مسائل تتعلق بالحديث الصحيح والحسن
المسألة الأولى: ما المراد بقول المحدثين: هذا حديث صحيح الإسناد أو حديث حسن الإسناد؟
من المعلوم أنه لا تلازم بين الإسناد والمتن، فقد يصح الإسناد لأنه متصل ورجاله ثقات، ولا يصح المتن لأن بالمتن شذوذًا أو علة قادحة، وقد يصح المتن، والإسناد غير صحيح؛ لأنه لم يستكمل شروط الصحة، ثم يأتي المتن من طريق آخر أو بإسناد آخر صحيح؛ لذلك كان الحُكم على الحديث حكمًا على متنه وإسناده، فإذا قال إمام من الأئمة: هذا حديث صحيح، فقد حكم على إسناده ومتنه بالصحة، وكذا إذا قال: هذا حديث حسن، فقد حكم على إسناده ومتنه أيضًا”.
أما إذا قال إمام: هذا إسناد صحيح أو هذا إسناد حسن، فهل يعتبر ذلك حكمًا على المتن أم على الإسناد فقط؟
قال الحافظ السيوطي: “إذا قال الحافظ: هذا حديث حسن الإسناد أو صحيح الإسناد، دون قولهم: حديث صحيح أو حديث حسن؛ لأنه قد يصح أو يحسن الإسناد لثقة رجاله، دون المتن لشذوذ أو علة، وكثيرًا ما يستعمل ذلك الحاكم في مستدركه، فإن اقتصر على ذلك حافظ معتمد، ولم يذكر له علة ولا قادحًا، فالظاهر صحة المتن وحسنه؛ لأن عدم العلة والقادح هو الأصل والظاهر”.
قال الحافظ ابن حجر: “والذي لا شك فيه أن الإمام منهم لا يَعدل عن قوله: صحيح، إلى قوله: صحيح الإسناد، إلا لأمر ما”.
والذي يظهر لي أن الإمام الحافظ إذا قال: هذا حديث صحيح الإسناد، أو حديث حسن الإسناد، فإن ذلك حكمًا منه على الإسناد دون المتن، ولا يلزم من حكمه على الإسناد دون المتن أن يكون قادحًا في المتن، بل يكون قد توقف في الحكم على المتن، وإلا فما الذي جعله يخص الحكم بالإسناد دون المتن، والأصل عدم التفرقة بينهما في الحكم.
المسألة الثانية: ما المراد بقول العلماء: هذا حديث حسن صحيح؟
سبق أن تحدثنا عن الحديث الصحيح والحديث الحسن، وبينا أن الحديث الحسن يشارك الحديث الصحيح في جميع الشروط إلا في شرط واحد؛ وهو الضبط، فراوي الحديث الصحيح لا بد أن يكون تام الضبط، وراوي الحديث الحسن خفيف الضبط، غير أن الإمام الترمذي يجمع بين الوصفين في الحكم على الحديث الواحد، فيقول: هذا حديث حسن صحيح، واستخدم هذا الاصطلاح في سننه كثيرًا، وكذلك استخدم هذا الاصطلاح في الحكم على الحديث الإمامُ علي بن عبد الله المعروف بابن المديني، المتوفى في سنة أربع وثلاثين ومائتين من الهجرة، والإمام يعقوب بن شيبة صاحب (المسند).
وهذا الاصطلاح مشكل؛ لأن راوي الحديث الصحيح لا بد من أن يكون تام الضبط، وراوي الحديث الحسن خفيف الضبط، فكيف يجتمع تمام الضبط وخفة الضبط في راو واحد؟
وقد أجاب العلماء عن هذا الإشكال أو الاعتراض بما يلي:
أولًا: إذا كان ما قيل فيه هذا حديث حسن صحيح له إسنادان، فإنه يكون صحيحًا باعتبار إسناد حسنًا باعتبار الإسناد الآخر. مثال ذلك حديث أبي هريرة، أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: ((لولا أن أشق على أمتي لأمرتهم بالسواك عند كل صلاة)).
