Top
Image Alt

مظاهر التجديد, والخصائص الدالة عليه في الشعر الأندلسي

  /  مظاهر التجديد, والخصائص الدالة عليه في الشعر الأندلسي

مظاهر التجديد, والخصائص الدالة عليه في الشعر الأندلسي

إن الباحثين الذين اهتموا بتبيين ملامح التميز ووضوح الشخصية في هذا الشعرِ الأندلسيّ لم يقتصروا على ذكرِ هذه الأبواب، أو الأنماط من القول، وإنما ذهبُوا إلى محاولةِ استخلاصِ خصائص يتميز بها الشعر الأندلسي عن الشعر في بلاد المشرق، وجعلوا هذه الخصائص منها ما يتعلق بالألفاظ والأساليب، وذكروا في ذلك أن الشعر الأندلسي يتسم بظواهرَ ثلاث، هذه الظواهر هي أن هذا الشعر الأندلسي تغلِب عليه سهولةُ الألفاظِ.

لاحظ التعبير “تغلب عليه”، يعني: ليس بالضرورة عندما نتحدث عن هذه الخصائص لا بد أن تلازم كل شعر وتلازم كل بيت، العبرة في الأحكام الأدبية بالغالب؛ فالناقل والدارس عندما يحاول تمييز صورة عن صورة يذهب إلى الأغلب.

فقالوا: تغلب على شعر الأندلس سهولة الألفاظ وعذوبتها، ورقتها، وحسن اختيارها، كما يغلب عليها من جهة الألفاظ والأساليب سلاسة التراكيب، وإحكام بنائها، وسلامتها من الإغراب والتعقيد، وخلوِّهَا من الجفاء والغرابة؛ مما جعل أساليبهم وجُمَلَهم وألفاظهم كأنها توقيع موسيقي يهزُّ أوتار القلوب فيَتَمَلَّكُهَا.

فألفاظهم تحمل على التلحين لرقتها وحلاوة موقعها، ودقة ارتباطها بسائر أجزاء الجملة التي يأخذ بعضها بِحُجُزِ بعضٍ دون أن يكون في التعبير فجوات أو عثرات؛ بل إنَّكَ لتجد التآخي، والانسجام بين جملهم، وكأن كُلًّا من هذه الجمل كان نتيجةً لما سبقه، ومقدمة لما يلحقه، فضلًا عما تميزت به هذه الألفاظ والأساليب من وضوحِ المعنى الذي يكاد يتسابق مع الألفاظ ليستقرَّ في عقلِ المتلقي وقلبِهِ؛ بل إنك لتقرأ القصيدة الأندلسية فلا تكاد تعثر بكلمةٍ تحتاجُ مَعَهَا إلى معجمٍ لغويٍّ، ولا تكاد كذلك تجد عبارةً مبهمةً أو تركيبًا ملتويًا أو أسلوبًا معقدًا، وهذا بالتأكيد يدخل إلى النفس نشوةً وميلًا إلى هذا الشعر ورغبةً فيه.

يقولون: إن هذه الظاهرة في الشعر الأندلسي راجعةٌ إلى رقة طباع الأندلسيين، ولين أخلاقهم وسماحة نفوسهم، وصراحة شخصيتهم، ووضوحها وعدم التوائها، فإذا تكلموا أرسلوا القول على السجيَّة، والفطرة النقية دون تكلف، ولا تحميل للألفاظ ما لا تطيق من المعاني؛ فجاء شعرهم لذلك جاريًا مع الطبع متساوقًا مع الفطرة دون تَعَمُّلٍ أو إجهادِ خاطر.

ومعلوم: أن الطبع الرقيق لا يصدر عنه سوى اللفظ العذب الرقيق، والطبع الخشن لا يصدر عنه كذلك سوى اللفظ الجافي الخشن، وتلك حقيقة تنبَّه لها النقاد العرب منذ القِدَم.

