مزايا (جمهرة اللغة)، وأمثلة منه
في باب الثنائي الصحيح الهمزة والميم. يقول ابن دريد:
“أمَّ يَؤُمُ أَمًّا: إذا قصد للشيء. وأمَّ رأسَه بالعصا يَؤُمُّه: إذا أصاب أم رأسِه، وهي أمُّ الدِّماغ وهي مجتمعه، فهو أمِيم ومَأموم، والشَّجة آمَة. يقال: أممْتُ الرجلَ، إذا شججته؛ وأممته، إذا قصدته. والأمَةُ: الوليدة. والإمَّة: النعمة. يقال: كان بنو فلان في إمَّة، أي: في نعمة. والأَمَّة: العيب في الإنسان. قال النابغة:
فأخِذْنَ أبكارًا وهنّ بأمةٍ | * | …. …. …. …. |
يريد أنهن سُبين قبل أن يُخْتَنّ فجعل ذلك عيبًا. والأُمّ: معروفة، وقد سمَّت العرب في بعض اللغات الأم إِمًّا في معنى أمّ، وللنحويين فيه كلام ليس هذا موضعه. وأمُّ الكتاب: سورة الحمد؛ لأنه يُبتدأ بها في كل صلاة؛ هكذا يقول أبو عبيدة. وأمُّ القُرَىْ: مكَّة، سُمِّيت بذلك؛ لأنها توسطت الأرض، زعموا، والله أعلم. وأمُّ النجوم: المَجَرَّة؛ هكذا جاءت في شعر ذي الرُّمَّة؛ لأنها مجتمع النجوم، قال أبو عثمان الأشْنانداني: سمعت الأخفش يقول: كل شيء انضمَّت إليه أشياءُ فهو أمّ. وأمُ الرأس: الجِلدة التي تجمع الدماغ، وبذلك سُمَي رئيس القوم أُمًّا لهم. قال الشنفرى – يعني: تأبط شرًّأ:
وأمِّ عيال قد شهدت تَقوتهم | * | إذا أحْتَرَتْهمْ أوْتَحَتْ وأقلتِ |
الحَتْر: الإعطاء قليلًا، والحَتْر أيضًا: الضيق، وهو مأخوذ من الحَتار: وهو موضع انضمام السرج، وذلك أنه كان يَقوت عليهم الزاد في غزوهم؛ لئلا ينفد -يعني: تأبَّط شرًّا. وكان رئيسَهم إذا غَزَوا. يقال: أحْتَرَه، إذا أعطاه عطاءً نزرًا قليلًا شيئًا بعد شيء.
وسمِّيت السماءُ: أم النجوم؛ لأنها تجمع النجوم؛ وقال قوم: يريد المجرة. قال ذو الرمة:
وشُعْثٍ يَشُجُّونَ الفَلا في رءوسِهِ | * | إذا حَوَّلت، أمُّ النجوم الشوابِك |
والأمَة لها مواضع، فالأمة: القَرْنُ من الناس من قوله: {أُمَّةً وَسَطًا} [البقرة: 143]، وقوله: {إِنَّ إِبْرَاهِيمَ كَانَ أُمَّةً} [النحل: 120]، أي: إمامًا. والأمةُ: الإمام. والأمَّةُ: قامة الإنسان. والأمَّةُ: الطول. والأمَّةُ: المِلة، {وَإِنَّ هَذِهِ أُمَّتُكُمْ أُمَّةً وَاحِدَةً} [المؤمنون: 52].
