Top
Image Alt

مشروعية المضاربة أو القراض، وأركان عقد المضاربة

  /  مشروعية المضاربة أو القراض، وأركان عقد المضاربة

مشروعية المضاربة أو القراض، وأركان عقد المضاربة

مشروعية المضاربة أو القراض:

فالقراض أو المضاربة أمر مشروع جائز شرعًا، ودليل هذه المشروعية يأتي من السنة، ومن الكتاب، ومن القياس، ومن الآثار الواردة عن الصحابة -رضوان الله عليهم- فالأدلة على مشروعية القراض أو المضاربة كثيرة ومتعددة، وهي في الأصل شرعت على سبيل الرخصة، أو الاستحسان عند جمهور العلماء؛ فجمهور العلماء: يرون أن المضاربة مخالفة للقياس أصلًا، بمعنى: أنها لا تجوز قياسًا؛ لأنها هي نوع من الإجارة، لكن إجارة على عمل مجهول، والأجرة أيضًا مجهولة، خصوصًا إذا كانت مطلقة، وحتى لو كانت مقيده فتحت هذا القيد أنواع وأجناس، فهي لا تجوز قياسًا عند جمهور الفقهاء؛ لأنها إجارة على عمل مجهول، والأجرة أيضًا مجهولة؛ لأن الأجرة جزء من الربح، والربح قد لا يتحقق أصلًا، فلا يأخذ العامل شيئًا؛ فالأصل أنها لا تجوز، لكنها أجيزت استحسانًا؛ للأدلة التي سنذكرها من جهة، ولحاجة الناس الشديدة إليها.

وأنا أرى أنها ليست مخالفة للقياس؛ يقال: هذا يخالف القياس إذا لم يكن ثابتًا بالأدلة.

والمضاربة أصل من الأصول الثابتة بالكتاب والسنة والإجماع، وفعل الصحابة… إلخ، فلا يقال: إنها مخالفة للقياس؛ إلا إذا أردنا بالقياس هنا: قياس الأصول، يعني: الأصل، والأصل في ما يورده الشارع من معاملات، لكن حتى هذا لا يقال؛ لأن الشارع حر، وهو أدرى بمصالحنا، فما ثبت في الكتاب والسنة، لا يقال: إنه مخالف للقياس.

أما الكتاب: فالله تعالي يقول: {وَآخَرُونَ يَضْرِبُونَ فِي الأرْضِ يَبْتَغُونَ مِن فَضْلِ اللّهِ} [المزمل: 20].

والمضارب يضرب في الأرض يتبغي من فضل الله، وقد ذكر الله -سبحانه وتعالي- ذلك من باب مراعاة هؤلاء الذين يضربون في الأرض؛ فخفف الله عنهم، وعمن خفف عليهم، ورخص الله لهم في أن يكون قيام الليل شيئًا مستحبًّا، وليس فريضةً.

وأما السنة: فقد روى ابن عباس رضي الله  عنهما أنه قال: “كان العباس إذا دفعَ مالًا مضاربةً، اشترط على صاحبه ألا يسلك به بحرًا، ولا ينزل به واديًا، ولا يشتري به ذات كبد رطبة، فلما بلغ النبي صلى الله عليه  وسلم ذلك أجازه ” رواه البيهقي، لكن في إسناده ضعف.

وكذلك بُعِثَ رسول الله صلى الله عليه  وسلم والناس يتعاقدون عليها، يعني: كانت معروفة عند العرب، فلم ينكر عليهم، وهذا إقرار بحق، والإقرار نوعٌ من أنواع السنة؛ لأن السنة: قولية، أوفعلية، أو تقريرية.

وخرج النبي صلى الله عليه  وسلم كما جاء في السيرة، قبل البعثة بمال خديجة مضاربة.

وقد انعقد الإجماع على ذلك، وهذا الإجماع الذي روي عن جماعة من الصحابة رضي الله  عنهم أنهم كانوا يدفعون مال اليتيم مضاربهً.

من هؤلاء الصحابة: عمر وعثمان، وعلي، وعبد الله بن مسعود، وعبد الله بن عمر، وعبيد الله بن عمر، وعائشة، وغيرهم، ولم ينقل أنه أُنْكِرَ عليهم، وعلى هذا تعامل الناس من لدن رسول الله صلى الله عليه  وسلم بالمضاربة من غير إنكار من أحد، وإجماع أهل كل عصر حجة، يترك من أجلها القياس لو كان هناك مخالفة للقياس.

والحق: أن المضاربة أصل وما جاء على أصل لا يقال: إنه مخالفٌ للقياس.

