Top
Image Alt

(مصنف ابن أبي شيبة)

  /  (مصنف ابن أبي شيبة)

(مصنف ابن أبي شيبة)

ننتقل بعد ذلك إلى المصنف الآخر، وهو (مصنف ابن أبي شيبة):

هو: عبد الله بن محمد بن أبي شيبة العبسي مولاهم, أبو بكر الحافظ الكوفي، قال أبو حاتم وابن خراش: ثقة، وقال عمرو بن علي: ما رأيت أحفظ من أبي بكر، وقال ابن حبان في (الثقات): كان متقنًا حافظًا دينًا، كتب وجمع وصنف وذاكر، وكان أحفظ أهل زمانه للمقاطيع -أي: ما روي عن التابعين ومن بعدهم.

قال الذهبي: وهو من أقران أحمد بن حنبل وإسحاق بن راهويه وعلي بن المديني في السن والمولد والحفظ، كان بحرًا من بحور العلم، وبه يضرب المثل في قوة الحفظ. وقال صالح بن محمد الحافظ جزرة: أعلم من أدركت بالحديث وعلله علي بن المديني، وأعلمهم بتصحيف المشايخ يحيى بن معين، وأحفظهم عند المذاكرة أبو بكر بن أبي شيبة. وقال ابن عقدة: سمعت عبد الرحمن بن خراش يقول: سمعت أبا زرعة يقول: ما رأيت أحفظ من أبي بكر بن أبي شيبة، فقلت: فأصحابنا البغداديون؟ قال: دع أصحابك؛ فإنهم أصحاب مخاريق، ما رأيت أحفظ من أبي بكر بن أبي شيبة.

وله مصنف مشهور أكبر من (مصنف عبد الرزاق) وأجمع في الأبواب، وقد أخذنا منه نفس الموضوع الذي أخذناه من (مصنف عبد الرزاق) ليظهر منهجه فيه، ولنتمكن من المقارنة بين المنهجين:

قال ابن أبي شيبة: كتاب “البيوع والأقضية”، ثم قال في الباب السادس في “الرهن في السلم”: حدثنا حفص بن غياث وابن فضيل، عن الأعمش عن إبراهيم عن الأسود عن عائشة: “أن رسول الله -صلى الله عليه وسلم- اشترى من يهودي طعامًا إلى أجل؛ فرهنه درعه”، ولم يذكر ابن فضيل “إلى أجل”؛ فبدأ بالحديث المرفوع المتصل إلى رسول الله -صلى الله عليه وسلم- وذكر الرواية التي لا تدخل في الباب, وهو أن الطعام الذي اشتراه لم يكن إلى أجل، وأن الرهن لم يكن في سلم، ثم روى فقال: حدثنا ابن عيينة عن أيوب عن قتادة عن أبي حسان عن ابن عباس أنه قال: “لا بأس بالرهن في السلم”، ثم قال: حدثنا ابن عيينة عن أيوب عن قتادة عن أبي حسان عن ابن عباس بنحوه، ثم قال: حدثنا حفص وابن فضيل عن الأعمش عن إبراهيم؛ أنه كان لا يرى بالرهن في السلم بأسًا، فقيل له: إن سعيد بن جبير يقول: ذلك الربح المضمون، قال: قد يأخذ الرهن ثم يرتفع السعر. فبيَّن إبراهيم أن النهي إنما يتوجه إذا حصل ربح في هذا السلم -الرهن يكون قد ضمن الربح- فيدخل في النهي؛ أما إذا لم يكن ذلك فلا مانع من الرهن.

ثم قال: حدثنا علي بن مسهر, عن الشيباني أنه قال: سألت الشعبي عن الرهن في السلم فقال: وددت أني لم أكن أعطيت شيئًا إلا برهن، ثم قال: حدثنا أبو أسامة عن سعيد عن قتادة, عن سعيد بن المسيب وعطاء أنهما كانا لا يريان بالرهن في السلم بأسًا.

ثم قال: حدثنا وكيع قال: حدثنا عبد الحميد بن بهرام, عن شهر بن حوشب عن أسماء بنت يزيد “أن النبي -صلى الله عليه وسلم- توفي, ودرعه مرهونة عند يهودي بطعام”، ثم أيد ذلك بقوله: حدثنا يزيد بن هارون عن هشام عن عكرمة عن ابن عباس أنه قال: “قُبض رسول الله -صلى الله عليه وسلم- وإن درعه مرهونة بثلاثين صاعًا من شعير، أخذها رزقًا لعياله”.