وإذًا فهذا البحث ينظر إلى أثر الطبيعة والحياة الجديدة في الشخصية؛ لأن الشخصية العربية هي الشخصية العربية؛ لكن الذي غير هذه الشخصية هو الحياة الجديدة والطبيعة الجديدة، وفي هذا نظر لأثر الحضارة، وأثر الحضارة في الشعر الأندلسي واضح بالتأكيد.

يقول أحد النقاد العرب -وهو القاضي الجرجاني صاحب كتاب (الوساطة) عن العرب: وقد كان القوم يختلفون في ذلك وتتباين فيه أحوالهم؛ فيرق شعر أحدهم، ويصلب شعر الآخر، ويسهل لفظ أحدهم، ويتوعر منطقُ غيرهِ؛ وإنما ذلك بحسب اختلاف الطباع، وتركيب الخِلْقَةِ؛ فإن سلامة اللفظ تتبع سلامة الطبع، ودماثة الكلام بقدر دماثة الخلقة.

وإلى جانب الشخصيةِ الأندلسيةِ الرقيقةِ الطباعِ، تجد البيئةَ الأندلسيةَ الجميلةَ المتحضِّرةَ ذاتَ أثر كبير في وجود هذه الظاهرة الأسلوبية؛ ذلك لأن البيئة كما تؤثر في أجسام أهلها، فتجعل منهم الأبيض والأسود، والأسمر والأشقر، والقوي والضعيف؛ تؤثر كذلك في عقولهم وألسنتهم، فتصنعهم على عينها، وتشكلهم بقالبها؛ فإذا كانت متحضرةً أرهفت شعرهم، وألانت حواشي كلامهم وهذبت أساليبهم، فهذا إذًا هو أثرُ الطباعِ وأثرُ البيئة في الشعر الأندلسي.

والدارسون الباحثون عن تميز الشخصية الأندلسية لا يكتفون بالكلام عن اختلافِ الطبائعِ، واختلاف البيئات؛ بل إنهم يحاولون أن يوازنوا بين البيئةِ العربيةِ في المشرقِ والبيئةِ الأندلسية، ويحاولون كذلك أن يوازنوا بين طبيعةِ الشخصيةِ العربيةِ في المشرقِ وطبيعةِ الشخصيةِ الأندلسية؛ فيذكرون مثلًا أن الأندلس لم تكُن تقع على مشارفِ الباديةِ كالبيئةِ العربيةِ في المشرق، ومعلوم: أن البادية تمد بالألفاظ اليابسة الصلبة والتراكيب الغريبة والتعبيرات المعقدة، وقد انعكس هذا على ألفاظ وأساليب الشعر عند المشارقة، فهم عرب يتاخمون البادية، ويجوسون خلالها، وتأتيهم طوائف البدو في مخالطات ومداخلات، ومن ثمَّ جزلت ألفاظ المشارقة وبعدت أساليبهم عن الرقة واللين والسماحة في جملتها.

ويذكرون: أن أثر هذه البادية القريبة من بيئةِ العربِ في المشرق كانت سببًا في وجودِ الألفاظِ الخشنةِ والكلماتِ الغريبة والأساليبِ الغامضةِ التي تُصقِل الخاطر أو وتحوج المرء إلى معالجة البحث عن معاني الألفاظ في معاجم اللغة.

وبالتأكيد هذا نظر إلى أثر البداوة في الشعر المشرقي؛ ولكننا للإنصاف نذكر: أن الحياة العباسية لمَّا أخذت بحظٍّ وافرٍ من التحضرِ ورفاهيةِ العيش؛ ظهر أثر ذلك التحضر أيضًا في الشعر العباسي، ولانت أساليبهم، ورقَّتْ ألفاظهم في كثيرٍ من الأحيان، فالمقاربة إذًا -كما قلت- تنظر إلى الغالب هنا والغالب هناك.

