مزايا اختص بها القرآن عن سائر الكتب المنزلة
أ. هداية القرآن الكريم لأقوم العقائد:
لقد أرسل الله تعالى نبيه محمدًا صلى الله عليه وسلم في مجتمعٍ جاهليٍّ, بكلِّ ما تحمله كلمة جاهلي من معنى؛ حين غابت شمس الرسالة الإلهية، ونسي الناس الوحي الذي جاء في رسالات الرسل السابقة، ولحق التحريف تلك الكتب السماوية، وبدأ الناس يعيشون في ظلامٍ دامس، فلا كتاب يُنقذهم مما هم فيه، ولا شريعة تُنير لهم الطريق وتُهذب لهم الأخلاق، فلما بعث الله نبينا محمدًا صلى الله عليه وسلم وأوحى إليه القرآن الكريم؛ أخرج الناس من الظلمات إلى النور، وحرر العباد من عبادة غير الله تعالى إلى عبادة الله تعالى وحده، وربط العقول ببارئها، وعلق النفوس بمنشئها بعدما كانت متعلقة بمظاهر الكون؛ حيث كانت عبادة الأصنام شائعة في مجتمع الجاهلية، فهدى الله بالقرآن أولئك الأقوام الذين وصفنا حالهم إلى التوحيد الخالص، ونبذ الشرك ووسائله حتى هربت الخرافة تجر أذيال الهزيمة؛ خوفًا من أنوار التوحيد الساطعة.
يقول الشيخ محمد الأمين الشنقيطي -رحمه الله- في تفسير قول الله تعالى: {إِنَّ هَـذَا الْقُرْآنَ يِهْدِي لِلَّتِي هِيَ أَقْوَمُ}:
ذكر -جل وعلا- في هذه الآية الكريمة, أن هذا القرآن العظيم الذي هو أعظم الكتب السماوية، وأجمعها لجميع العلوم، وآخرها عهدًا برب العالمين -جل وعلا- يهدي للتي هي أقوم، أي: الطريقة التي هي أشد وأعدل وأصوب.
وهذه الآية الكريمة أجمل الله فيها جميع ما في القرآن من الهدى إلى خير الطرق وأعدلها وأصوبها، فلو تتبعنا تفصيلها على وجه الكمال لأتينا على جميع القرآن العظيم؛ لشمولها لجميع ما فيه من الهدى إلى خيري الدنيا والآخرة، ولكننا -إن شاء الله تعالى- سنذكر جُملًا وافرةً في جهات مختلفة كثيرة, من هدي القرآن للتي هي أقوم بيانًا لبعض ما أشارت إليه الآية الكريمة, تنبيهًا ببعضه على كلِّه من المسائل العظام، والمسائل التي أنكرها الملحدون من الكفار، وطعنوا بسببها في دين الإسلام؛ لقصور إدراكهم على معرفة حِكمها البالغة.
فمن ذلك: توحيد الله -جل وعلا- فقد هدى القرآن فيه للتي هي أقوم الطرق وأعدلها، وهي توحيده -جل وعلا- في ربوبيته، وفي عبادته، وفي أسمائه وصفاته، وقد دلَّ استقراء القرآن العظيم على أن توحيد الله ينقسم إلى ثلاثة أقسام:
الأول: توحيده في ربوبيته:
وهذا النوع من التوحيد جُبلت عليه فِطر العقلاء، قال تعالى: {وَلَئِن سَأَلْتَهُم مَّنْ خَلَقَهُمْ لَيَقُولُنَّ اللَّهُ} الآية [الزخرف: 87]، وقال: {قُلْ مَن يَرْزُقُكُم مِّنَ السَّمَاء وَالأَرْضِ أَمَّن يَمْلِكُ السَّمْعَ والأَبْصَارَ وَمَن يُخْرِجُ الْحَيَّ مِنَ الْمَيِّتِ وَيُخْرِجُ الْمَيَّتَ مِنَ الْحَيِّ وَمَن يُدَبِّرُ الأَمْرَ فَسَيَقُولُونَ اللّهُ فَقُلْ أَفَلاَ تَتَّقُون} [يونس: 31]، وإنكار فرعون لهذا النوع من التوحيد في قوله: {قَالَ فِرْعَوْنُ وَمَا رَبُّ الْعَالَمِين} [الشعراء: 23] تجاهلٌ من عارف أنه عبدٌ مربوب بدليل قوله تعالى: {قَالَ لَقَدْ عَلِمْتَ مَا أَنزَلَ هَـؤُلاء إِلاَّ رَبُّ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ بَصَآئِرَ} [الإسراء: 102] لا ينفع إلا بإخلاص العبادة لله كما قال تعالى: {وَمَا يُؤْمِنُ أَكْثَرُهُمْ بِاللّهِ إِلاَّ وَهُم مُّشْرِكُون} [يوسف: 106]، والآيات الدالة على ذلك كثيرة جدًّا.
