Top
Image Alt

مسائل متفرقة في كيفية الرواية لغير الصحابي

  /  مسائل متفرقة في كيفية الرواية لغير الصحابي

مسائل متفرقة في كيفية الرواية لغير الصحابي

إذا وجد الشخص شيئًا مكتوبًا بخط الشيخ:

قال أهل العلم: لا يجوز أن يروي عنه، وعلى ذلك فلا يجوز أن يقول الراوي الذي وجد شيئًا بخط شيخه: حدثني أو حدثنا أو أخبرني أو أخبرنا فلان إجازةً، ولا غيرها –يعني: لا يقول: إجازة ولا مناولة ولا سماعًا ولا قراءة- عليه ولا على غيره؛ لأن روايته بذلك شهادة عليه أنه قاله، والشيخ لم يقل ذلك صراحة بل هو مكتوب، وعلى ذلك لو روى الراوي ما وجده بخط شيخه وقال: أخبرني أو حدثني فلان إجازة أو مناولة أو كذا أو كذا يكون كاذبًا، بل الصحيح أنه وجد ذلك مكتوبًا بخطه، هذا هو الصحيح وهذه في الواقع.

وهناك مرتبة خامسة يضيفها بعض الأصوليين إلى مستند غير الصحابي، وتسمى “بالوجادة”، وهو في اصطلاح المحدثين: أن يجد الراوي شيئًا من الأحاديث مكتوبًا بخط الشيخ الذي يعرفه -يعني: الراوي يعرف خط شيخه- ويثق بأنه خطه، حيًّا كان الكاتب أو ميتًا، فعلى الصحيح من أقوال العلماء أنه لا يصح الراوية في هذه الحالة.

أما الصيغة التي يعبر بها هذا الواجد لخط شيخه فأن يقول: “وجدت بخط فلان كذا”، وتكون العهدة حينئذ على الشيخ الذي كتب، ولكن هل هناك من مانع أن يقول: “وجدت بخط فلان كذا”؟ لا مانع أن يقول: “وجدت بخط فلان كذا”، إذ ربما لو ذكر أنه وجد بخط فلان كذا يوجد مَن يكون قد سمع الشيخ -سمعه بالفعل وفي الواقع ونفس الأمر سماعًا- أنه قال هذا، فيتطابق السماع مع الكتابة.

2. إذا قال الشيخ: “هذا خطي”:

مسألة أخرى: إذا قال الشيخ: “هذا خطي” فهل يقبل قوله؟ قالوا: نعم يقبل منه، فإذا قال الشيخ: “هذا خطي” قُبِلَ قوله، ولكن لا يروى عنه ما لم يأذن بروايته عنه بصريح قوله بأن يقول: “اروه عني” أو يكون الإذن بقرينة حاله في الجلوس لرواية الحديث.

3. إذا قال العدل: “هذه نسخة صحيحة من كتاب فلان”:

مسألة أخرى: إذا قال العدل: هذه نسخة من (صحيح البخاري) أو من (صحيح مسلم) أو من (سنن أبي داود) أو من (سنن الترمذي) أو (مسند أحمد) أو نحو ذلك، فهل يجوز للراوي أن يروي عنه أي حديث جاء في تلك الصحيفة؟

قال أهل العلم: لا يجوز للراوي أن يروي عنه أي حديث جاء في تلك الصحيفة، وذلك لأنه لم يأذن له في روايته، لكن إذا صرح وقال: هذه نسخة من (صحيح البخاري) فاروها عني فلا مانع للراوي حينئذٍ أن يرويها ما دام أن الشيخ قد أذن له بالرواية.

4. هل يلزم العمل بقول العدل: هذه نسخة من كتاب؟:

أما رواية الحديث من الصحيفة التي قال الشيخ أو العدل أو الثقة: “هذه نسخة من (صحيح البخاري)”، فإنه ليس له أن يروي إلا بإذنه، وإذا لم يرو إلا بإذنه هل له أن يعمل بما ورد في هذه الصحيفة من نصوص وأحاديث أو ليس له أن يعمل؟ ولذلك أورد ابن قدامة -رحمه الله- هذه المسألة في صورة استفهام، فبعد أن قال: أما إذا قال العدل: هذه نسخة من (صحيح البخاري) فليس له أن يروي عنه، قال: وهل يلزم العمل به؟

وقد اختلف أهل العلم في ذلك على مذهبين:

المذهب الأول: فرق بين المقلد وبين المجتهد في ذلك، والمجتهد هو مَن توفرت فيه شروط الاجتهاد؛ بحيث يستطيع أن يتوصل إلى الأحكام الشرعية بنفسه، والمقلد: هو الذي لا يستطيع أن يتوصل إلى الأحكام الشرعية ولا يستنبط الأحكام الشرعية من الأدلة؛ فقيل: إن كان مقلدًا فليس له العمل به، إلا بعد أن يسأل المجتهد؛ لأن فرض المقلد سؤال المجتهد وتقليد المجتهد واتباع المجتهد، هذا فرض المقلد والله تعالى يقول: {فَاسْأَلُواْ أَهْلَ الذّكْرِ إِن كُنْتُم لاَ تَعْلَمُونَ} [النحل: 43]، وربما لا يفهم المقلد مضمون الحديث ولا ما يفيده الحديث فلا بد أن يسأل المجتهد.

أما إن كان السامع مجتهدًا –أي: توفرت فيه شروط المجتهد- فيلزمه العمل بما جاء في تلك الصحيفة التي قال عنها العدل: “إنها نسخة من (صحيح البخاري)”. هذا هو حاصل المذهب الأول في المسألة.

المذهب الثاني: أنه لا يلزم العمل بما جاء في الصحيفة السابقة الذكر مطلقًا، سواء كان السامع مجتهدًا أو مقلدًا، بل لا يجوز العمل بذلك، وذلك لأن العمل به يفهم منه أنه سمعه منه مباشرة، وهذا ليس بصحيح حيث إنه لم يسمع منه شيئًا، وفي هذا يقول ابن قدامة –وقيل: هذا تعبير عن المذهب الثاني: لا يجوز العمل بما لم يسمعه والله أعلم.

5. إذا وجد الشيخ سماعه بخط يوثق به ولم يقطع بسماعه فهل يجوز له روايته؟:

مسألة أخرى: إذا وجد الشيخ سماعه بخط يوثق به ولم يقطع بسماعه، فهل يجوز له روايته إذا وجد سماعه؟ قال: لا أذكر ذلك، لكنه حال سماعه كان قد قيد هذا السماع، اختلف العلماء على مذهبين، أوردهما ابن قدامة -رحمه الله- في “الروض”:

المذهب الأول: أن الراوي إذا رأى سماعه في كتاب ووجده ولم يذكر سماعه ولا قراءته، لكن غلب على ظنه سماعه كما يراه من خطه، قال أهل العلم: فإنه يجوز له روايته، وقد أومأ إلى ذلك الإمام أحمد في مواطن رحمه الله، وقد ذكره أبو يعلى في (العدة) وأبو الخطاب في (التمهيد)، ونسبه الآمدي في (الإحكام) والسرخسي في أصوله إلى أبي يوسف ومحمد بن الحسن وإلى الإمام الشافعي -رحمه الله.

المذهب الثاني: أنَّه لا يجوز أن يرويه إلا أن يذكر سماعه، ولا يعمل به أيضًا، وهذا المذهب نسبه السرخسي من الحنفية في أصوله إلى أبي حنيفة -رحمه الله- وتبعه بعض الحنفية كما نسبه إليه الآمدي في (الإحكام).

أما أصحاب المذهب الأول فقد استدلوا على الجواز بدليلين:

الأول: أنه تجوز روايته والعمل به؛ لأن الصحابة رضي الله  عنهم كانوا يعتمدون على كتب النبي صلى الله عليه  وسلم التي ينقلها آحاد الصحابة، وكانوا يعملون بها مثل عملهم على كتب الصدقات وعملهم على كتاب عمرو بن حزم وهو كتاب مشهور في أمر الصدقة، وهو الكتاب الذي كتبه النبي صلى الله عليه  وسلم في ذكر الديات، وبعث به إلى أهل نجران، ثم رواه الناس عن آل عمرو بن حزم من بعده، كما أخرجه النسائي في سننه والدارقطني في سننه. هذا الدليل الأول للجمهور.

الدليل الثاني: فقالوا: إن الرواية قد بني أمرها على حسن الظن وغلبته والمسامحة، وعلى مراعاة الظاهر من الحال، والظاهر من الحال: أن الراوي عدلٌ وأنه ثقةٌ، وأن هذا الخط الذي وجدناه خط ثقة. ألا ترى أن الرواية تقبل من العبيد والنساء ولا ترد بالتدليس والعنعنة، كل ذلك دل على خفتها، فإذا وجد الراوي سماعه وغلب على ظنه أنه سمعه كما يراه من خطه الذي توثق منه، فإنه تجوز الرواية بذلك.

وقد أجاب ابن قدامة رحمه الله عن أدلة المذهب الثاني –يعني: مذهب أبي حنيفة ومن تبعه- بجوابين:

الجواب الأول: قالوا: لا نسلم الأمر في المقاس عليه، وهناك قاسوا الرواية على الشهادة.

