مشروعية الوكالة
الوكالة مشروعة وجائزة بأدلة من الكتاب, والسنة, والإجماع.
أما الكتاب فقول الله تعالى: {إِنَّمَا الصَّدَقَاتُ لِلْفُقَرَاء وَالْمَسَاكِينِ وَالْعَامِلِينَ عَلَيْهَا وَالْمُؤَلَّفَةِ قُلُوبُهُمْ} [التوبة: 60] إلى آخر الآية, التي بين الله سبحانه وتعالى فيها الأشخاص الذين يستحقون الزكاة، وهم: الفقراء، والمساكين، ومن بعدهم… إلى آخر الآية.
فمحل الشاهد في هذه الآية أن الله أجاز العمل بجمع الصدقات من الأغنياء، وذلك بحكم النيابة عن المستحقين؛ فالنبي صلى الله عليه وسلم كان يرسل العمال ليجمعوا الصدقة من المالكين لها, أو الزكاة من أصحابها بحكم النيابة عن المستحقين, ثم توزّع بعد ذلك.
ومن القرآن الكريم أيضًا, فالدليل على الوكالة ما جاء في قصة أصحاب الكهف حينما قاموا من نومهم وقالوا: {فَابْعَثُوا أَحَدَكُم بِوَرِقِكُمْ هَذِهِ إِلَى الْمَدِينَةِ فَلْيَنظُرْ أَيُّهَا أَزْكَى طَعَامًا فَلْيَأْتِكُم بِرِزْقٍ مِّنْهُ وَلْيَتَلَطَّفْ وَلاَ يُشْعِرَنَّ بِكُمْ أَحَدًا} [الكهف: 19], فهذا الأمر الذي قام به هؤلاء حينما أرادوا أن يبعثوا واحدًا منهم ليشتري لهم طعامًا -وكالة؛ لأنه لما أضاف الوَرِق -أي الفضة والعملة الفضية- إلى جميعهم، فهم مالكون لها، ولكن الآية جاء فيها أنهم أباحوا أو صرحوا لواحد منهم فقط, فقالوا: {فَابْعَثُوا أَحَدَكُم } يتولى الشراء، فكان هذا استنابة منهم له؛ أي: وكالة.
وهناك كثير من الآيات دالة على الوكالة، فقول الله تعالى حكاية عن قول يوسف عليه السلام للعزيز: {قَالَ اجْعَلْنِي عَلَى خَزَآئِنِ الأَرْضِ إِنِّي حَفِيظٌ عَلِيم} [يوسف: 55], أي: وكلني على خزائن الأرض. وقوله سبحانه وتعالى حكاية عن قول يوسف أيضًا لإخوته: {اذْهَبُواْ بِقَمِيصِي هَـذَا فَأَلْقُوهُ عَلَى وَجْهِ أَبِي يَأْتِ بَصِيرًا} [يوسف: 93], فذهبوا بقميصه نيابة عنه, أي: وكلهم في الذهاب به ليُلقوه على وجه أبيه. فكل هذا من باب الوكالة، فالوكالة إذًا جائزة بالكتاب الكريم.
ومن السنة أيضًا أدلة كثيرة، فمنها توكيل النبي صلى الله عليه وسلم لعروة البارقي، وهذا الحديث أو هذا الأثر روي بأكثر من طريق، ومن هذه الطرق أن النبي صلى الله عليه وسلم أعطى عروة دينارًا ليشتري به شاة، فقال عروة: “فأخذت الدينار من النبي صلى الله عليه وسلم وساومت به, فاشتريت بالدينار شاتين، فجئت أسوقهما” أي: اشترى بالدينار شاتين، وجاء بهما فقال: “لقيني رجل بالطريق فساومني” أي: دخل في بيعة أخرى مع رجل “فبعت له شاة واحدة بدينار، فأتيت النبي صلى الله عليه وسلم بالدينار والشاة”.
