مستند الإجماع
الإجماع لا بد له من مستند:
1. جمهور أهل العلم على أنَّ الإجماع لا بد له من مستند يستند إليه المجمعون في إجماعهم، من كتاب، أو سنةٍ، أو قياس.
وعبر بعض أهل العلم عن ذلك بقوله: اتفق كل من يُعتد بقوله على أنه لا ينعقد الإجماع إلا عن مستند، وبعضهم قال: جمهور العلماء لا يجوزون الإجماع إلا عن دليل أو أمارة؛ لأنه بدون السند يكون حكمًا بلا دليل.
فمثال الإجماع المستند للكتاب: إجماع العلماء على حد الزنا، فحد الزنا ثبت بالكتاب، والعلماء بعد ذلك أجمعوا على هذا الحد، فكأن الحد ثبت بدليلين: بنص قرآني، وإجماع العلماء. وكذلك إجماع العلماء على حد السرقة، كما أجمعوا على أن ابن الابن كالابن في الميراث، هذا إجماع أيضًا مستند إلى نص قرآني.
2. وذهب قلةٌ قليلة إلى جواز أن يكون الإجماع عن غير مستند، قالوا: بأن يوفق الله تعالى المجتهدين لاختيار الصواب، فيكون إجماعهم توفيقًا لا توقيفًا، وقد عبّر بعض العلماء عن هذا التوفيق بالبخت، وهذا الرأي رأي ضعيف.
الأدلة:
1. أدلة الجمهور على أنه لا بد للإجماع من مستند:
الدليل الأول: إنه لو حصل الإجماع من غير مستند، لاستلزم ذلك الخطأ؛ لأنَّ الرسول صلى الله عليه وسلم: ((لا تجتمع أمتي على خطأ)) فامتنع الإجماع عن غير مستند، وهو المدعى.
الدليل الثاني: أنَّ الإجماع لا يكون إلا من المجتهدين، ومن شأن المجتهد ألا يقول في الدين من غير دليل.
الدليل الثالث: إنَّ المجتهدين ليسوا بآكد حالًا من النبي صلى الله عليه وسلم وهذا كلامٌ مسلم، والنبي صلى الله عليه وسلم لا يقول ولا يحكم إلا عن وحي، بدليل قول الله تعالى في شأنه صلى الله عليه وسلم: {وَمَا يَنطِقُ عَنِ الْهَوَىَ (3) إِنْ هُوَ إِلاّ وَحْيٌ يُوحَىَ} [النجم: 3-4].
الدليل الرابع: إنَّ من ينظر في أحوال الصحابة رضي الله عنهم يجد أن الواحد منهم كان لا يرضى من الآخر القول بغير دليل ومستند، هذا حال الصحابة، وعادة الصحابة وشأنهم.
الدليل الخامس: لو جاز انعقاد الإجماع من غير دليل، لم يكن لاشتراط الاجتهاد في أهل الإجماع معنى؛ لكن هذا محال؛ لأن شرط الاجتهاد في المجمعين محل اتفاق بين أهل العلم.
2. أدلة القائلين: لا يلزم مستند للإجماع، ورد الجمهور عليهم:
الدليل الأول: لو كان الإجماع لا بد له من مستند لم يكن للإجماع حينئذ فائدة، سيكون الحكم الآن مبنيًّا على الدليل لا على الإجماع.
الجواب: لا نسلم عدم الفائدة في الإجماع، وإليكم بعض هذه الفوائد:
الفائدة الأولى: أنَّ الإجماع ومستنده يكونان دليلين على الحكم، واجتماع دليلين على الحكم جائز ومفيد.
الفائدة الثانية: سقوط البحث عن المجتهدين؛ لأنَّ الإجماع بانضمامه إلى المستند يُصيِّر المسألة قطعية، بخلاف المستند فإنه قد يكون ظنيًّا.
الفائدة الثالثة: حرمة مخالفة الحكم المجمع عليه:
أولًا: لأنه صار قطعيًّا.
ثانيًا: أنه يلزم على قولكم أن يكون الإجماع دائمًا عن غير مستند.