هذا الحديث أخرجه الإمام الترمذي من طريق محمد بن عمرو بن علقمة الليثي، وخلاصة ما قيل في محمد بن عمرو: أنه من أهل المرتبة الرابعة، أي أنه صدوق، فحديثه يكون حسنًا، وأخرجه البخاري من طريق أبي الزناد عن الأعرج عن أبي هريرة، وأخرجه الإمام مسلم من غير طريق الترمذي أيضًا.
وعلى ذلك يكون معنى قول الترمذي: حسن صحيح، أنه حسن وصحيح في نفس الوقت، غاية الأمر أنه حذف حرف العطف، ويكون ما قيل فيه: حسن صحيح، إن كان له أكثر من إسناد، أعلى مرتبة مما قيل فيه: صحيح فقط، إذا كان فردًا؛ لأن كثرة الطرق تعطي الحديث قوة.
ثانيًا: إن كان ما قيل فيه حسن صحيح ليس له إلا إسناد واحد، وهو الذي يعبر عنه الترمذي بقوله: “هذا حديث حسن صحيح غريب لا نعرفه إلا من هذا الوجه”، فقد أجاب العلماء عن هذا النوع بعدة أجوبة ليرفعوا التعارض، فقالوا:
الجواب الأول: وجود الصفة العليا لا ينافي وجود الصفة الدنيا، فكل حديث صحيح فهو حسن، وليس كل حديث حسن صحيحًا.
قال ابن دقيق العيد: “إن الحسن لا يشترط فيه القصور عن الصحة إلا حيث انفرد الحسن، أما إذا ارتفع إلى درجة الصحة، فالحسن حاصل لا محالة تبعًا للصحة؛ لأن وجود الدرجة العليا -وهي الحفظ والإتقان- لا ينافي وجود الدنيا كالصدق، فيصح أن يقال: حسن باعتبار الصفة الدنيا، صحيح باعتبار العليا، ويلزم على هذا أن كل صحيح حسن، وقد سبقه إلى نحو ذلك غيرهم”.
قال الحافظ ابن حجر: “ومثل ذلك قولهم في الراوي: صدوق فقط، وصدوق ضابط، فإن الأول قاصر عن درجة رجال الصحيح، والثاني منهم، فكما أن الجمع بينهما لا يضر ولا يشكل، فكذلك الجمع بين الصحة والحسن”.
الجواب الثاني: الجمع بين الصحة والحسن درجة متوسطة بين الصحيح والحسن، فما نقول فيه حسن صحيح، أعلى رتبة من الحسن ودون الصحيح.
قال ابن كثير: “إن الجمع بين الصحة والحسن درجة متوسطة بين الصحيح والحسن، فما تقول فيه حسن صحيح، أعلى رتبة من الحسن ودون الصحيح”. قال العراقي: “وهذا تحكُّم لا دليل عليه وهو بعيد”.
الجواب الثالث: إن ذلك يرجع إلى اختلاف علماء الجرح والتعديل في الحكم على راو في إسناد هذا الحديث، فبعضهم يرى أنه من رجال الصحيح، وبعضهم يرى أنه من رجال الحسن، ولا يترجح عنده قول واحد منهما، أو يترجح ولكنه يريد أن يشير إلى أقوال أهل العلم في الراوي، فيقول: حسن صحيح، وكأنه قال: هذا حديث حسن عند قوم صحيح عند قوم آخرين، وغاية ما فيه أنه حذف حرف التردد؛ لأن حقه أن يقول: هذا حديث حسن أو صحيح، وعلى ذلك فما قيل فيه: حسن صحيح، دون ما قيل فيه: صحيح؛ لأن الجزم أقوى من التردد.
الجواب الرابع: قالوا: الوصف بالحسن وارد على المتن، والوصف بالصحة وارد على الإسناد، فلا تعارض بينهما. قال ابن الصلاح: “المراد بالحسن معناه اللغوي، وهو ما تميل إليه النفس ولا يأباه القلب، دون المعنى الاصطلاحي”.