ثم قال: حدثنا أبو أسامة عن خالد بن دينار أنه قال: سألت سالمًا عن الرهن في السلم, فقرأ: {ﭙ ﭚ}البقرة:283] كأنه لم يرَ به بأسًا، ثم قال: حدثنا ابن أبي زائدة عن ابن عون عن عامر -أي: الشعبي- أنه قال: إني لأعجب ممن يكره الرهن أو القبيل في السلم، ثم قال: حدثنا ابن فضيل عن إسماعيل بن أبي خالد عن الشعبي؛ أنه كان لا يرى بأسًا أن تأخذ ثقة بمالك، فقال له رجل: إن قومًا يكرهون القبيل ولا يرون بالكفيل بأسًا. ففرق بين الرهن وبين الكفيل، ثم قال: حدثنا ابن أبي زائدة عن إسرائيل عن جابر عن عامر أنه قال: كان أصحاب عبد الله لا يرون به بأسا، ثم قال: حدثنا ابن أبي زائدة عن عبد الملك عن عطاء مثله.

ثم قال: حدثنا حميد بن عبد الرحمن عن حسن عن جابر, عن أبي جعفر وسالم والقاسم قالوا: لا بأس بالرهن في السلم، ثم قال: حدثنا إسماعيل بن إبراهيم عن أيوب عن محمد -أي: ابن سيرين- أنه قال: إذا كان أوله حلالًا؛ فالرهن مما أمر به، ثم قال: حدثنا محمد بن فضيل عن يزيد عن مجاهد عن ابن عمر؛ أنه سئل عن الرهن في السلم، فقال: استوثقْ من مالك، ثم قال: حدثنا مالك حدثنا وكيع أنه قال: حدثنا ابن أبي خالد قال: سئل عامر عن الرهن في السلم قال: إني لا أقول فيه مثل قول ابن جبير: إنه ربًا مضمون، ثم قال: حدثنا وكيع قال: حدثنا سفيان عن يزيد عن مقسم عن ابن عباس أنه قال: لا بأس بالرهن والكفيل في السلم.

ذكر كل هذه المرويات فيما يدل على الإباحة, ثم قال: “من كره الرهن في السلم” قال: حدثنا وكيع بن الجراح عن ابن جريج عن عبد الله بن أبي يزيد عن أبي عياض أن عليًّا كان يكره الرهن والقبيل في السلم، ثم قال: حدثنا أبو الأحوص عن محمد بن قيس أنه قال: سئل ابن عمر عن الرجل يُسلم السَّلم ويأخذ الرهن؛ فكرهه، وقال: ذلك الشف المضمون -يعني: الربح- فتصحّفت عند (مصنف عبد الرزاق) بالسلك أو السلك، ثم قال: حدثنا ابن فضيل عن بكير بن عتيق أنه قال: قلت لسعيد بن جبير: آخذ الرهن في السلم؟ فقال: ذلك ربح مضمون، قال: قلت: آخذ الكفيل؟ قال: ذلك ربح مضمون، ثم قال: حدثنا ابن مهدي عن سفيان عن الجعد عن شريح؛ أنه كان يكره الرهن في السلم أو في السلف, ثم قال: حدثنا محمد بن أبي عدي عن داود عن سعيد بن المسيب؛ أنه كان يكره الرهن والقبيل في السلم -أي: الكفيل.

بعد أن انتهى من ذلك, يظهر مما ذكره أنه يرى تخصيص النهي بما إذا حصل ربح من السلم مع الرهن، وليس على العموم.

وتوسّع ابن أبي شيبة في التقسيم, وفصل بين المبيح وبين غير المبيح بعناوين -وهو ما لم يفعله عبد الرزاق- فهو أوسع نقلًا وأكثر إحاطة بالروايات من عبد الرزاق، وإن اشتمل ما عند عبد الرزاق على ما عند ابن أبي شيبة فزيادته ظاهرة، وقد يختلفان في الترجيح؛ فيختم أحدهما بالتحريم لأنه يراه، ويختم أحدهما بالإباحة لأنه يراها.

وكان عليه، وقد ظهر سبب التحريم من كلام إبراهيم وتفسيره لكلام مجاهد؛ أن يأخذ بذلك وأن يركز عليه، لكنهم لم يظهروا آراءهم كفقهاء؛ وإنما نقلوا الفقه مفصلًا محررًا، فهمًا من أصول الأحكام التي وردت عن الصحابة وعن التابعين ممن يؤخذ بقولهم وممن يعتمد عليهم؛ ولولا ما نقلوه لضاعت هذه الأحكام, وهذه الاجتهادات التي قامت عليها أمة الإسلام في العصور الزاهرة.


error: النص محمي !!