ويذكرون كذلك أن البيئة المشرقية ظلت متأثرةً تأثرًا شديدًا بمذهبِ العربِ الأوائلِ القدامى من شعراء العصر الجاهلي؛ فجاء قدر كبير من تراث المشارقة الشعري متناسقًا أو متفقًا مع تقاليد البناء الفني للقصيدةِ العربيةِ التقليديةِ المتوارثةِ من العصرِ الجاهلي وما تلاه من عصور، وينبغي أن نذكر هنا أن الأندلسيين أدخلوا أنماطًا جديدةً في بناء القصيدة؛ خاصةً البناء الموسيقي؛ فالموشحات، والأزجال، وبعض الأنماط الأخرى التي ظهرت في الأندلس تُعَدُّ من التجديد الذي يحسب للأندلسيين بلا شك.

وفي مجال الدراسة التطبيقية يأتي الدارسون بنماذج لتدللَ على ما ذهبوا إليه من تميُّز الشعر الأندلسي في جهةِ ألفاظِهِ وأساليبِهِ؛ فمثلًا من هذا الشعر ما قاله ابن زيدون في وصفِ محبوبَتِهِ ولادة؛ إذ يقول:

هِيَ الشَّمسُ مَغرِبُها في الكِلَل

*وَمَطلَعُها مِن جُيوبِ الحُلَل

وَغُصنٌ تَرَشَّفَ ماءَ الشَبابِ

*ثَراهُ الهَوى وَجَنَاهُ الأَمَلْ

بَدَت في لِداتٍ كَزُهرِ النُجومِ

*حِسانِ التَحَلّي مِلاحِ العَطَلْ

مَشَينَ يُها بَينَ رَوضِ الرُبى

*بِيانِعِ رَوضِ الصِبَا المُقتَبَل

فَمِن قُضُبٍ تَتَثَنّى بِريحٍ

*وَمِن قُضُبٍ تَتَثَنّى بِدَلّ

وَمِن زَهَراتٍ تُنَدّى بِمِسكٍ

*وَمِن زَهَراتٍ تُنَدّى بِطَلّ

هذه أبيات -بالتأكيد- في غايةِ الرقةِ والعذوبة، ويظهر فيها أثرُ هذه البيئةِ المترفةِ الجميلةِ؛ فالشاعر يصف محبوبته وهي في سِرْبٍ من الفتيات الحسان، يتهادين وسط الحدائق والخمائل في منظر آسرٍ للقلب، فاتن للعين، لافت للإحساس، ومنَبِّهٍ للخاطرِ، ومؤججٍ للعاطفة؛ فلغةُ الأبيات هنا وأساليبها شاكلت وشابهت هذا المنظر الجميل، منظر الحدائق والأزهار.

وهذا التناسق وهذا التشابه بين الصور الأسلوبية والصور الطبيعية التي أوحت إلى هذا الشاعر بهذه الأساليب الرقيقة والصور الجميلة؛ فمن الصور الجديرة بالتأمل في هذه الأبيات: صورة الشمس عندما يقول “هي الشمس”: يذكر أن حبيبته هي الشمس، ويذكر أن مغرب هذه الشمس في الكِلَلِ، وهي الستائر، وأن مطلعها من جيوب الحلل، أي: الثياب، فالشمس هنا ليست إلا المحبوبة، وليس المقصود الشمس الحقيقية، وهذا التعبير في البيت الثاني في قوله: “غُصنٌ تَرَشَّفَ ماءَ الشَبابِ”، هذا الغصن لا يقصد به سوى جسم المحبوبة؛ فهو يشبِّه جسمها بالغصن، ويقول: إن هذا الغصن تَرَشَّفَ ماءَ الشَبابِ ثَراهُ الهَوى وَجَنَاهُ الأَمَلْ.

ويذكر أن هذه المحبوبة بَدَتْ في فتيات، يشبه هؤلاء الفتيات بالنجوم الزاهرة، ويذكر أنهن “حسان التحلِّي ملاح العَطَلَ”، يعني: إذا كانت الفتاة تتحلى بزينة فزينتها حسنة، وإذا كانت عاطلة من هذه الزينة؛ فهي مليحة أيضًا وجميلة، “مشين بها”: بهذه المحبوبة، وهي في وسطهن بين روض الربى، “بيانع روض الصبا”؛ فالروض يانع والصبا والشباب أيضًا في هؤلاء الفتيات يانع، وهذه الصورة الجميلة في البيت الذي يأتي بعد ذلك في قوله:

فَمِن قُضُبٍ تَتَثَنّى بِريحٍ

*وَمِن قُضُبٍ تَتَثَنّى بِدَلّ

الدَّلُّ: هو الدَّلَالُ، الذي يظهر على الفتيات في مشيتهِنَّ؛ فهن يتثنين، وتثنِّيهنَّ يشبه تثنِّي الأغصان التي تهتز وتتثنَّى بفعل الريح؛ فالأغصان الحقيقية -أغصان الأشجار- تتثنى بالريح، والأغصان الغير الحقيقية -وهي أجساد الفتيات- تتثنى بالدلال.

وَمِن زَهَراتٍ تُنَدّى بِمِسكٍ

*وَمِن زَهَراتٍ تُنَدّى بِطَلّ

هناك في الحديقة زهرات الندى الحقيقي فيها وماء الصباح الذي يقطر قطرات خفيفة عليها، وهناك زهرات -وهن الفتيات- والندى الذي يظهر عليهن أو الذي تبدو رائحته منهن هو المسك؛ فإلى هذا الحد استطاع الشاعر أن يمزج بين وصف الطبيعة الجميلة، ووصف محبوبته وصواحبها من الفتيات الجميلات.

بالتأكيدِ يظهر أثر الطبيعة، وأثر الحضارة، وأثر النفس الرقيقة التي استجابت لهذه الطبيعة، وهذه الحضارة في هذه الأبيات التي تدل على رقة الشعر الأندلسي في جانب الألفاظ والأساليب، وفي جانب التصوير كذلك.

ذكروا أيضًا أن من الظواهر التي جعلت الشعر الأندلسي يتميز عن الشعر المشرقي: قلة الألفاظ الدخيلة في لغةِ الشعرِ الأندلسي:

فلم تعرف ألفاظ اللغات الأخرى؛ كالفارسية، والهندية، واليونانية، واللاتينية طريقها إلى الشعر الأندلسي إلَّا في الوقتِ المتأخرِ من وجود المسلمين في بلادِ الأندلس بعد أن زالَ سلطانُ العرب، وضعفت اللغة العربية، وأذنِت شمس الإسلام هناك بالمغيب.

فإذًا خلوُّ الشعر الأندلسي من الألفاظ الأعجميةِ في فترةٍ طويلةٍ من وجودِهِ في تلك البلاد سمةٌ من السمات التي يرصدها الدارسون الذين يقولون: إن الشعرَ الأندلسيَّ له شخصيتُهُ المتميزةُ عن الشعر في بلاد المشرق.

وظاهرة أخرى ذكروها في تمييزهم لهذه الشخصية الأندلسية، فقالوا: إن الإسهاب والإطناب يغلب على لغة الشعر الأندلسي؛ فأساليبهم فضفاضة طويلة الذيل؛ فهم لا يدمِجون المعاني الكثيرةَ في العبارات القصيرة، والكلمات القليلة، وهذه الظاهرة التي يسميها البلاغيون بـ”الإيجاز” لا توجد في الشعر الأندلسي إلا قليلًا؛ لأن هذا الإيجاز قد ينحرف بصاحبِهِ إلى الغموضِ والإبهامِ والأندلسيونَ مطبوعون على الوضوح والإشراق.

بالإضافة إلى أن هذا الإيجاز يتطلب صبرًا وجَلَدًا في الحصولِ عَلَى الجُمَلِ القصيرة التي تحمل المعاني الكثيرة، ولم يكن الأندلسيون في طبعهم ومزاجهم يطيقون هذا الجَلَدَ، وذلك العناء؛ لأنهم اعتادوا حياةً ناعمةً مترفةً لينةً، فهم يميلون إذًا إلى المعاني الواضحةِ والصورِ السافرةِ والتعبير السهلِ الذي لا يكلِّفهم العنت والمشقة.

