرسل غير الصحابي، وكان خلافهم على أقوال عدة، نذكر أشهرها:

القول الأول: قبول المرسل -مرسل غير الصحابي- مطلقًا، وفي هذا يقول ابن قدامة -رحمه الله: “ففيها روايتان –يعني: في مرسل غير الصحابي: إحداهما: تقبل –يعني: مراسيل غير الصحابة مقبولة- اختارها القاضي –يعني: أبو يعلى- وهو مذهب مالك وأبو حنيفة وجماعة من المتكلمين”، وهذا القول نسبه الآمدي وغيره إلى الأئمة: أبي حنيفة، ومالك، وأحمد في أشهر الروايتين عنه، ونسبه كذلك إلى جماهير المعتزلة، هذه هي الرواية الأولى أو القول الأول.

هذا وقد أطلق كثير من أهل العلم قبول المرسل إلا الإمام أبي حنيفة، والإمام مالك، والإمام أحمد -رحمهم الله جميعًا- والحق أن هؤلاء الأئمة الأعلام لم يقبلوا المرسل مطلقًا، وإنما لهم شروط وضوابط.

6. مذهب الشافعي محققا، وشروطه لقبول المرسل:

أما الإمام الشافعي: فقد اختلف أهل العلم في موقفه واضطرب النقل عن الإمام الشافعي في موقفه من الحديث المرسل، والذي نستطيع أن نؤكده في موقف الإمام الشافعي أن الإمام الشافعي لم ينفِ قبول مرسل غير الصحابي مطلقًا، بل قبله ولكن بقيود، وهي:

القيد الأول: أن الإمام الشافعي يقبل الحديث المرسل إذا قواه مسند غيره في معنى ما روى.

القيد الثاني: أن الإمام الشافعي يقبل الحديث المرسل إذا أرسله آخر، وشيوخهما مختلفة.

القيد الثالث: أن الشافعي يقبل الحديث المرسل عنده إذا كان المرسل من كبار التابعين؛ ولذلك اشتهر عن الشافعي أنه يقبل مراسيل سعيد بين المسيب؛ لأن سعيد بن المسيب من كبار التابعين.

القيد الرابع: أن الشافعي يقبل الحديث المرسل إذا قواه عمل صحابي أو قول صحابي، يعني الحديث المرسل إذا قواه فعل الصحابي أو قول الصحابي فالشافعي يأخذ به.

القيد الخامس: أن الشافعي يقبل الحديث المرسل إذا قواه قول أكثر أهل العلم.

القيد السادس: أن الشافعي يقبل الحديث المرسل إذا عرف من حال المرسِل أنه لا يروي إلا عن ثقة.

هذه قيود وضوابط وضعها الإمام الشافعي في قبول الحديث المرسل.

7. أدلة القائلين بقبول مرسل غير الصحابي:

استدل القائلون بقبول مرسل غير الصحابي بالقرآن العزيز، والإجماع، والمعقول:

أولًا: من القرآن:

الدليل الأول: قول الله تعالى: {فَلَوْلاَ نَفَرَ مِن كُلّ فِرْقَةٍ مّنْهُمْ طَآئِفَةٌ لّيَتَفَقّهُواْ فِي الدّينِ وَلِيُنذِرُواْ قَوْمَهُمْ إِذَا رَجَعُوَاْ إِلَيْهِمْ لَعَلّهُمْ يَحْذَرُونَ} [التوبة: 122]، ووجه الاستدلال: أن الآية الكريمة أوجبت على الطائفة إذا رجعت إلى قومها أن تنذرهم، ولم تفرق الآية في الإنذار بين ما أرسلوه وما أأسندوه، وعليه فهي تدل على قبول المرسل مطلقًا.

الدليل الثاني: قول الله تعالى: {يَأَيّهَا الّذِينَ آمَنُوَاْ إِن جَآءَكُمْ فَاسِقُ بِنَبَإٍ فَتَبَيّنُوَاْ أَن تُصِيببُواْ قَوْمَا بِجَهَالَةٍ فَتُصْبِحُواْ عَلَىَ مَا فَعَلْتُمْ نَادِمِينَ} [الحجرات: 6]، ووجه الاستدلال من الآية الكريمة: أنها تدل على وجوب التبين والتثبت إذا جاء بالنبأ فاسقٌ، فإن كان غير فاسق وجب قبول خبره مطلقًا سواء كان مسندًا أو مرسلًا.

الدليل الثالث: قال أصحاب هذا الرأي: إن رواية العدل عن الأصل المسكوت عنه تعديل له؛ لأنه لو روى عن من ليس بعدل ولم يبين حاله لكان ملبسًا غاشًا، قال الرازي -رحمه الله: “لنا أن عدالة الأصل غير معلومة، فلا تكون روايته مقبولة”، وهذا اعتراض على هذا الدليل الثالث من قبل المانعين لقبول المرسل.