وأمُّ مَثْوَى الرجل: صاحبةُ منزله الذي ينزله. وفي الحديث: أن رجلًا قيل له: متى عهدك بالنساء? قال: البارحة، وقيل له: بمن? قال: بأم مثواي. فقيل له: هلكتَ، أو ما علمت أن الله قد حرمَ الزِّنا. فقال: والله ما علمت. وأحسب أن في الحديث: أنه جيء به إلى عمرَ -نضَّر الله وجهه- فقال: استحلفوه بين القبر والمِنْبَر -أو عند القبر- أنه ما علم؛ فإن حلفَ فخلُّوا سبيله. وقال الراجز:
وأمُّ مثواي تدَرّي لِمّتي | * | وتغْمِزُ القَنْفاءَ ذاتَ الفَرْوَة |
أصل القَنَف: لصوق الأذنين بالرأس وارتفاعهما. ويعني بالقَنْفاء في هذا الموضع: الحَشَفَة من الذَّكَر. تدرّي، أي: تسرَّح. ذات الفروة: الشَعر الذي على العانة، وهو ها هنا الفَيْشَة. وأنشد في “تُدرَّي”:
وقد أشهد الخيلَ المغيرةَ بالضُّحى | * | وأنتَ تُدَرّي في البيوت وتُفْرَقُ |
وسُمِّي “مَفروقًا” بهذا. وتُفْرَق: يُجعل له فَرْق. وأخبرَنا أبو حاتم عن أبي عبيدة في قوله تعالى: {وَإِنَّهُ فِي أُمِّ الْكِتَابِ لَدَيْنَا لَعَلِيٌّ حَكِيم} [الزخرف: 4]؛ قال: اللوح المحفوظ. وأم أوعال: هضبة معروفة، وأنشد:
خلَى الذناباتِ شِمالًا كَثَبًا | * | وأمَ أوعال كَهَا أو أقْرَبا |
وأمُّ خِنَوَر: الضَبُع”. انتهى كلام ابن دريد.
ألا تلاحظ الأبيات الشعرية المنسوبة إلى أصحابها حين قال: الآمَةُ: العيب في الإنسان. قال النابغة:
فأخِذْنَ أبكارًا وهنّ بآمَةٍ | * | …. …. …. …. |
ألا تلاحظ حينما قال:
وأمُ الرأس: الجِلدة التي تجمع الدماغ، وبذلك سُمَي رئيس القوم أمًّا لهم. قال الشنفرى -يعني: تأبط شرًّا:
وأُمَّ عيال قد شهدت تَقوتهم | * | إذا أحْتَرَتْهمْ أوْتَحَتْ وأقلتِ |
ألا تلاحظ أنه ذكر ذا الرمة أيضًا حين قال:
وشُعْثٍ يَشُجُّونَ الفَلا في رءوسِهِ | * | إذا حَوَّلت، أمُّ النجوم الشوابِكُ |
وهكذا تجد أبياتًا استشهد بها على ألفاظ عربية، وقد نَسب الشواهد إلى أصحابها؛ كما تجد شواهد أخرى من الشعر غير منسوبة إلى أصحابها؛ وذلك كقوله قال الراجز:
وأمُّ مثواي تدَرّي لِمّـتـي | * | وتغْمِزُ القَنْفاءَ ذاتَ الفَرْوَة |
كما استشهد على تدري بقوله وأنشد:
وقد أشهد الخيلَ المغيرةَ بالضُّحى | * | وأنتَ تُدَرّي في البيوت وتُفْرَقُ |
دون أن يسب هذا الشعر إلى صاحبه.
إذًا؛ مع اهتمامه بنسبة الأبيات إلى قائليها؛ فإنه وقع في هذه المادة وفي غيرها أبيات أخرى لم ينسبها -أو لم يتمكن شيخنا من نسبتها. إلى قائليها؛ كذلك تجد القرآن الكريم بادٍ في هذه المادة؛ ألم تلاحظ مع قاله بشأن: {أُمَّةً وَسَطًا} حينما عرف الأمة بالقرن من الناس، واستشهد بـ{أُمَّةً وَسَطًا}وكذا استشهد بقوله: {إِنَّ إِبْرَاهِيمَ كَانَ أُمَّةً} وأيضًا بقوله: {وَإِنَّ هَذِهِ أُمَّتُكُمْ أُمَّةً وَاحِدَةً}… وهكذا.
كما ترى عنايته باللغات حينما قال: والأم معروفة، وقد سمت العرب في بعض اللغات الأم إِمًّا في معنى أم، إذًا؛ هو يعتني أيضًا باللغات كما يهتم بما يسمى بالتعدد المعنوي للفظ -بالمشترك اللفظي- حينما قال: والأمة لها مواضع، وبدأ يعدد معاني هذا اللفظ حين قال: “فالأمةُ: القرن من الناس، والأمةُ: الإمام. والأمَّةُ: قامة الإنسان. والأمةُ: الطول. والأمَّةُ: المِلّة”. ألا تلاحظ كل هذه المعلومات التي حوتها هذه المادة؟! ولك أن تتصفح المعجم في طبعته الهندية أو في طبعته العربية؛ لتخرج منه بنتائج جمة.