وكان من أثر هذا الإطناب ودلائله في شعرهم: أن المعنى الواحد يأتي في صورٍ مختلفةٍ متنوعةٍ، وأن الكلمات المترادفة والألفاظ التي تأتي مكملةً للمعنى من غير ضرورة، ومن ذلك أيضًا الحرص على المزاوجة بين الجمل، وهذه ظاهرةٌ تدل على التأنِّقِ في الصياغة وجمال التعبير.

وذكروا أن من خصائص الشعر الأندلسي الذي تميَّز عن الشعر العربي في بلاد المشرق: أن الأندلسيين وإن كانوا قد نظموا الشعر في الأغراض المعروفة؛ كالمدح، والهجاء، والرثاء، والفخر، والحماسة، والوصف، والغزل، والخمر… إلى غير ذلك من الأغراض التي تستوعب الشعر العباسي أيضًا؛ فإن الأندلسيين استحدثوا أغراضًا جديدةً لم تُعرَف قبلهم، ومن هذه الأغراض رثاء الممالك الزائلة، والاستغاثة، والاستنجاد، ونظم العلوم والفنون.

ومن الأغراض التي تفوَّقَ فيها الشعر الأندلسي كذلك: وصفُ الطبيعة، ومن هذه الأغراض ما يمكن تسميته: شعر الوطنية الإسلامية في بلاد الأندلس.

ومن السمات التي رصدها الباحثون للدلالة على تميُّز الشعر الأندلسي على الشعر في المشرق: أن هذا الشعر الأندلسي يتميز بالإبداع في التشبيهات والروعة في عرض الكنايات، والإكثار من اللطيف الغريب من هذه الكنايات والصور الخيالية، وذكروا من أمثلة ذلك مثلًا: قال أحد شعرائهم في طلوع الصباح:

وكأنَّ الليلَ حِيْنَ لَوَى

*ذاهبًا والصبحَ قَد لَاحَا 

كِلَّةٌ سوداءُ أحْرَقَهَا

*عاملٌ أَسْرجَ مِصْبَاحَا

ومن ذلك: قول أحدهم في وصف ساقي زنجي قال:

وَزِنْجِيٍّ أَتَى بِقَضِيب نُورٍ

*وَقَدْ زُفَّتْ لَِنَا بِنْتُ الكُرُومِ

فَقَالَ فَتَىً مِنَ الفِتْيَانِ صِفْهُ

*فَقُلْتُ اللَّيْلُ أَقْبَلَ بِالنُّجُومِ

ومن السمات التي ذكروها أيضًا: أن الخيال يغلب على شعرهم في جميع الأغراض التي سلكوها والأبواب التي وَلَجوها، وغني عن البيان: أن هذه السمات موجودةٌ في كل شعر؛ لكن -كما قلت- الذين يرصدون التميز يقولون: إن هذا هو الأغلب.

وهذا الخيال البديع الذي يتحدثون عنه يمثِّلُون له بقول ابن شرف القيراوني -مثلًا- يصف ليلًا طال مداه، وتشكَّى نجمُه استبدادَ الأرق به، وأن طيفَ الحبيبِ زاره فيه، يقول ابن شرف:

مَطَلَ اللَّيْلُ بِوَعْدِ الفَلَقِ

*وَتَشَكَّى النَّجْمُ طُولَ الأَرَقِ

ضَرَبَتْ رِيحُ الصَّبَا مِسْكَ الدُّجَى

*فاستفَاضَ الرَّوضُ طيبَ العَبَقِ

وَأَلاحَ الفَجْرُ خَدًّا خَجِلًا

*جَالَ مِنْ رَشْحِ النَّدَى فِي عَرَقِ

جَاوَزَ اللَّيْلَ إِلَى أَنْجُمِهِ

*فَتَسَاقَطْنَ سُقُوطَ الوَرَقِ

وَاسْتَفَاضَ الصُّبْحُ فِيهَا فَيْضَةً

*أيقن النجمُ لها بالغرقِ

فانجَلى ذَاكَ السَّنَا عن حَلَكٍ

*وانمَحَى ذاك الدجى عن شفقِ

بأبي بعد الكرى طيفٌ سرى

*طارقًا عن سكنٍ لم يَطَّرِقِ

زَارَنيِ والليلُ ناعٍ سدْفَهُ

*وهو مطلوبٌ بباقي الرمَقِ

ودموعُ الطَّلِّ تمرِيها الصَّبا

*وجفونُ الروضِ غَرْقَى الحَدَقِ

فَتَأَنَّى في إزارٍ ثابتٍ

*وتثنى في وشاحٍ قلقِ

وتجلَّى وجهُهُ عن شعرِهِ

*فتجَلَّى فَلَقٌ عن غَسَقِ

نَهَبَ الصبحُ دُجَى ليلتِهِ

*فَحَبَا الخَدَّ ببعضِ الشفَقِ

سَلَبَتْ عيناهُ حدَّيْ سيفِهِ

*وتحَلَّى خَدُّهُ بالرَّوْنَقِ

فهذا وصف تجد الخيال بارعًا في كل بيت من أبياته.

ومن السمات التي ذكروها دالين على تميز الشعر الأندلسي كذلك: أن الشعراء الأندلسيين التزموا القصد وعدم المغالاة في المحسنات البديعية؛ فلم يَكُن في شعرهم من هذه المحسنات إلا مَا جَاءَ عفْوَ الخاطر من غيرِ عناءِ نفسٍ ولا كَدِّ ذِهْن.

ومن هذه السمات أيضًا التي ذكروها في الدلالة على تميُّز الشعر الأندلسي بخصائصَ تجعله ذا شخصيةٍ متميزةٍ: أن الشعراء الأندلسيين يشيرون إلى حوادث التاريخ وإلى الأشخاص الذين كانت لهم يَدٌ في صنعِ هذا التاريخ، وهذه الظاهرة يشترك فيها شعرهم مع نثرهم، ومثَّلُوا لذلك من الشعر بقول أحد الشعراء في رثاءِ دولةِ بني الأفطس إذ يقول:

الدَهرُ يُفجِعُ بَعدَ العَينِ بِالأَثَر

*فَما البُكاءُ عَلَى الأَشباحِ وَالصُوَرِ

أَنهاكَ أَنهاكَ لا آلوكَ مَوعِظَةً

*عَن نَومَةٍ بَينَ ناب اللَيثِ وَالظُفُرِ

فَالدَهرُ حَربٌ وَإِن أَبدَى مُسالَمَةً

*وَالبيضُ وَالسودُ مِثلُ البيضِ وَالسُمرِ

وَلا هَوادَةَ بَينَ الرَأسِ تَأخُذُهُ

*يَدُ الضُِّرَّابِ وَبَينِ الصارِمِ الذكرِ

فَلا تَغُرَّنكَ مِن دُنياكَ نَومَتُها

*فَما صِناعَةُ عَينَيها سِوى السَهَرِ

ما لِلَّيالي أَقالَ اللَهُ عَثرَتَنا

*مِنَ اللَيالي وَخانَتها يَدُ الغيرِ

في كُلِّ حينٍ لَها في كُلِّ جارِحَةٍ

*مِنّا جِراحٌ وَإِن زاغَت عَنِ النَظَرِ

إلى أن يقول -مشيرًا إلى بعض أحداث الدهر:

وَمَزَّقَت سَبَأً في كُلِّ قاصِيَةٍ

*فَمَا اِلتَقى رائِحٌ مِنهُم بِمُبتَكرِ

وَأَنفَذَت فِي كُلَيبٍ حُكْمَها

*وَرَمَت مُهَلهلًا بَينَ سَمعِ الأَرضِ وَالبَصَرِ 

وَلَم تَرُدَّ عَلى الضِّلِّيلِ صِحَّتَهُ

*وَلا ثَنَت أَسَدًا عَن رَبِّها حُجُرِ 

فها هو هنا يشير إلى بعض أحداث الدهر في الأزمان الماضية، وبهذه السمات يعللون لمذهبهم القائل بأن الشعر الأندلسي مستقل بخصائصه عن الشعر في بلاد المشرق.

error: النص محمي !!