الدليل الثاني: فإنَّه قد وقع الإجماع من غير مستند، ولا أدل على الجواز من الوقوع، فإن الصحابة رضي الله عنهم أجمعوا على مسائل كثيرة وليس لهم مستند فيها، وليس لهم دليل، قالوا: العلماء قالوا بصحة بيع المراضاة، أو المسماة ببيع المعاطاة، بأن يأخذ المشتري السلعة ويدفع الثمن بدون قول البائع: بعت، ولا قول المشتري: اشتريت، هذا يُعرف عند الفقهاء أو في الفقه: ببيع المعاطاة، يعني: أنت تعطي الثمن للبائع، وتأخذ السلعة، ولا تتكلم أنت ولا هو يتكلم، كما تذهب مثلًا إلى بائع الكتب أو بائع الجرائد، فتضع له ثمن النسخة، وترفع الكتاب ولا تتكلم أنت، ولا تقول: اشتريت، ولا يقول هو: بعت، وهذا يسمى: بيع المعاطاة، أو بيع المراضاة، فأصحاب المذهب الثاني يقولون: العلماء أجمعوا على صحة بيع المراضاة، وهذا بدون مستند.
قالوا: كما أجمعوا على عدم تقدير أجرة الحمام، يعني: الإنسان يدخل الحمام، ولا يحدد الأجرة ولا مدة المكث فيها، وقالوا: هذا إجماع وليس لهم مستند، فهذه بعض الصور التي أجمع عليها العلماء بدون مستند.
الجواب: أجاب الجمهور عن ذلك بجوابين: جواب تفصيلي، وجواب إجمالي:
الأول: الجواب الإجمالي: قالوا: إنا لا نسلم بأن هذه الإجماعات التي ذكرتموها كانت من غير مستند، بل أقصى ما تفيده، على فرض صحتها، يعني: لو سلمنا لكم أنها إجماعات صحيحة، أن هذه الإجماعات لم ينقل إلينا مستند الإجماع فيها، ولا يلزم من عدم النقل عدم الوجود؛ لجواز أن يكونوا، يعني: المجمعين، قد اكتفوا بالإجماع لأنه حجة قطعية عن نقل مستنده.
الثاني: الجواب التفصيلي: فقالوا: إنّ ما ذكرتموه من صور، وظننتم أنه إجماع، هو ليس إجماعًا، بل هي مسائل خلافية، فإن مسألة بيع المراضاة أو بيع المعاطاة هذه ليست إجماعية كما زعمتم، بل خالف فيها بعض المجتهدين، فالصحيح عند الإمام الشافعي أنها لا تصح.
ومن خلال عرضنا لدليل أصحاب المذهب الثاني، والجواب عنه، يظهر لنا بوضوح أنه لم يقع إجماع بلا مستند، وأن الصور التي أتوا بها ليمثلوا بها على أن الإجماع يقع عن غير مستند، مدفوعة ومردود عليها.
جواز أن يكون مستند الإجماع دليلًا قطعيًّا:
مسألة: انعقاد الإجماع عن أمارة:
يعرف الشيء بالدليل أو بالأمارة، فالدليل: ما يمكن أن يتوصل بالنظر الصحيح فيه إلى علم أو ظن، والأمارة: ما يتوصل بالنظر الصحيح فيها إلى ظن.
وبعض أهل العلم جعل الدليل خاصًّا بالأشياء القطعية، والأمارة خاصة بالأشياء الظنية، فاتفق القائلون بأن الإجماع لا بد له من مستند على أنه يجوز أن يكون المستند دليلًا قطعيًّا -ولا مانع أن يكون للمسألة حكمٌ، وعليها دليلان: دليل من الكتاب أو السنة، ودليل من الإجماع- ومثلوا لذلك بإجماع العلماء على أن للبنت الصلبية المنفردة نصف الميراث، مع وجود النص القرآني في ذلك، قال تعالى: {وَإِن كَانَتْ وَاحِدَةً فَلَهَا النّصْفُ} [النساء: 11] فعندي دليل قطعي يثبت أن البنت الصلبية إذا انفردت في الميراث فلها نصف التركة، ومع ذلك أجمع العلماء على ذلك، فإجماعهم الآن عن دليل أو عن مستند قطعي.
إذا اتفق القائلون بأن الإجماع لا بد له من مستند، على أنه يجوز أن يكون المستند دليلًا قطعيًّا.