نموذج آخر: الباء والثاء والقاف:
تحت هذا الجذر يقول:
“انبثقَ الماءُ وبَثَقَ: إذا انفجر من حوض أو سِكْر، والماء باثِق ومنبثِق.
وثَقَبَت النارُ تَثْقُب ثُقُوبًا: إذا أضاءت، وكذلك النجم إذا أضاء، والنجم ثاقب. والثِّقاب: كل ما ثُقِبَتْ به النار من حُراق أو غيره، وهو الثَّقوب أيضًا؛ قال الشاعر:
أذاعَ به في الناس حتى كأنّه | * | بعَلْياءَ نارٌ أوقِدَت بثُقُـوبِ |
يُروى بفتح الثاء وضمَّها؛ واللغة الفصيحة: أثْقَبْتُ النارَ إثقابًا فثَقَبَت. قال الأسْعَر الجُعْفي:
فلا يَدْعُني قومي لكعب بن مالك | * | لئن أناَ لم أسْعِرْ عليهم وأثْقِـبِ |
فسُمِّي الأسْعَر.
ورجل ثاقِب الرأي، إذا كان جزلًا نَظَّارًا.
وثَقَبْت الشيء أثقُبه ثَقْبًا، إذا أنفذته. ولا يكون الثقب إلا نافذًا. وصناعة الثاقب: الثِّقابة. وسمِّي المُثَقِّب الشاعر بقوله:
أريْنَ محاسِنًا وكَنَنَّ أخرى | * | وثَقَّبْنَ الوصاوصَ للعُيونِ |
وكل حديدة ثَقَبْتَ بها فهي مِثْقَب. وربما سُمِّي الرجل الجيِّد الرأي مِثْقَبًا.
والمَثْقَب: طريق في حَرّة أو غِلَظ، وكان فيما مضى طريق بين اليمامة والكوفة يسمَّى مَثْقَبًا. والثِّقاب: رَكايا تُحفر في بطن الأرض ينفذ بعضُها إلى بعض. وزعم قوم أن الثِّقاب الهواء، والفُقُر التي يجري فيها الماء تحت الأرض. والأثْقُوب: الرجل الدخَّال في الأمور. ومِثْقَب: طريق بين الشام والكوفة كان يُسلك في أيام بني أمية.
ثم ذكر من هذا التقليب القاف والباء والثاء، قال: وقد سمَّت العرب قَباثًا، ولا أدري مِمَّ اشتقاقه؟ وسألت أبا حاتم عنه فلم يعرفه”… انتهى كلامه.
تلاحظ اهتمام ابن دريد بالأماكن والتعريف بها حين قال: ومثقب طريق بين الشام والكوفة كان يسلك في أيام بني أمية…”. وحين قال: “والمَثقب: طريق في حرة أو غلظ، وكان فيما مضى طريق بين اليمامة والكوفة يسمى مثقبًا”. لاحظ اهتمامه بلغات العرب والفصيح منها حين قال: “واللغة الفصيحة: أثقبتُ النارَ إثقابًا؛ حيث قال قبل ذلك: وثقبت النار تثقب ثقوبًا”. ثم لاحظ اهتمامه أيضًا بذكر الروايات في بعض الأبيات؛ فحينما ذكر الثقوب في البيت الشعري:
أذاعَ به في الناس حتى كأنّه | * | بعَلْياءَ نارٌ أوقِدَت بثُقُـوبِ |
قال: يروَى بفتح الثاء وضمها، أي: ثُقوب وثَقوب.
ولاحظ اهتمامه بنسبة الأبيات إلى قائليها، وحين لم يتمكن يذكر الأبيات دون نسبة، ولاحظ اهتمامه باشتقاق الأسماء والأعلام، قال:
وسمِّي المُثَقِّب الشاعر بقوله:
أريْنَ محاسِنًا وكَنَنَّ أخرى | * | وثَقَّبْنَ الوصاوصَ للعُيونِ |
فسمي مثقبًّا لذلك، والأسعر كذلك سمي أسعرًا حين قال:
فلا يَدْعُني قومي لكعب بن مالك | * | لئن أناَ لم أسْعِرْ عليهم وأثْقِـبِ |
إذًا؛ اهتمامه باشتقاق الأسماء واشتقاق الأماكن وتعليل التسمية، يشهد بقوة ذاكرة شيخنا.