قال الحافظ السيوطي مؤيدًا كلام ابن الصلاح ذاكرًا مثالًا له قال: “كما وقع لابن عبد البر، حيث روى في كتاب العلم حديث معاذ بن جبل مرفوعًا: “تعلموا العلم فإن تعلمه لله خشية، وطلبه عبادة، ومذاكرته تسبيح، والبحث عنه جهاد، وتعليمه لمن لا يعلمه صدقة، وبذله لأهله قربة؛ لأنه معالم الحلال والحرام، ومنار سبل أهل الجنة، وهو الأنس في الوحشة، والصاحب في الغربة، والمحدِّث في الخلوة، والدليل على السراء والضراء، والسلاح على الأعداء، والزين عند الأخلاء، يرفع الله تعالى به أقوامًا…” إلى آخر الحديث وقال عقب هذا الحديث: هذا حديث حسن جدًّا ولكن ليس له إسناده قوي، فأراد بالحسن حسن اللفظ؛ لأنه من رواية موسى البَلْقَاوِي، وهو كذاب نُسِب إلى الوضع، عن عبد الرحيم العَمي وهو متروك”.
وذكر السيوطي أن شعبة وإبراهيم النخعي أطلقا الوصف بالحسن، وأرادا به المعنى اللغوي دون الاصطلاحي.
اعتراض ابن دقيق العيد على قول ابن الصلاح:
قال ابن دقيق العيد: “يلزم على جواب ابن الصلاح أن يطلق على الحديث الموضوع، إذا كان حسن اللفظ أنه حسن، وذلك لا يقوله أحد من المحدِّثين إذا جروا على اصطلاحهم”.
قال شيخ الإسلام ابن حجر: “ويلزم عليه أيضًا أن كل حديث يوصف بصفة فالحسن تابع لها؛ لأن كل الأحاديث حسنة اللفظ بليغة، ولما رأينا الذي وقع له -أي: للإمام الترمذي- هذا كثير الفرق فتارة يقول: حديث حسن فقط، وتارة يقول: صحيح فقط، وتارة حسن صحيح، وتارة صحيح غريب، وتارة حسن غريب، عرفنا أنه لا محالة جار مع الاصطلاح، مع أنه قال في آخر الجامع: وما قلنا في كتابنا حديث حسن، فإنما أردنا به حسن إسناده عندنا، فقد صرح بأنه أراد حسن الإسناد فانتفى أن يُراد حسن اللفظ”.
موجز ما يلزم على هذا الجواب الرابع:
يلزم على هذا الجواب ما يأتي:
أولًا: كل حديث يوصف بصفة، فالوصف بالحسن تابع لها؛ لأن كل الأحاديث حسنة اللفظ بليغة فيقال: هذا حديث متواتر حسن، وهذا حديث حسن حسن، إلى غير ذلك.
ثانيًا: الحديث الموضوع إذا كان لفظه حسنًا بليغًا يوصف بأنه حسن، وهذا لم يقل به أحد من الأئمة على الإطلاق؛ لأن ذلك يؤدي إلى الخلط وفقدان المصطلحات لقيمتها العلمية، ولا يكون لها مدلول ثابت.
المراد بقول الإمام الترمذي في حكمه على بعض الأحاديث: “هذا حديث حسن غريب”، سبق أن ذكرنا تعريف الإمام الترمذي للحديث الحسن، وشرط فيه أن يروى من غير وجه، وعرفنا أنه يريد الحسن لغيره، فهل هذا ينافي قول الترمذي في الحكم على بعض الأحاديث: “هذا حديث حسن غريب لا نعرفه إلا من هذا الوجه”، حيث إن الغريب ما انفرد به راوٍ واحد، وقد شرط الترمذي في الحسن أن يُروى من غير وجه؟
قال الحافظ ابن حجر في الجواب عن ذلك: فالجواب أن الإمام الترمذي لم يُعرِّف الحسن مطلقًا، وإنما عرف بنوع خاص منه وقع في كتابه، وهو ما يقول فيه حسن من غير صفة أخرى، وذلك أنه يقول في بعض الأحاديث: هذا حديث حسن، وفي بعضها: صحيح، وفي بعضها: غريب، وفي بعضها: حسن صحيح، وفي بعضها: حسن غريب، وفي بعضها: صحيح غريب، وفي بعضها: حسن صحيح غريب، وتعريفه إنما وقع على الأول فقط، وعبارته ترشد إلى ذلك، حيث قال في آخر كتابه: وما قلنا في كتابنا: حديث حسن، فإنما أردنا به حسن إسناده عندنا؛ إذ كل حديث يُروَى لا يكون راويه متهمًا بالكذب، ويروى من غير وجه نحو ذلك، ولا يكون شاذًّا -فهو عندنا حديث حسن، فعُرِف بهذا أنه إنما عرف الذي يقول فيه حسن فقط.