وقد جاء في:(الموطأ): أن سيدنا عبد الله بن عمر، وأخاه عبيد الله بن عمر مَرَّا على الكوفة، وبها أبو موسي الأشعري، وكان عاملًا لعمر عليها، فقال لهما: وددت أن أنفعكما، بلى بأن عندي مالًا -مال الخراج- أدفعه إليكما، فتشتريان به بضائع لتبيعاها في المدينة، وتأخذا الربح، وتعطيا أمير المؤمنين الأصل، فدفع إليهما الخراج فاشتريا به بضائع، وباعاها في المدينة بعد وصولهما، وأخذا الربح، ودفعا إلى أمير المؤمنين أصل الخراج وأخبراه، فقال: هل أبو موسي أعطى كل الجنود مثل ما أعطاكم؟ قالوا: لا، فقال: إذًا: ولدا أمير المؤمنين فحاباكما، ادفعا الأصل والربح، وسكت عبد الله بن عمر، وتكلم عبيد الله، فقال: يا أمير المؤمنين، لو ضاع، أو خسر هذا المال؛ أليس الضمان علينا؟ قال: قلت لك: ادفع الأصل والربح، فقال رجل من الحاضرين: اجعلها قراضًا يا أمير المؤمنين، فجعلها قراضًا، فأخذ أصل المال، وأخذ نصف الربح، وهذا ثابت في (موطأ) الإمام مالك، وهو يدل صراحة على معرفة سيدنا عمر بالمضاربة أو القراض، ويدل على معرفة الصحابي؛ إذًا فهي أمر ثابت.

وأما حكمة مشروعيتها: فإن القراض أو المضاربة إنما شرعت للضرورة؛ لأن الضرورة دعت إليها حاجة الناس؛ لأن الحاجة إذا عمت صارت ضرورة، والناس يحتاجون إلى التصرف في أموالهم، وتنميتها بالتجارة فيها، وليس كل أحد يقدر على ذلك بنفسه، فقد يضطر إلى استنابة غيره، ولعله لا يجد من يعمل له فيها بإجارة؛ فالشارع الحكيم فتح بابًا آخر هو باب القراض، يعمل العامل، ويأخذ مقابلًا على ذلك جزءًا من الربح.

قال الإمام الكاساني الحنفي: “إن الإنسان قد يكون له مال، لكنه لا يهتدي إلى التجارة، يعني: لا يعرف، ولا يدرك وسائل التجارة، وقد يهتدي إلى التجارة، لكنه لا مال له، فكان في شرع هذا العقد دفع الحاجتين، يعني: حاجة صاحب المال، وحاجة العامل، والله تعالى ما شرع العقد أو العقود إلا لمصالح العباد، ودفع حوائجهم”.

وهذا كلام دقيق يدل على أن الإمام الكاساني، يكشف لنا عن مقاصد الشرع في المعاملات عمومًا، وفي هذه المعاملة على وجه الخصوص.

لكن هل لعقد المضاربة شروط صحة إذا توافرت، كان العقد صحيحًا، وإلا كان فاسدًا؟

ذهب جمهور الفقهاء: إلى أن أركان عقد المضاربة:

  1. عاقِدَان.
  2. ورأس مال.
  3. وعمل.
  4. وربح.
  5. وصيغة.

وكل ركنٍ من هذه الأركان له شروط، إذا توافرت كان الركنُ صحيحًا، وإذا توافرت كلُّ شروط صحة الأركان كان العقد صحيحًا، والمالكية رفضوا كون الصيغة ركنًا أو شرطًا، وقالوا: تصح المضاربة دون لفظ.

وقال بعض الشافعية: يكفي القبول بالفعل.

وعلى أي حال؛ هذا تعاقد، سواء كان باللفظ وبغير اللفظِ، ولا بدَّ من موافقة الطرفين، والصيغة كاشفة فقط عن رضا الطرفين حتى تكون المعاملة صحيحة، وكل المعاملات مبنية في صحتها، وفي حلها، وفي جوازها على الرضا، كما قال الله تعالي: {إِلاّ أَن تَكُونَ تِجَارَةً عَن تَرَاضٍ مّنْكُمْ} [البقرة: 28]، والصيغة إنما هي كاشفه فقط عن هذا الرضا؛ لأن الرضا أمر خفي، وأمر نفسي.

وذهب الحنفية: إلى أن أركان المضاربة الإيجاب والقبول فقط، أما باقي الأركان -كما هي طريقتهم في كل العقود- تلزم من الإيجاب والقبول.

1. ونبدأ بالصيغة: وهي تنعقد بأي لفظ يدل على القراض أو المضاربة، مثل: ضاربتك، أو قارضتك، وبأي لفظ آخر يدل على الرضا، وقيل: يكفي الفعل، ويغني عن القول.