الخلاف في كون خبر الواحد مستندًا للإجماع:
اختلف القائلون بأن الإجماع لا بد له من مستند في كون المستند خبر آحاد على مذهبين:
المذهب الأول –وهو مذهب الجمهور:
ويرون أنه يجوز أن يكون مستند الإجماع خبر الآحاد، لا مانع أبدًا أن يتفق المجتهدون على حكم مسألة، ومستندهم في هذا الإجماع -أو الاتفاق- خبر آحاد، وهذا هو الراجح.
المذهب الثاني:
وخالف في ذلك بعض أهل العلم، وقالوا: إن خبر الواحد لا يجوز أن يكون مستندًا للإجماع، وهذا المذهب للظاهرية، وللقاشاني من المعتزلة، ونقل عن ابن جرير الطبري -رحمه الله.
الأدلة:
أ. أدلة الجمهور:
استدل الجمهور على أنه يجوز أن يكون خبر الواحد مستندًا للإجماع بدليلين:
الدليل الأول:
أن انعقاد الإجماع عن خبر الواحد أمر لا يحيله العقل ولا يمنعه؛ كانعقاد الإجماع عن غيره من النصوص القطعية.
الدليل الثاني:
قالوا: الدليل الثاني: هو الوقوع، وهو أقوى، والوقوع أدل دليل على الجواز، فقالوا: أجمع الصحابة رضي الله عنهم على أمور كثيرة، وكان مستندهم في ذلك هو خبر الآحاد، وذكروا أمثلة كثيرة، العلماء أجمعوا فيها وكان مستندهم خبر الواحد:
المثال الأول: إجماعهم على وجوب الغسل من التقاء الختانين بدون إنزال ومستندهم في ذلك خبر آحاد: حديث السيدة عائشة رضي الله عنه: ((إذا التقى الختانان فقد وجب الغسل، فعلته أنا ورسول الله صلى الله عليه وسلم فاغتسلنا)) الحديث رواه الترمذي، وقال: حسن صحيح.
المثال الثاني: إجماعهم على حرمة بيع الطعام قبل القبض، مستندين في ذلك إلى ما روي عن عبد الله بن عمر { عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: ((من ابتاع طعامًا فلا يبعه حتى يستوفيه)) الحديث رواه أبو داود؛ فهذا إجماع من الصحابة على حرمة بيع الطعام قبل القبض، ومستندهم في ذلك خبر آحاد.
إذن هذه أمثلة ونماذج ووقائع وصور، أجمع فيها الصحابة رضي الله عنهم وكان مستندهم فيها خبر الآحاد، وليس أدل على الجواز من الوقوع.
ب. أدلة أصحاب المذهب الثاني:
الدليل الأول: لو جاز أن يكون مستند الإجماع حديث آحاد، لترتب على ذلك باطل، وذلك لأن الإجماع حجة قطعية، وخبر الواحد حجة ظنية.
الجواب:
وأجاب الجمهور عن ذلك، قالوا: سلمنا أن الإجماع حجة قطعية، ولا يمنع ذلك أن يكون مستنده خبر آحاد، نستطيع أن نفرق بين حكمٍ ثبت بحديث آحاد، وحكم ثبت بإجماع مستندٍ إلى حديث آحاد، فالأول ظني والثاني قطعي. ومذهب الجمهور هو المذهب الراجح.
الخلاف في كون القياس مستندًا للإجماع:
اختلف القائلون بأنه لا بد للإجماع من مستند في جواز أن يكون قياسًا، ثم اختلف القائلون بالجواز في الوقوع:
المذهب الأول –مذهب الجمهور:
وذهبوا إلى أنه يجوز أن يكون مستند الإجماع قياسًا، فالعلماء يجمعون ويتفقون، ودليلهم الذي استندوا عليه قياس، كما أجمعوا واتفقوا ودليلهم الذي استندوا إليه نص قرآني، أو نص من السنة المتواترة، أو خبر آحاد.
المذهب الثاني:
وهو مذهب بعض الشافعية، قالوا: يجوز أن يكون مستند الإجماع قياسًا جليًّا، ولا يجوز أن يكون مستند الإجماع قياسًا خفيًّا.
المذهب الثالث:
وهو مذهب الظاهرية وابن جرير الطبري، وهذا المذهب منسوب إلى الشيعة أيضًا، وذهبوا إلى المنع، قالوا: لا يجوز أن يكون مستند الإجماع قياسًا.