الثاني: توحيده -جل وعلا- في عبادته:
وضابط هذا النوع من التوحيد هو تحقيق معنى لا إله إلا الله، وهي متركبة من نفي وإثبات، فمعنى النفي منها: خلع جميع أنواع المعبودات غير الله كائنة ما كانت في جميع أنواع العبادات كائنة ما كانت، ومعنى الإثبات منها: إفراد الله -جل وعلا- وحده بجميع أنواع العبادات بإخلاص, على الوجه الذي شرعه على ألسنة رسله -عليهم الصلاة والسلام- وأكثر آيات القرآن في هذا النوع من التوحيد، وهو الذي فيه المعارك بين الرسل وأممهم: {أَجَعَلَ الآلِهَةَ إِلَهًا وَاحِدًا إِنَّ هَذَا لَشَيْءٌ عُجَاب} [ص: 5].
ومن الآيات الدالة على هذا النوع من التوحيد قوله تعالى: {فَاعْلَمْ أَنَّهُ لاَ إِلَهَ إِلاَّ اللَّهُ وَاسْتَغْفِرْ لِذَنبِكَ وَلِلْمُؤْمِنِينَ وَالْمُؤْمِنَاتِ} [محمد: 19]، وقوله: {وَمَا أَرْسَلْنَا مِن قَبْلِكَ مِن رَّسُولٍ إِلاَّ نُوحِي إِلَيْهِ أَنَّهُ لاَ إِلَهَ إِلاَّ أَنَا فَاعْبُدُون} [الأنبياء: 25]، وقوله: {وَاسْأَلْ مَنْ أَرْسَلْنَا مِن قَبْلِكَ مِن رُّسُلِنَا أَجَعَلْنَا مِن دُونِ الرَّحْمَنِ آلِهَةً يُعْبَدُون} [الزخرف: 45]، وقوله: {قُلْ إِنَّمَا يُوحَى إِلَيَّ أَنَّمَا إِلَهُكُمْ إِلَهٌ وَاحِدٌ فَهَلْ أَنتُم مُّسْلِمُون} [الأنبياء: 108], فقد أُمِرَ في هذه الآية الكريمة أن يقول: إن ما أوحي إلي محصور في هذا النوع من التوحيد؛ لشمول كلمة “لا إله إلا الله” لجميع ما جاء في الكتب؛ لأنها تقتضي طاعة الله بعبادته وحده، فيشمل ذلك جميع العقائد، والأوامر، والنواهي، وما يتبع ذلك من ثواب وعقاب، والآيات في هذا النوع من التوحيد كثيرة.
النوع الثالث: توحيده -جل وعلا- في أسمائه وصفاته:
وهذا النوع من التوحيد ينبني على أصلين:
الأصل الأول: تنزيه الله -جل وعلا- عن مشابهة المخلوقين في صفاتهم، كما قال تعالى: {لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ} [الشورى: 11].
والثاني: الإيمان بما وصف الله به نفسه، أو وصفه به رسوله صلى الله عليه وسلم على الوجه اللائق بكماله وجلاله، كما قال تعالى: {لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ وَهُوَ السَّمِيعُ البَصِير}، وقال تعالى: {يَعْلَمُ مَا بَيْنَ أَيْدِيهِمْ وَمَا خَلْفَهُمْ وَلاَ يُحِيطُونَ بِهِ عِلْمًا} [طه: 110].