الدليل الرابع: أن إسناد الحديث المرسل إلى الرسول صلى الله عليه  وسلم يقتضي صدقه؛ لأن إسناد الكذب ينافي العدالة، وإذا ثبت صدقه تعين قبوله، وفي هذا يقول ابن قدامة -رحمه الله: “إن الظاهر من العدل الثقة أنه لا يستجيز أن يخبر عن النبي صلى الله عليه  وسلم بقول ويجزم به إلا بعد أن يعلم ثقة ناقله وعدالته، ولا يحل له إلزام الناس عبادة، أو تحليل حرام، أو تحريم مباح بأمر مشكوك فيه، فيظهر أن عدالته مستقرة عنده فهو بمنزلة قوله: أخبرني فلان، وهو ثقة عدل”.

8. أدلة القائلين بعدم قبول مرسل غير الصحابي:

وأما الرأي الثاني، أو المذهب الثاني في مسألة مرسل غير الصحابي فهو: أنه يقبل مرسل العصور الثلاثة: عصر الصحابة وعصر التابعين، وعصر تابعي التابعين، ولا يقبل في غيرها من العصور إلا من أئمة النقل الذين لهم أهلية الجرح والتعديل.

ودليل هذا المذهب حديث النبي صلى الله عليه  وسلم: ((خير القرون قرني، ثم الذين يلونهم، ثم الذين يلونهم))، فهذا الحديث يدل على خيرية أهل القرون الثلاثة الأولى، وعليه فتكون مراسيلهم مقبولة، وأما أئمة النقل فقد عرفوا بالبحث والاطلاع ومعرفة أحوال الرواة فإذا أرسلوا فذلك لمعرفة من أرسلوا عنه معرفة توجب اطمئنان النفس إلى صدقه وعدم الشك فيه. وهذا القول اختاره ابن الحاجب -رحمه الله.

9. أثر اختلاف الفقهاء في حجية الحديث المرسل:

رتب الفقهاء على الاحتجاج بالحديث المرسل بعض الفروع الفقهية نذكر بعض الأمثلة لتبين الثمرة من الاختلاف في حجية الحديث المرسل.

المسألة الأولى: مسألة الموالاة في الوضوء، هل الموالاة في الوضوء واجبة أو ليست بواجبة؟ وسبب اختلاف الفقهاء في هذه المسألة هو اختلافهم في حجية الحديث المرسل، وهذا يتضح على هذا النحو: روى الإمام أحمد وأبو داود عن خالد بن معدان عن بعض أصحاب النبي صلى الله عليه  وسلم: ((أن النبي صلى الله عليه  وسلم رأى رجلًا يصلي وفي ظهر قدميه لمعة قدر الدرهم لم يصبها الماء، فأمره النبي صلى الله عليه  وسلم أن يعيد الوضوء والصلاة)).

ومن لم يحتج بالمرسل لم يوجب الموالاة في الوضوء، وهو مذهب الإمام الشافعي في الجديد، والإمام أحمد في رواية عنه، وهو قول أبي حنيفة، واستدلوا بظاهر الآية: {يَا أَيّهَا الّذِينَ آمَنُواْ إِذَا قُمْتُمْ إِلَى الصّلاةِ فاغْسِلُواْ وُجُوهَكُمْ وَأَيْدِيَكُمْ إِلَى الْمَرَافِقِ وَامْسَحُواْ بِرُؤُوسِكُمْ وَأَرْجُلَكُمْ إِلَى الْكَعْبَينِ} [المائدة: 6] قالوا: ولأنَّ المأمور به غسل الأعضاء فكيفما غسل جاز.

المسألة الثانية: مسألة الوضوء من القبلة، هل مَن يقبل امرأته يلزمه الوضوء، أو لا يلزمه الوضوء؟ وسبب الخلاف: أنه ورد في المسألة حديث مرسل، فقد روى أبو داود والنسائي والترمذي وابن ماجه وغيرهم عن إبراهيم التيمي عن عائشة رضي الله  عنه: ((أن النبي صلى الله عليه  وسلم قبل امرأة من نسائه وخرج إلى الصلاة ولم يتوضأ))، ووري أيضًا عن عروة عن عائشة، قال أبو داود: هو مرسل، إبراهيم التيمي لم يسمع من عائشة، وطالما أن إبراهيم التيمي لم يسمع من عائشة إذن فالحديث مرسل، وقال الترمذي: وقد روى إبراهيم التيمي عن عائشة أن النبي صلى الله عليه  وسلم قبلها ولم يتوضأ، وهذا لا يصح أيضًا، ولا نعرف لإبراهيم التيمي سماعًا عن عائشة، وقال النسائي: ليس في هذا الباب حديث أحسن منه ولكن مرسل، وقال ابن حجر: روي من عشرة أوجه عن عائشة أوردها البيهقي في الخلافيات وضعفها.

فمن قبل المرسل احتج بهذا الحديث، وقال: إن لمس المرأة وتقبيلها لا ينقض الوضوء، وإلى ذلك ذهب الإمام أبو حنيفة، والإمام أحمد في أحمد في إحدى الروايات عنه، وروي ذلك عن علي بن أبي طالب، وابن عباس، وعطاء، وطاوس، والحسن، ومسروق رضي الله  عنهم جميعًا.

