Top
Image Alt

(مصنف عبد الرزاق)

  /  (مصنف عبد الرزاق)

(مصنف عبد الرزاق)

بعد “الجامع” وهو نموذج للجوامع التي أحسنها -كما سيأتي في الكلام على (سنن أبي داود)- (جامع سفيان الثوري), وكان عند ابن حجر ونقل منه أحاديث في (فتح الباري)؛ لكنه غير موجود الآن -ظهرت المصنفات وهي مشتملة على السنن وما هو في حيزها، أو له تعلق به -كما قال الكتاني- ويظهر من دراستها والنظر فيها أنها تعرض الأحكام الشرعية، وتعتمد أقوال الأئمة من الصحابة والتابعين، وإذا كانت المسألة خلافية فإنها تفصل بين أقوال المجوزين وأقوال المانعين من ذلك، ثم يظهر من عرض الموضوع ما يختاره صاحب المصنف من غير أن يصرح به، وتعتبر وعاء كبيرًا لجهود الأئمة من الصحابة والتابعين ومن بعدهم، فيما يتصل بعرض الأحكام الشرعية وذكر العلل التي يتعلل بها كل قائل لقوله، وذكر العلة عن واحد من المانعين يفيد في فهم الكلام المجمل من غيره؛ وكذلك الأمر فيما يتصل بما يجوز أو بما يباح، وهي مرتبة أيضًا على الأبواب الفقهية، ويدخل فيها أيضًا أبواب من أبواب الجوامع.

ومن هذه المصنفات مما ذكره صاحب (الرسالة المستطرفة): (مصنف وكيع بن الجراح)، و(مصنف حماد بن سلمة)، و(مصنف أبي الربيع سليمان بن داود) العتكي الزهراني البصري، والموجود منها الآن: (مصنف عبد الرزاق) و(مصنف ابن أبي شيبة).

ونبدأ بـ(مصنف عبد الرزاق), وهو ابن همام بن نافع الحميري مولاهم أبو بكر الصنعاني، قال ابن معين: أما عبد الرزاق والفريابي وأبو أحمد الزبيري وعبيد الله بن موسى وأبو عاصم وقبيصة وطبقتهم، فهم كلهم في سفيان قريب بعضهم من بعض، وهم دون يحيى بن سعيد وابن مهدي ووكيع وابن المبارك وأبي نعيم، وقال ابن عدي: لعبد الرزاق أصناف -أي: مصنفات- وحديث كثير، وقد رحل إليه ثقات المسلمين وأئمتهم, وكتبوا عنه إلا أنهم نسبوه إلى التشيع، وقد روى أحاديث في الفضائل لم يتابع عليها؛ فهذا أعظم ما ذموه من روايته لهذه الأحاديث، ولما رواه في مثالب غيرهم، وأما في باب الصدق فأرجو أنه لا بأس به.

وقال الذهلي: كان عبد الرزاق أيقظهم في الحديث وكان يحفظ، وقال إبراهيم الدبري: كان عبد الرزاق يحفظ نحوًا من سبعة عشر ألف حديث، وقال الذهبي في (النبلاء): عبد الرزاق الحافظ الكبير، عالم اليمن. ونقل الدوري عن ابن معين أنه قال: كان عبد الرزاق في حديث معمر أثبت من هشام بن يوسف، وكان هشام بن يوسف أثبت منه في حديث ابن جريج، وأقرأ لكتب ابن جريج من عبد الرزاق، وكان أعلم بحديث سفيان الثوري من عبد الرزاق؛ فكان عبد الرزاق راوية لمعمر وروى عن غيره، وظهر علمه في مصنفه.

ونحاول استكشاف منهجه فيه في هذا الجزء من (المصنف): قال عبد الرزاق: باب الرهن والكفيل في السلف: أخبرنا معمر قال: أخبرني علي بن جذيمة أنه سمع سعيد بن جبير وسئل عن الرهن والكفيل في السلف؛ فكرهه وقال: ذلك الربح المضمون. قال بعده: أخبرنا معمر عن قتادة عن الحسن أنه كره الرهن والكفيل في السلف -والكراهة هنا: التحريم.

ثم روى عن الثوري عن ابن جرير عن عبد الله بن أبي يزيد عن أبي عياض عن علي بن أبي طالب -رضي الله عنه-: أنه كره الرهن والكفيل في السلف، وروى عن الثوري عن محمد بن قيس قال: سمعت ابن عمر يُسأل عن التسليف جِرْبانًا معلومًا -أي: مقدارًا معلومًا- إلى أجل معلوم؛ فلم يرَ به بأسًا؛ فقيل له: أخذ رهنًا، فقال: ذلك السك المضمون، وعند ابن أبي شيبة تصحيح هذه اللفظة -كما سيجيء- والمراد بها، وهو الربح المضمون.