2. أما ما يتعلق بالعاقدين وهما: صاحب المال أو رب المال أو المالك، والآخر: هو العامل أو المضارب فيشترط في كل منهما أن يكون أهلًا للتصرفات المالية؛ لأن القراض أو المضاربة نوعٌ من أنواعِ التصرف المالي حتى يتصرف كل منهما تصرفًا صحيحًا شرعًا؛ فينبغي أن يكون أهلًا لهذا التصرف، والضابط في ذلك أنه يجوز له توكيل غيره والوكالة عن غيره؛ لأن الواقع أن صاحب المال هو موكل، وأما العامل فهو وكيل فيشترط في كل منهما أن يكون أهلًا للتصرف بحيث يجوز توكيله لغيره ووكالته عن غيره؛ وذلك بأن يكون بالغًا عاقلًا رشيدًا مختارًا.

ولكن هناك تساؤل: هل تجوز مضاربة غير المسلم؟

في ذلك خلاف بين الفقهاء:

فالحنفية والحنابلة: ذهبوا إلى جواز المضاربة مع الذمي، بل أنهم ذهبوا إلى جواز هذه المعاملة مع الحربي المستأمن، المخالف لنا في الدين، وقومه على عداوة معنا؛ إذا نحن أعطيناه الأمان لدخول بلدنا، فمن الممكن خلال فترة الأمان أن يكون مضاربًا لصاحب المال.

وقالوا: لا يشترط إسلام المضارب، وهذا مذهب الحنفية والحنابلة.

لكن كره الشافعية، معاملة غير المسلم في المضاربة، بل إن ذلك عند المالكية حرام، وكان الإمام مالك يوصي دائمًا بألا يقارض المسلم شخصًا يستحل شيئًا من الحرام حتى لو كان مسلمًا، يعني عليه أن يختار العامل الأمين الذي يتقي الله، ولا يتعامل في الحرام، ولا يرضى بالحرام، والإمام مالك رغم تشدده؛ فإنه يأخذ بسد الذرائع، وهو هنا يأخذ بالأحوط، لكن مذهب الحنفية، والحنابلة أكثر مناسبةً لظروف العصر الذي اتسعت فيه التجارات، وانتشرت فيه المعاملات المالية والشركات، فالذي يصلح هو قول الحنفية والحنابلة؛ علمًا بأن قول الشافعية قول جيد، وقول المالكية هو الأحوط.

3. ما يتعلق برأس مال المضاربة، فيتعلق برأس مال المضاربة عدة أمور وشروط منها:

أ. كون رأس المال من الدراهم والدنانير: يعني: أن يكون نقدًا، وهو شرط متفق عليه إلا في رواية عند الإمام أحمد، أنه تجوز المضاربة في قيمتها -في قيمه أي شيء- يعني: هل تجوز المضاربة بالثياب، وعلى الثياب، وعلى السلع، والبضائع، في قول عند الأمام أحمد، نعم تجوز في قيمتها، يعني: يكون رأس المال هو قيمة هذه السلع، وقيمة هذه الثياب، أو ما إلى ذلك من غير الدراهم والدنانير.

وقال الحنفية: لو دفع إليه عروضًا -عروض التجارة السلع- وقال له: بعها، واجعل ثمنها مضاربة جاز، يعني كأنه وكَّلَهُ الأول في أن يبيع هذه السلع، وبعد أن يحصل على ثمنها يجعله مضاربة؛ فهذا تخريج طيب للحنفية، ورأي المالكية أن فعل ذلك يجعلها مضاربة فاسدة، يعني لا بد عند المالكية من أن يكون رأس المال نقدًا حتى يكون واضحًا يبدأ العمل فيه مباشرة.

ب. كون رأس المال معلومًا للعاقدين: يعني: معلومًا بالصفة، ومعلومًا بالجنس؛ بحيث إنه يكون محددًا، لأن رأس المال هذا هو الذي سيتاجر به، وهو الذي سيسترده صاحب المال، أو ما بقي منه يسترده صاحبه، والذي سيقسم هو الربح؛ فلا بد أن يكون رأس المال معلومًا للعاقدين قدرًا، وصفةً، وجنسًا؛ علمًا ترتفع به الجهالة، ويدرأ النزاع، وإلا فسدت المضاربة؛ وذلك لأن جهالة رأس المال سيؤدي إلى النزاع لا محالة؛ خصوصًا إذا كانت الجهالة فاحشة؛ سيفضى ذلك إلى النزاع والاختلاف فيقول له: أعطيتك مائه ألف، والآخر يقول: لا، أعطيتني تسعين ألفًا؛ فينبغي أن تكون الأمور واضحة منذ البداية.

ج. كون رأس المال عينًا لا دينًا: الفرق بين العين والدين أن الدين في الذمة، لكن العين -يعني المال حاضر- موجود نراه بأعيننا وليس دينًا، إنما لو كان رأس المال دينًا؛ فسد إمكان الدين على العامل بالاتفاق؛ لأن ذلك قد يكون ذريعةً للربا -والعياذ بالله- وإن كان على غيره؛ فالجمهور على فسادها كذلك. وأجازه بعض المالكية والحنفية كأنه وكله في قبض الدين له على غيره، فإذا قبضه عمل فيه مضاربة.