وذهب الشافعي وأحمد في الرواية الثانية عنه إلى أن القبلة تنقض الوضوء؛ لعموم قوله تعالى: {أَوْ لاَمَسْتُمُ النّسَآءَ} [النساء: 43].

المسألة الثالثة: تبين لنا أثر الاختلاف في الاحتجاج بالحديث المرسل، وهذه المسألة في جعل الصداق منفعة، هل يصح أن يتزوج إنسان امرأة ويكون صداقها منفعة؟ سبب الخلاف بين العلماء في مسألة جعل الصداق منفعة هو اختلافهم في الحديث المرسل، هل هو محتج به أو لا؟ فقد روى سعيد بن منصور في سننه عن أبي النعمان الأزدي قال: ((زوج رسول الله صلى الله عليه  وسلم رجلًا على سورة من القرآن، ثم قال: لا تكون لأحد بعدك مهرًا))، وهذا الحديث مرسل، فمن رأى الاحتجاج بالحديث المرسل ذهب إلى أن جواز كون المنفعة صداقًا مختص بذلك الرجل الذي زوجه النبي صلى الله عليه  وسلم لقوله في الحديث: ((لا تكون لأحد بعدك))، وهو مذهب مالك، والليث، وأبي حنيفة، ومكحول، وإسحاق، وقالوا: إن الفروج لا تستباح إلا بالأموال، لقوله تعالى: {أَن تَبْتَغُواْ بِأَمْوَالِكُمْ} [النساء: 24]، ولقوله تعالى: {وَمَن لّمْ يَسْتَطِعْ مِنكُمْ طَوْلاً أَن يَنكِحَ الْمُحْصَنَاتِ الْمُؤْمِنَاتِ} [النساء: 25]، والطول هو المال، قالوا: ولأنَّ تعليم القرآن لا يجوز أن يقع إلا قربة لفاعله، فلم يصح أن يكون صداقًا، قالوا: كالصلاة، والصوم وتعليم الإيمان، وقالوا: لأنَّ التعليم من المعلم والمتعلم مختلف فلا يكاد ينضبط فأشبه الشيء المجهول، وذهب الشافعي والإمام أحمد في إحدى الروايتين عنه إلى جواز كون المنفعة صداقًا ولو كانت قرآنًا، يعني يصح أن يتزوج الإنسان امرأة على أن يعلمها شيئًا: حرفة، أو يحفظها شيئًا من القرآن، أو نحو ذلك، قالوا: وذلك لأي رجل بدون استثناء، المذهب الأول قالوا: يجوز أن تكون المنفعة صداق لكن لهذا الرجل بعينه الذي خصه النبي صلى الله عليه  وسلم بهذا.

والمذهب الثاني عند الشافعي وأحمد: قالوا: يجوز أن تكون المنفعة صداقًا مطلقًا لأي رجل وبدون استثناء، واحتجوا بما روى سهل بن سعد الساعدي: ((أن رسول الله صلى الله عليه  وسلم جاءته امرأة فقالت: إني وهبت نفسي لك، فقامت طويلًا –يعني: وقفت وقتًا طويلًا تعرض نفسها على رسول الله صلى الله عليه  وسلم فقال رجل: يا رسول، زوجنيها إن لم يكن لك بها حاجة، فقال: هل عندك من شيء تصدقها –يعني؟ هل عند صداق تعطه إياها-؟ فقال: ما عندي إلا إزاري، فقال رسول الله صلى الله عليه  وسلم: إزارك، إن أعطيتها إياه جلست ولا إزار لك فالتمس شيئًا، قال: لا أجد، قال: التمس ولو خاتمًا من حديد، فالتمس فلم يجد شيئًا، فقال رسول الله صلى الله عليه  وسلم: زوجتكها بما معك من القرآن))، الحديث رواه البخاري ومسلم، قالوا: فهذا الحديث دليل على جواز أن يكون الصداق منفعة، قالوا: ولأنها منفعة معينة مباحة فجاز جعلها صداقًا.

المسألة الأخيرة: التي نذكرها كثمرة لاختلاف العلماء في الاحتجاج بالحديث المرسل هي: العقيقة عن الغلام وعن الجارية:

فخلاف العلماء في هذه المسألة مبناه على اختلافهم في الاحتجاج بالحديث المرسل، فمن احتج بالحديث المرسل جعل العقيقة شاة عن الذكر وعن الأنثى، ومن لم يحتج به جعل عن الغلام شاتان وعن الجارية شاة.

هذا، وأمثلة الحديث المرسل كثيرة، لا يخلو منها باب من أبواب الفقه الإسلامي، وقد ذكرنا نماذج وأمثلة يتضح بها بيان أثر اختلاف العلماء في الاحتجاج بالحديث المرسل.

error: النص محمي !!