الجواب الثاني: أن الشهادة آكد لما علم بينهما من الفروق.

6. إذا شك في سماع حديث من شيخه فهل يجوز له روايته؟:

مسألة جديدة عنون لها ابن قدامة -رحمه الله- بقوله: “فصل: إذا شك في سماع حديث من شيخه لم يجز أن يرويه عنه”، وهذا هو القول الحق؛ لأن روايته عنه شهادة عليه فلا يشهد بما لم يعلمه.

7. مسألتان في رواية الأخبار لغير الصحابي:

المسألة الأولى: إذا شك الراوي في سماع حديث، والتبس عليه مع غيره، فهل يجوز له أن يحدث بها جميعًا؟

وفي هذا يقول ابن قدامة -رحمه الله: “وإن شك في حديث من سماعه، والتبس عليه، لم يجز أن يروي شيئًا منها مع الشك”. فلو سمع مائة حديث، وشك في حديث واحد، والتبس عليه هذا الحديث بحيث لم يستطع أن يعينه، فابن قدامة -رحمه الله- يقول: لم يجز أن يروي شيئًا منها مع الشك.

لكن منعنا الراوي أن يروي هذه الأحاديث التي من بينها الحديث الذي شك في سماعه؛ لأن الرواية عنه تعتبر في الواقع ونفس الأمر شهادة عليه، والشهادة لا تجوز مع الشك. هذه مسألة مقطوع بها عند الفقهاء.

مراتب الإدراك: علم، وظن، وشك، ووهم. فالعلم أن تعرف الشيء على ما هو به، والظن أن تدرك الطرف الراجح في المسألة، والشك أن يستوي الطرفان، والوهم أن تدرك الطرف المرجوح.

المسألة الثانية: الحكم إذا غلب على ظنه في حديث أنه مسموع، عنده عدد من الأحاديث من بينها حديث معين، هو يشك في سماعه، فكأنه جازم بسماع الأحاديث الأخرى، لكن هذا الحديث بعينه هو شاك في سماعه، فما الحكم؟

ابن قدامة يعبر عن هذا بقوله: “فإن غلب على ظنه في حديث أنه مسموع -كذا عنون المسألة- فقال قوم: يجوز. وقيل: لا يجوز. ولنشرح هذه المسألة شرحًا مختصرًا مفيدًا إن شاء الله.

إذا غلب على ظن الراوي أن حديثًا من الأحاديث المائة مثلًا التي مثلنا بها في المسألة السابقة قد سمعه من شيخه، فهل يجوز أن يرويه أو لا؟

ذكر ابن قدامة في المسألة مذهبين -المسألة خلافية- فقال قوم: يجوز. وهم جمهور العلماء، ودليل الجمهور هو الاعتماد على غلبة الظن.

وقيل: لا يجوز، هذا المذهب الثاني في المسألة، وقد ذهب إليه بعض العلماء منهم الغزالي في كتاب (المستصفى)، قال: لا يجوز رواية حديث قد غلب على ظنه أنه سمعه من شيخه، ودليل الغزالي ومن وافقه قالوا: لأنه يمكن اعتبار العلم بما يرويه، فلا يجوز أن يرويه مع الشك فيه، كالشهادة، وبيان ذلك: أنَّ الشهادة لا بد فيها من العلم والجزم.

فالشاهد ينبغي له أن يتحقق؛ لأن تكليفه ألا يشهد إلا على المعلوم، وكذلك الراوي لا سبيل إلى معرفة صدق الشيخ، ولكن له طريق إلى معرفة قوله بالسماع، فإذا لم يتحقق فينبغي ألا يروي. هذا حاصل المذهب الثاني في المسألة.

نوعا الجحد، ومحل الخلاف:

إذا أنكر الشيخُ العدلُ الثقةُ الحديثَ الذي رواه عنه الفرع -أي تلميذه- إنكارًا صريحًا فالحكم هنا أن الحديث لا يقبل، ويُمتنَع العمل به، وهذا باتفاق، رغم أن كل واحد منهما موصوف بالعدالة والثقة، ولكن يوجد واحد منهما مكذب للآخر فيما يدعيه، وهذا موجب للقدح في الحديث، والحديث المقدوح فيه لا يقبل، ولا يجب العمل بمقتضاه، لكن ذلك لا يوجب جرح واحد منهما على التعيين؛ لأنَّه وقع الشك في كذبه، والأصل العدالة، واليقين لا يزول بالشك؛ لذلك قالوا: لأنه قد وقع الشك في كذب واحد منهما، والأصل العدالة وهي المتيقنة، فلا يترك اليقين بالشك.