ويكثر في القرآن العظيم الاستدلال على الكفار باعترافهم بربوبيته -جل وعلا- على وجوب توحيده في عبادته؛ ولذلك يخاطبهم في توحيد الربوبية باستفهام التقرير، فإذا أقروا بربوبيته احتج بها عليهم على أنه المستحق لأن يُعبد وحده، ووبّخهم منكرًا عليهم شركهم به غيره مع اعترافهم بأنه هو الرب وحده؛ لأن مَن اعترف بأنه هو الرب وحده لزمه الاعتراف بأنه هو المستحق لأن يعبد وحده.
ومن أمثلة ذلك قوله تعالى: {قُلْ مَن يَرْزُقُكُم مِّنَ السَّمَاء وَالأَرْضِ أَمَّن يَمْلِكُ السَّمْعَ والأَبْصَارَ} إلى قوله: {فَسَيَقُولُونَ اللّهُ} [يونس: 31]، فلما أقروا بربوبيته وَبّخهم منكرًا عليهم شركهم به غيره, بقوله تعالى: {فَقُلْ أَفَلاَ تَتَّقُون}. انتهى كلامه -رحمه الله.
ب. هدايته لأقوم الشرائع:
نزل القرآن الكريم خاتمة للكتب السماوية، فلا كتاب بعد القرآن، كما أنه لا نبي بعد الرسول محمد صلى الله عليه وسلم, من أجل ذلك جاءت شريعة الإسلام وافيةً بحاجات البشر؛ لأن نبي الإسلام الخاتم محمدًا صلى الله عليه وسلم بُعث إلى الناس كافة، قال تعالى: {وَمَا أَرْسَلْنَاكَ إِلاَّ كَافَّةً لِّلنَّاسِ بَشِيرًا وَنَذِيرًا} [سبأ: 28]، وشريعة الإسلام رسالة خالدة إلى قيام الساعة؛ فلذلك كانت تحتوي على أقوم الشرائع التي تصلح بها حياة المجتمعات في كل عصر, وفي كل مصر.
يقول صاحب (مباحث في علوم القرآن):
وخلاصة القول: أن القرآن دستورٌ تشريعيٌّ كاملٌ, يقيم الحياة الإنسانية على أفضل صورة وأرقى مثال، وسيظل إعجازه التشريعي قرينًا لإعجازه العلمي وإعجازه اللغوي إلى الأبد، ولا يستطيع أحدٌ أن يُنكر أنه أحدث في العالم أثرًا غيّر وجه التاريخ. انتهى كلامه.
فلم تعرف البشرية -على مر التاريخ- تشريعًا يفي بجميع حاجات البشر مثلما عرفته في شريعة الإسلام ونظامه الاجتماعي، وهذا قد شهد به المنصفون من عقلاء الغرب وأتباع الديانات الأخرى.
ولو أخذنا مثالًا واحدًا على كمال شريعة الإسلام وهدايته لأقوم الشرائع, لاتضح لنا جليًّا قيمة هذه الشريعة وسمو هدفها؛ لأن الله تعالى هو المُشرّع لها على لسان نبيه صلى الله عليه وسلم من خلال الوحي الذي نزل به جبريل عليه السلام على رسول الهدى محمد صلى الله عليه وسلم، وليكن هذا المثال هو تشريع القصاص من القاتل عمدًا للنفس البريئة من غير وجه حق؛ حيث إن الإسلام شرع قتل القاتل عمدًا؛ قصاصًا منه إذا لم يرغب الورثة في أخذ الدية، فقد شرع الإسلام للورثة الأخذ بحق الميت في القصاص من قاتله، وهذا قمةٌ في العدالة وإحقاق الحق.
بينما نجد أن القوانين الوضعية رفضت القتل، وقالت: إن في القصاص إفناء للمجتمع، فبدلًا من موت واحد يموت اثنان، هذا في اعتقادهم، ولم يدروا أن السر في القصاص يمنع القتل نهائيًّا؛ لأن مَن يعلم أن مصيره القتل إذا قتل غيره لا بد أن يمسك عن القتل، وهذا يعتبر حياة للاثنين، كما قال الله تعالى: {وَلَكُمْ فِي الْقِصَاصِ حَيَاةٌ يَاْ أُولِيْ الأَلْبَابِ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُون} [البقرة: 179]، فهو حياة للقاتل بحيث سيمتنع مثله عن القتل العمد، وحياة للمقتول بحيث سيَرْتعِد القتلة عن قتل غيرهم؛ فتشيع الحياة في المجتمع ويقل القتل بين أفراده، وهذا حفظٌ لجميع أفراد الجنس البشري من القتل، وحياةٌ لهم عكس ما ظنه مسنو القوانين الوضعية.