د. تسليم رأس المال إلى العامل: وذلك ليكون للعامل مطلق التصرف فيه وحده، يعني: بعد أن يسلم صاحب المالِ المالَ للعامل الذي سيتاجر فيه لا يتدخل، يتركه يتصرف، ويخلي بينه وبين المال، كأنه ملكه، ويتصرف فيه.

وذهب الجمهور: إلى جواز المضاربة بالوديعة سواء أكانت عنده أو عند غيره، يقول له: أنا ليه عندك وديعة بمائة ألف اشتغل فيها بالتجارة، اشتغل فيها مضاربة، والربح بيني وبينك.

ومنع المالكية من ذلك، يعني: منع المالكية المضاربة بالوديعة؛ خشية أن يكون المودع لديه أنفقها فتصير دينًا، ولا تجوز المضاربة بالدين، كما أنه قد يوافق، ويزعم أنه ربح، وندخل في شبهات الربا -والعياذ بالله.

4. ما يتعلق بالربح من شروط -الربح يعني: إن كان هناك ربح أن ربحت التجارة- فيشترط في الربح شروط منها:

أ. كون الربح معلومًا: بمعنى: أن يكون نصيب كل منهما من الربح معلومًا، وليس الربح نفسه، يعني: أن يكون الربح معلومًا.

والمقصود: ربح كل منهما في الربح الأصلي الذي هو الفارق بين ثمن رأس المال، وما زاد عليه بالعمل والتجارة؛ وذلك بأن يكون للعامل النصف، أوالربع، أوالثلث، أو أيّ نسبة من النسب، والباقي يكون لصاحب المال.

ب. يكون الربح جزءًا شائعًا: فإن قال: لأحدهما مائة من الربح مثلًا زيادة، أو يقول: لصاحب المال مائة، والباقي للعامل أو للعامل مائة والباقي لصاحب المال، هذا لا يجوز، يعني: تحديد عدد أو مقدار ما يأخذه أحدهما من الربح لا يجوز؛ لأن ذلك لا يؤدي إلا إلى الغرر؛ فقد لا يربح المال إلا هذه المائة مثلًا؛ فيأخذها الطرف الذي اشترط له هذا، ويحرم الآخر.

الذي يتعلق بالعمل من شروط:

العمل الذي يقوم به العامل يشترط فيه إجمالًا ثلاثة شروط:

1. أن يكون العمل في التجارة خلاف الزراعة والصناعة؛ لا بد أن يكون العمل في التجارة؛ لأن هذا عقد مضاربة.

2. ألا يضيق رب المال على العامل في التجارة؛ لأن التضييق في على العامل يؤدى في إلى الغالب الأعم إلى الرفض، ويؤدي إلى الخسارة، وألا يخالف العامل مقتضى العقد، مقتضى العقد، يعني: الأساس في العقد هو التجارة، فلو أخذ رأس المال، وصانع، وزارع عليه لا يجوز، ومقتضى العقد هو العمل، واستثمار المال، إذا لم يستثمره، وجلس في بيته؛ فهذا مخالف لمقتضى العقد؛ وبالتالي لا يستحق أي جزء من الربح.

وتصرفات العامل في المال على أربعة أنواع ذكرناها منذ قليل إجمالًا، ونذكرها الآن بشيء من التفصيل:

النوع الأول: ما للعامل عمله من غير نص عليه إذا لم تكن المضاربة مقيدة -يعني كانت عامة- فللعامل أن يعمل كل ما من شأن التجار أن يعملوه في التجارة، حسب العرف، وحسب العادة.

النوع الثاني: ما ليس للمضارب أن يعمله إلا بالنص عليه، وهو ينتظم ما لا يفعله التجار عادةً، ولا يشمله عقد المضاربة بإطلاق، ومثال ذلك: الاستدانة على مال المضاربة فإن فعل هذا واستدان، فهو ضامن.

النوع الثالث: ما للمضارب عمله في المضاربة المطلقة إذا قال له صاحب المال: اعمل برأيك؛ فله أن يعمل من الأشياء ما لم ينص عليه؛ فيجوز له أن يدفع مال المضاربة إلى غيره، يضارب فيه، وتعدد المضاربة يخلطه بماله لا بأس.

النوع الرابع وهو الأخير: ما ليس للمضارب عمله أصلًا، وهو ما لا يفعله التجار، بل يحظره الشرع، مثل: التجارة في الميتة والدم، ولحم الخنزير، وما لا نفع فيه فهذا مرفوض، ولا يجوز أن يكون عملًا من أعمال المضاربة.

error: النص محمي !!