وروى عبد الرزاق قال: أخبرنا ابن عيينة عن هشام بن حجير قال: سمعت الحسن البصري يقول: كان المسلمون يقولون: من سلَّف سلفًا؛ فلا يأخذ رهنًا ولا صَبِيرًا، وقال عبد الرزاق: أخبرنا معمر عن أيوب عن ابن سيرين قال: إن كان التسليف ليس به في الأصل بأس؛ فلا بأس بالرهن والحميل فيه.

ففي الروايات السابقة ذكر المانعين، وبدأ بمعمر ثم الثوري ثم ابن عيينة، ثم انتقل إلى المبيحين؛ فبدأ بالرواية عن معمر أيضًا ثم قال: أخبرنا معمر عن منصور وغيره عن إبراهيم والشعبي؛ أنهما كانا لا يريان بأسًا أن يسلفا ويأخذا رهنًا أو حميلًا، ثم قال: أخبرنا معمر عن الزهري قال: لا بأس بالرهن والكفيل في السلف، ثم روى عن الثوري عن منصور والأعمش عن إبراهيم مثله. ثم قال: أخبرنا محمد بن راشد أنه سمع مكحولًا يقول: لا بأس بالرهن والكفيل في السلف، ثم روى عن الثوري عن يزيد عن مقسم عن ابن عباس: أنه كان لا يرى بالرهن والكفيل في السلف بأسًا، ثم قال: أخبرنا معمر عن زيد بن أسلم أن رجلًا كان يطلب النبي -صلى الله عليه وسلم- بحق فأغلظ له؛ فأرسل النبي -صلى الله عليه وسلم- إلى يهودي للتسليف منه؛ فأبى أن يسلفه إلا برهن، فبعث إليه بدرعه وقال: ((والله إني لأمين في الأرض, أمين في السماء))، وهو مرسل عن زيد بن أسلم إلى الرسول -صلى الله عليه وسلم-.

ثم قال عبد الرزاق: أخبرنا ابن عيينة قال: سمعت شيخًا من بجيلة يقول: سمعت الشعبي يقول وسئل عن الرهن والكفيل في السلف, فقال: هو أحل من ماء الفرات، ثم قال: أخبرنا إسماعيل بن عبد الله قال: حدثني ابن عون قال: سألت عنه الشعبي فقال: ومن يكرهه؟ فقلت: ألا أحدثك؟ قال: أعن الأحياء أم عن الأموات؟ قلت: بل عن الأحياء، قال: لا حاجة لنا في حديثك عن الأحياء، وقال عبد الرزاق: أخبرنا ابن عيينة عن الأعمش عن إبراهيم عن الأسود بن يزيد عن عائشة: “أن رسول الله -صلى الله عليه وسلم- ابتاع من يهودي أصوعًا من دقيق, ورهنه درعه”؛ فبدأ بمن منع ثم كر عليه بمن أباح، وساند الإباحة بما روي مرفوعًا؛ فأرسله مرة ثم وصله في آخر الباب، مما يدل على أنه يختار الإباحة ولا يختار المنع.

وهو يبدأ أولًا بمعمر بلفظ الإخبار؛ مما يدل على أنه سمع منه، وكذلك يفعل مع ابن عيينة ومع من سمع منه، أما من في سماعه منه شك أو سمع منه القليل ولم يسمع منه الكثير؛ فإنه يستعمل العنعنة للدلالة على ذلك, فعبد الرزاق -فيما يتصل ببيان السماع ونحوه- يمكن تمييز ما سمعه مما لم يسمعه, ويظهر اعتماده على (جامع سفيان الثوري) وعلى (جامع معمر بن راشد) وعلى (جامع سفيان بن عيينة) وبالإضافة إلى ما رواه عنهما مباشرة، أو ما وصل إليه عن الثوري من طريق يعتمده فيعنعنه؛ والحكم يؤخذ من مجموع ما نقله من الأقوال وليس من قول واحد منها، وهو يحسن انتقاء هذه الأقوال وترتيب الأمور في كتابه، ولا يصرح بما يختاره؛ لكن يظهر ذلك من عرضه لما يعرضه.

error: النص محمي !!