نعم، فلنقس على ذلك بقية تشريعات الإسلام، فقطع يد السارق تقلل من السرقة، وتحفظ لأفراده حقوقهم وممتلكاتهم من عبث السُّراق العابثين، وكذلك بقية الجنايات، ففي شريعة الإسلام العين بالعين، والسن بالسن، والأذن بالأذن، والجروح القصاص.
ثم إن هذه العقوبات تطبق على الكبير والصغير، والشريف والوضيع، كما قال صلى الله عليه وسلم: ((لو أن فاطمة بنت محمد سرقت؛ لقطعت يدها))، إلى غير ذلك من التشريعات الربانية والهدايات الإلهية, التي لو طبقتها الإنسانية الحائرة اليوم لنجحت في علاج مشكلاتها الاجتماعية المعقدة المعاصرة.
ج. هيمنة القرآن على الكتب السابقة:
بعث الله تعالى نبيه موسى عليه السلام وأنزل عليه التوراة فحرفها قومه، وبدّلوا وغيّروا حتى أصبحت التوراة غير التوراة، وبعث الله تعالى نبيه عيسى عليه السلام وأنزل عليه كتابه الإنجيل فحُرِّفَ كما حُرِّفَت التوراة، وبُدِّلَ كما بُدِّلَتْ حتى أصبح الإنجيل غير الإنجيل، وبعث الله تعالى أنبياء آخرين وأنزل معهم الكتب ولم تسلم مما أصاب أمثالها إلا القرآن الكريم؛ فقد تكفل الله سبحانه وتعالى بحفظه، ولم يَكِل حفظه إلى غيره سبحانه من المخلوقات، قال تعالى: {إِنَّا نَحْنُ نَزَّلْنَا الذِّكْرَ وَإِنَّا لَهُ لَحَافِظُون} [الحجر: 9].
بل جعل الله سبحانه وتعالى القرآن الكريم مهيمنًا على الكتب السابقة: {وَأَنزَلْنَا إِلَيْكَ الْكِتَابَ بِالْحَقِّ مُصَدِّقًا لِّمَا بَيْنَ يَدَيْهِ مِنَ الْكِتَابِ وَمُهَيْمِنًا عَلَيْهِ فَاحْكُم بَيْنَهُم بِمَا أَنزَلَ اللّهُ وَلاَ تَتَّبِعْ أَهْوَاءهُمْ عَمَّا جَاءكَ مِنَ الْحَقِّ لِكُلٍّ جَعَلْنَا مِنكُمْ شِرْعَةً وَمِنْهَاجًا} [المائدة: 48]، فجاء القرآن بالعقيدة الإسلامية التي اتفق عليها الأنبياء كلُّهم صافيةً نقيةً؛ ليكون ما جاء به القرآن حُجة على الناس، وشاهدًا على تحريف الأمم السابقة لما نزل عليهم من الكتب، ومصححًا لأغلاطهم، وفاضحًا لأباطيلهم: {يَا أَهْلَ الْكِتَابِ لاَ تَغْلُواْ فِي دِينِكُمْ وَلاَ تَقُولُواْ عَلَى اللّهِ إِلاَّ الْحَقِّ إِنَّمَا الْمَسِيحُ عِيسَى ابْنُ مَرْيَمَ رَسُولُ اللّهِ وَكَلِمَتُهُ أَلْقَاهَا إِلَى مَرْيَمَ وَرُوحٌ مِّنْهُ فَآمِنُواْ بِاللّهِ وَرُسُلِهِ وَلاَ تَقُولُواْ ثَلاَثَةٌ انتَهُواْ خَيْرًا لَّكُمْ إِنَّمَا اللّهُ إِلَـهٌ وَاحِدٌ سُبْحَانَهُ أَن يَكُونَ لَهُ وَلَدٌ لَّهُ} [النساء: 171].