قال أهل العلم: وفائدة ذلك تظهر في قبول رواية كل واحد منهما في غير ذلك الحديث الذي أنكره الشيخ.

مذهبا العلماء في الجحد غير الصريح:

أما إذا أنكر الشيخ الحديث إنكارًا غير صريح، بأن يقول مثلًا: لست أذكر ذلك الحديث، ففي هذه الحالة اختلف العلماء على مذهبين:

المذهب الأول: إنكار الشيخ للحديث إنكار توقف، يعني غير صريح لا يقدح في الحديث، بل يقبل ويعمل به. فإذا قال الشيخ: لست أذكر ذلك الحديث. فهذا لا يقدح في الحديث، ونقبل بعد ذلك الحديث، ونعمل بمقتضاه.

وكان ابن عيينة يحدث بأشياء، ثم يقول: ليس من حديثي، ولا أعرفه. ويقول: وقد يحدث الرجل، ثم ينسى. وذهب إلى ذلك أيضًا -بالإضافة إلى الإمام أحمد- الإمام مالك، والإمام الشافعي، وجمهور العلماء من الحنابلة، والمالكية، والشافعية، وبعض الحنفية كمحمد بن الحسن الشيباني.

المذهب الثاني: أن إنكار الشيخ للحديث إنكار توقف يقدح في الحديث، وعليه فلا يُقبل، ويسقط الاحتجاج بهذا الحديث.

وقد ذهب إلى ذلك أبو الحسن الكرخي، كما نسبه إليه عبد العزيز البخاري في كتابه (كشف الأسرار) وهو مذهب أكثر الحنفية، ونسب بعض هؤلاء هذا المذهب إلى القاضي أبي يوسف تخريجًا، وهذا المذهب رواية ثانية عن الإمام أحمد -رحمه الله.

أدلة المذهب الثاني وجواب الأول عليها، وضرب أمثلة له:

وقد استدل أصحاب المذهب الثاني على ما ذهبوا إليه بقياس الرواية على الشهادة. وبيان هذا القياس: أنه لو شهد شاهدان على شهادة شاهدين. فإذا نسي شاهدا الأصل الشهادة، وقالا: لا نذكر ولا نحفظ شيئًا. ففي هذه الحالة لا يجوز للحاكم العمل بشهادة شاهدَي الفرع، وكذلك هنا في الرواية، فإن الأصل وهو المروي عنه –يعني: الشيخ- لم يصدق الراوي، وإنما توقف في ذلك، ونسي ما رواه الفرع عنه، فلا يجوز العمل بروايته عنه. والجامع بينهما –يعني: بين الرواية وبين الشهادة- هو الفرعية والنسيان في كل منهما.

وأجاب ابن قدامة عن دليل المذهب الثاني بقوله: وليس بصحيح؛ لأن الراوي عدل جازم بالرواية، فلا نكذبه مع إمكان تصديقه. والشيخ لا يكذبه أيضًا، بل قال: لست أذكره.

إذن العهد بالراوي أنه عدل وأنه جازم بالرواية، ونستطيع ألا نكذبه لإمكان أن يكون صادقًا، والشيخ أيضًا لا يكذبه، بل قال: لست أذكره.

أما قياس الرواية والشهادة وهو دليل المذهب الثاني، فقد أجاب ابن قدامة عن ذلك بقوله: والشهادة تفارق الرواية في أمور كثيرة، ومعنى ذلك: أن قياسكم الرواية على الشهادة قياس فاسد؛ ذلك لأنه قياس مع الفارق، فالشهادة تفارق الرواية وتختلف عنها في أمور كثيرة؛ حيث إن باب الشهادة أضيق من باب الرواية، وأغلظ حكمًا.

فالعلماء يقولون: إن شهادة الفرع لا تُسْمع، ولا تُقبل ما دام أن شاهد الأصل موجود، يعني ليس للقاضي أن يطلب شهادة الفرع مع وجود الأصل.

ودليل الجمهور: أن الصحابة رضي الله  عنهم كان بعضهم يروي عن بعض مع القدرة على مراجعة النبي صلى الله عليه  وسلم، وهذا نص كلام ابن قدامة.

والأمثلة على ذلك كثيرة –يعني: على أن الصحابة رضي الله  عنهم كان الواحد منهم إذا سمع حديثًا من غيره قبله دون أن يسأل النبي صلى الله عليه  وسلم:

المثال الأول: أن النبي صلى الله عليه  وسلم كان يرسل رسله وسعاته أفرادًا وجماعات إلى القبائل، وأطراف البلدان، فيخبرون المسلمين في هذه الأماكن بالأحكام الشرعية، ويخبرونهم بالناسخ والمنسوخ منها، وكان هؤلاء يقبلون منهم ذلك، ويلزمون أنفسهم بالعمل بتلك الأعمال أخذًا من هؤلاء الرواة، ولا يرجعون إلى النبي صلى الله عليه  وسلم مع استطاعتهم على الرجوع إليه.