الأدلة:
أ. أدلة أصحاب المذهب الأول–وهم الجمهور:
الدليل الأول: إن الأدلة التي سبقت للدلالة على حجية الإجماع لم تفرق بين المستند القطعي والظني، والقياس إن قلتم: هو ظني الدلالة، قلنا لكم: الأدلة لم تفرق بين المستند القطعي والمستند الظني، واشتراط القطعية يعتبر تقييدًا للأدلة بلا دليل، وهو لا يجوز.
الدليل الثاني: القياس تؤخذ منه الأحكام ابتداء عند الجمهور، إذا لم تجد الحكم في القرآن، ولا في السنة، ولا في الإجماع، فكأن القياس له استقلالية في إثبات الأحكام، فاعتماد الإجماع عليه جائز من باب أولى، فإذا كان القياس في حد ذاته دليل مستقل، فما المانع أن يكون هذا الدليل المستقل سندًا لدليل آخر هو الإجماع؟!.
الدليل الثالث: إنه لا يترتب على فرض وقوعه مُحال، وكل ما كان ذلك كان جائزًا. وبهذا يكون القياس صالحًا لأن يكون مستندًا للإجماع.
الدليل الرابع: إنه كما جاز أن يكون مستند الإجماع خبر الواحد، وهو ظني؛ فكذلك يجوز أن يكون مستند الإجماع قياسًا، يعني: وهو يفيد الظن أيضًا.
الدليل الخامس: لنا دليل آخر هو الوقوع، والوقوع أدل دليل على الجواز.
- ومن أمثلة الوقوع: إجماع العلماء على إراقة الزيت إذا ماتت فيه الفأرة قياسًا على السمن إذا وقعت فيه فأرة، ما هذا؟ في الحديث ((أن النبي صلى الله عليه وسلم سئل عن السمن تموت فيه الفأرة؟ فقال: إن كان جامدًا فألقوها وما حولها، وإن كان مائعًا فأريقوه)) فلو أن فأرة وقعت في السمن ننظر: إن كان هذا السمن جامدًا تلقى الفأرة وما حولها، وإن كان مائعًا يراق كل السمن، فالحديث الآن وارد في السمن. فهب أن فأرة وقعت في الزيت أو في أي سائل آخر؛ فقد أجمع العلماء على إراقة الزيت إذا ماتت فيه الفأرة، قياسًا على السمن إذا وقعت فيه الفأرة، هذا مثال لإجماع مستنده قياس.
والأمثلة في هذا كثير، والقول الأول -قول الجمهور- هو الصحيح والراجح؛ لأنَّ إفادة الإجماع لقطعية الحكم ليست بالنظر إلى مستنده، يعني: إذا قلنا: أجمعوا على كذا؛ فهذا الإجماع يفيد أن الحكم حكم قطعي؛ قطعية الحكم مستفادة من مستند الإجماع وذات الإجماع، وليس من مستند الإجماع، لأن الأمة معصومة عن الخطأ، ومعصومة عن أن تجتمع على ضلالة؛ كما قررنا ذلك عند إثبات حجية الإجماع؛ فالنبي صلى الله عليه وسلم لما قال: ((لا تجتمع أمتي على خطأ)) ففي هذا الحديث إثبات لعصمة الأمة.
هذا بالإضافة إلى أنه لو اشترط كون سند الإجماع قطعيًّا يعني: آية من القرآن الكريم أو حديث متواتر، لو سلمنا بذلك لقلت فائدة الإجماع؛ إذ يكون الحكم ثابتًا قبله قطعًا بالدليل القطعي، وأما كون القياس مختلفًا فيه -أي: في حجيته- فإنه لا يضر هذا لو سلمنا بخلاف المخالف، وليس كل خلاف معتبرًا إلا خلافًا له حظ من النظر، فخلاف المخالف في حجية القياس خلاف واهٍ وضعيف بعد أن ثبتت حجية القياس بالقرآن، والسنة، وإجماع الأمة، والمعقول… ونحو ذلك.
إذن الحاصل: أنه لا مانع أن يكون سندُ الإجماع هو الاجتهاد والقياس -وهذا هو الراجح.