وردّ على اليهود فريتهم: {وَلَقَدْ خَلَقْنَا السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضَ وَمَا بَيْنَهُمَا فِي سِتَّةِ أَيَّامٍ وَمَا مَسَّنَا مِن لُّغُوب} [ق: 38]، وذلك بقولهم: إن الله سبحانه وتعالى لما خلق السموات والأرض في ستة أيام استراح في اليوم السابع، ورد على الفريقين -اليهود والنصارى- عقيدتهم الباطلة: {وَقَالَتِ الْيَهُودُ عُزَيْرٌ ابْنُ اللّهِ وَقَالَتْ النَّصَارَى الْمَسِيحُ ابْنُ اللّهِ ذَلِكَ قَوْلُهُم بِأَفْوَاهِهِمْ يُضَاهِؤُونَ قَوْلَ الَّذِينَ كَفَرُواْ مِن قَبْلُ} [التوبة: 30].
يقول الشيخ حافظ الحكمي -رحمه الله- في كتابه (أعلام السنة المنشورة):
قال أهل التفسير: مهيمنًا: مؤتمنًا، وشاهدًا على ما قبله من الكتب، ومصدقًا لها، يعني: يصدق ما فيها من الصحيح، وينفي ما وقع فيها من تحريف وتبديل وتغيير، ويحكم عليها بالنسخ أو التقرير؛ ولهذا يخضع له كلُّ متمسك بالكتب المتقدمة ممن لم ينقلب على عقبيه، كما قال -تبارك وتعالى-: {الَّذِينَ آتَيْنَاهُمُ الْكِتَابَ مِن قَبْلِهِ هُم بِهِ يُؤْمِنُون * وَإِذَا يُتْلَى عَلَيْهِمْ قَالُوا آمَنَّا بِهِ إِنَّهُ الْحَقُّ مِن رَّبِّنَا إِنَّا كُنَّا مِن قَبْلِهِ مُسْلِمِين} [القصص: 52، 53] وغير ذلك. انتهى كلامه -رحمه الله.
فهداية القرآن للتي هي أقوم، معناها: أنه يهدي للتي هي أقوم من هدي كتاب بني إسرائيل الذي في قوله: {وَجَعَلْنَاهُ هُدًى لِّبَنِي إِسْرَائِيل} [السجدة: 23]، ففيه إيماء إلى ضمان سلامة أمة القرآن من الحيدة عن الطريق الأقوم؛ لأن القرآن جاء بأسلوب من الإرشاد قويم ذي أفنان، لا يحول دونه ودون الولوج إلى العقول حائل، ولا يغادر مسلكًا إلى ناحية من نواحي الأخلاق والطبائع إلا سلكه إليها تحريضًا أو تحذيرًا، بحيث لا يعدم المتدبر في معانيه اجتناء ثمار أفنانه، وبتلك الأساليب التي لم تبلغها الكتب السابقة كانت الطريقة التي يهدي إلى سلوكها أقوم من الطرائق الأخرى، وإن كانت الغاية المقصود الوصول إليها واحدة.
وهذا وصف إجمالي لمعنى هدايته إلى التي هي أقوم, لو أريد تفصيله لاقتضى أسفارًا، وحسبنا مثالًا لذلك أساليب القرآن في سد مسالك الشرك، بحيث سلمت هذه الآية في جميع أطوارها من التخليط بين التقديس البشري وبين التمجيد الإلهي، فلم تنزل إلى حضيض الشرك بحال، فمحل التفضيل هو وسائل الوصول إلى الغاية من الحق والصدق، وليس محل التفضيل تلك الغاية حتى يقال: إن الحق لا يتفاوت. فكلُّ حقٍّ وصدقٍٍ وُصِفَتْ به الكتب السابقة قبل تحريفها وتبديلها قد حواه القرآن الكريم؛ لأنه خاتمة الكتب السماوية، ولأنه نسخ تلك الكتب السابقة، فكان طبيعيًّا أن يهيمن على ما في الكتب السابقة من صدقٍ وهدى، ولأنه شريعة الناس السماوية إلى قيام الساعة، فلا كتاب بعد القرآن؛ من أجل ذلك كله كان ناسخًا لما تقدمه، ومغنيًا عنه، ومهيمنًا عليه.