المثال الثاني: أن بعض الصحابة كانوا يصلون في قباء نحو بيت المقدس، فجاءهم رجل، فقال: أشهد أني صليت مع النبي صلى الله عليه  وسلم نحو الكعبة، فتحولوا واتجهوا إلى الكعبة، فهؤلاء قد قبلوا ذلك من هذا الرجل، وعملوا بمقتدى قوله من غير مراجعة النبي صلى الله عليه  وسلم مع قدرتهم على ذلك.

المثال الثالث: أن أبا طلحة وأبا عبيدة، وأبي بن كعب كانوا يشربون الخمر قبل أن تحرم، فجاءهم آتٍ، وقال لهم: إن الخمرة قد حرمت؛ فقبلوا ذلك منه وعملوا بمقتضاه؛ حيث أمروا أنسًا رضي الله  عنه لإراقة ما في الجرار من الخمر، فهؤلاء قبلوا ذلك وعملوا به، دون مراجعة النبي صلى الله عليه  وسلم مع القدرة على مراجعته.

قال ابن قدامة -رحمه الله: وأبو طلحة وأصحابه قبلوا خبر الواحد في تحريم الخمر من غير مراجعة، يعني: من النبي صلى الله عليه  وسلم.

اعتراضات على الاستدلال بهذه القصة، والجواب عنها:

الاعتراض الأول: قال بعض أصحاب المذهب الثاني: إن هذه القصة لا حجة فيها، لاحتمال أن سهيلًا قد ذكر الرواية لما روى ربيعة عنه، ومع الذكر فالرواية تكون مقبولة، ويمكن أن يجاب عن ذلك بأن يقال: إنه لو صح ما تقولون -وهو أن سهيلًا قد تذكر- لما ذكر ربيعة؛ إذ لا حاجة إلى ذلك، ولروى سهيل عن شيخه مباشرة، كما لو نسي ثم تذكر بنفسه، ولكن الحق غير ذلك، فقد قال سهيل: حدثني ربيعة، أني حدثته. فهذا يقوي ما قلناه.

الاعتراض الثاني: قال بعض أصحاب المذهب الثاني: إنكم زعمتم بأن التابعين قد أجمعوا على جواز مثل ذلك، ونحن لا نسلم ذلك الإجماع؛ إذ لا دليل عليه، وعلى فرض صحة الإجماع، فإنه لا يستلزم المطوب هنا، وهو وجوب العمل بالحديث إذا أنكره الشيخ إنكار توقف؛ حيث إن ربيعة لم ينقل ذلك عن طريق إسناد الحديث، وتصحيح روايته، وإنما كان يقوله على طريق حكاية الواقعة بزعمه. وهذا لا دلالة فيه على وجوب العمل به.

وكل ما في الأمر جواز قول الأصل بعد النسيان: حدثني الفرع عني، وهذا لا يستلزم وجوب العمل ولا جوازه.

ويجاب عن هذا الاعتراض الثاني بأن الإجماع صحيح؛ لأنَّه لم ينكر أحد على سهيل فيما قاله، إذ لو وجد إنكار لنقل، ولكن لم ينقل شيء من ذلك، فيعتبر ذلك إجماعًا. تعلمون على ما سيأتي أن الإجماع اتفاق المجتهدين من أمة محمد صلى الله عليه  وسلم بعد وفاته على أمر من الأمور الشرعية.

فالإجماع لكي يتحقق لا بد ألا يوجد مخالف ولا منكر. فالجواب على الاعتراض الثاني لأصحاب المذهب الثاني هو أن الإجماع قد تحقق، والإجماع صحيح؛ لأنه لم ينكر أحد على سهيل ما قاله.

وبناء على هذا الإجماع يلزم العمل بمقتضى الخبر، طالما أن الشيخ لم ينكر الحديث إنكارًا صريحًا، فإنكار الشيخ إما أن يكون إنكارًا صريحًا، أو إنكارًا غير صريح.

أما الإنكار الصريح فهذا بالاتفاق لا يصح رواية الحديث عن الشيخ، ولا العمل بمقتضى هذا الحديث، إنما الكلام فيما لو أنكر إنكارًا غير صريح، بأن قال: لست أذكره أو نحو ذلك.

error: النص محمي !!