أما ما يقول فيه: حسن صحيح أو حسن غريب أو حسن صحيح غريب، فلم يعرج على تعريفه، كما لم يعرج على تعريف ما يقول فيه صحيح فقط أو غريب فقط، وكأنه ترك ذلك استغناءً لشهرته عند أهل هذا الفن، والمراد بأهل الفن هم أهل الحديث، واقتصر على تعريف ما يقول فيه في كتابه حسن فقط، إما لغموضه، وإما لأنه اصطلاح جديد، لذلك قيده بقوله: عندنا، ولم ينسبه إلى أهل الحديث، كما فعل الخطابي، وبهذا التقرير يندفع كثير من الإيرادات التي طال البحث فيها، ولم يظهر وجه توجيهها”.
ومن المعلوم أنه لا تنافي بين الوصف بالصحة مع الغرابة، أو الحسن مع الغرابة، كما سيأتي ذلك -إن شاء الله تعالى- عند الحديث عن خبر الآحاد.
قد يطلق الوصف بالحسن ولا يراد به المعنى الاصطلاحي:
سبق أن تحدثنا عن الحديث الحسن وبينا شروطه وحكم العمل به، ولكن بعض العلماء وصف أحاديث بالحسن، مع أنها ضعيفة عنده، وبعضهم حكم على أحاديث بالحسن مع أنها صحيحة، فوجب على الباحث أن يعرف اصطلاح كل إمام وماذا يريد بما يقول؛ حتى لا يقع لبس في الفهم، فيحتج بحديث ضعيف؛ لأن إمامًا وصفه بالحسن وهو لا يقصد الحسن الاصطلاحي، كما يجب على الباحث ألا يعتمد إلا ما حكم عليه أهل الحديث بالحسن، وتحقق فيه شروط الحديث الحسن.
قال الحافظ السخاوي: “قد وُجد إطلاق الحسن على المنكر. قال ابن عدي في ترجمة سلام بن سليمان المدائني: حديثه منكر وعامته حسان، إلا أنه لا يتابع عليه.
وقيل لشعبة: لأي شيء لا تروي عن عبد الملك بن أبي سليمان العَرْزَمِي وحديثه حسن؟ فقال شعبة: من حسنه فررت، وكأنهما أرادا المعنى اللغوي وهو حسن المتن، وربما أطلق على الغريب.
قال إبراهيم النخعي: كانوا إذا اجتمعوا كرهوا أن يُخرِج الرجل حسان حديثه، فقد قال ابن السمعاني: أنه قصد الغرائب، ووُجد للشافعي إطلاقه في المتفق على صحته، ولابن المديني في الحسن لذاته، وللبخاري في الحسن لغيره، ونحوه فيما يظهر قول أبي حاتم الرازي: فلان مجهول والحديث الذي رواه حسن، وقول إبراهيم بن يعقوب الجوزجاني في الطَّلْحِي: إنه ضعيف الحديث مع حسنه، على أنه يحتمل إرادتهما المعنى اللغوي أيضًا”.
وقال ابن عبد البر عقب حديث معاذ: “تعلموا العلم فإن تعلمه لله خشية…” الحديث، هذا حديث حسن جدًا، ولكن ليس له إسناد قوي، فأراد بالحسن حسن اللفظ؛ لأن في إسناده كذابًا ومتروكًا، وقد سبق ذلك”.
وبالجملة: فالترمذي هو الذي أكثر من التعبير بالحسن، ونوَّه بذكره، كما قاله ابن الصلاح، ولكن حيث ثبت اختلاف صنيع الأئمة في إطلاقه، فلا يسوغ إطلاق القول بالاحتجاج به، بل لا بد من النظر في ذلك، فما كان منه منطبقًا على الحسن لذاته فهو حجة، أو الحسن لغيره، فيفصل بين ما تكثر طرقه فيحتج به، وما لا فلا.