فكأنه هنا فعل أمرًا فيه ربح، وهو أنه أخذ دينارًا ليشتري به شاة، ومن خلال هاتين المعاملتين اللتين تمتا, أتى النبي صلى الله عليه وسلم بالدينار والشاة، فقلت: “يا رسول الله, هذا ديناركم، وهذه شاتكم” أي: التي طلبتموها, “وحدثته بالحديث” أي: بالقصة التي حدثت, فدعا النبي صلى الله عليه وسلم له بالبركة في بيعه قائلًا: ((اللهم بارك له في صفقة يمينه)) فكان عروة لو اشترى ترابًا لربح فيه -كما يقول أهل الحديث.
وأيضا من السنة ما روي عن جابر بن عبد الله قال: أردت الخروج إلى خيبر، فأتيت رسول الله صلى الله عليه وسلم فقلت له: إني أريد الخروج إلى خيبر، فقال صلى الله عليه وسلم: ((ائت وكيلي)) أي: اذهب إلى وكيلي ((فخذ منه خمسة عشر وسقًا من حبوب أو تمر)) أو إلى آخره ((فإن ابتغى منك آية)) أي: أراد منك علامة على أن النبي صلى الله عليه وسلم وكله في هذا، قال له النبي: ((فإن ابتغى منك آية, فضع يدك على ترقوته)) أي: كأنه لا يصدقك. رواه أبو داود في باب الأقضية، والدارقطني والبيهقي.
أيضًا من الأدلة على جواز الوكالة شرعًا في السنة: أن النبي صلى الله عليه وسلم وكل عمرو بن أمية في نكاح أم حبيبة بنت أبي سفيان؛ كأنه كان وكيلًا عن رسول الله صلى الله عليه وسلم في نكاحها رضي الله عنها.
ووكل أبا رافع في قبول نكاح ميمونة بنت الحارث؛ فكان وكيلًا عن رسول صلى الله عليه وسلم في زواج النبي بميمونة بنت الحارث رضي الله عنها. هذا أخرجه “موطأ” أحمد والترمذي والنسائي.
أيضًا مما ورد في جواز الوكالة من السنة: ما روي أن علي بن أبي طالب رضي الله عنه وكل أخاه عقيل بن أبي طالب؛ أي: جعله وكيلًا عنه، وهذا ما رواه البيهقي أن عليًّا رضي الله عنه كان يكره الخصومة؛ أي: الدخول في مخاصمات ومنازعات، ويقول: “إن الشيطان يحضرها، وإني إن حضرت خفت أن أغضب” أي: إن سيدنا عليًّا يقول هذا “وإن غضبت خفت ألا أقول حقًّا”؛ لأن الغضب يخرج الإنسان عن الأمر الطبيعي، فيجعله لا يقول الحق.
“وقد وكلت أخي عقيلًا، فما قضي عليه فعلي، وما قضي له فلي” وبعدما أسن عقيل وبلغ مرحلة من العمر كبيرة, لا يستطيع فيها أن يقوم مقام أخيه علي، وكل سيدنا علي عبدَ الله بن جعفر, وهذا كله واردٌ في السنن.
وأما من الإجماع، فإن الأمة أجمعت على جواز الوكالة في الجملة؛ لأن هناك أشياء لا تجوز الوكالة فيها، فإن كان هناك بعض التحفظات على بعض الأمور التي لا تجوز الوكالة فيها, إلا أنها جائزة في الجملة.
ولأن الحاجة داعية إليها, أي: حاجة الناس تدعو إلى هذه الوكالة؛ لأنه لا يمكن لكل شخص أن يفعل ما يحتاج إليه، فهي جائزة مثلًا لمن أراد صيانة نفسه عن الدخول في المبايعات والشراء والخصومات ونحوها، وهذا الذي قلناه قبل ذلك من أنه يوكل ترفهًا.
وهي جائزة أيضًا لمن عجز عن ذلك؛ أي: عجز عن الدخول في المبيعات والشراء والخصومات -أي: العجز البدني والعجز المعنوي- لأنه يغبن في البياعات، وهكذا.
إذًا: الوكالة جائزة في كل من الحالتين: من أراد صيانة نفسه ترفهًا, ومن عجز عن الدخول فيها؛ لأنها نوع من أنواع التعاون على البر والتقوى.