Top
Image Alt

مظاهر التقليد في الشعر الأندلسي

  /  مظاهر التقليد في الشعر الأندلسي

مظاهر التقليد في الشعر الأندلسي

ذكرنا أن الذين بدءوا النشأة الأولى للشعر في بلاد الأندلس هم العرب الوافدون على هذه البلاد من المشرق، وذكرنا كذلك أنه كانت هناك رحلاتٌ دائمةٌ بين بلاد الأندلس وبلاد المشرق، وأن كثيرًا من الأندلسيين تتلمذوا على المشارقة وكانوا يفخرون بذلك، وأن كثيرًا من العلماء والأدباء والشعراء رحلوا من بلاد المشرق إلى بلاد الأندلس.

فالصلة إذًا بين الأدب الأندلسي والأدب العباسي في المشرق العربي صلة وثيقة جدًّا؛ لكن هل يعني هذا أن الأدب الأندلسي كان صدًى وامتدادًا للأدب المشرقي لا يتجاوز ذلك، أم أن الأندلسيين كانت لهم شخصية في أدبهم وشعرهم تميز هذا الشعر عن الشعر العباسي؟ هل كان شعر الأندلسيين صدًى لشعر المتنبي والبحتري وأبي تمام وأبي العلاء وغيرهم من الشعراء، أم أن الشعر الأندلسي ظهرت فيه خصائص تميزه عن الشعر في بلاد المشرق؟

الحقيقة: أن الدارسين اختلفوا في هذا المجال، ورصد الدكتور/ جلال حجازي هذا الاختلاف في حديثِهِ عن هذه القضية، وذكر: أن المستشرقين الذين اهتمُّوا بدراسةِ الأدبِ الأندلسي ذهبوا إلى أن الأدب الأندلسي امتدادٌ للأدب في المشرق. ويقول الدكتور/ جلال: إن هناك عددًا من الدارسين العرب احتطبَ في حبلِ المستشرقينَ، وسار على دربِهِم، وظنُّوا أن أدبَ الأندلسِ صورةٌ مشرقيةٌ شاحبةٌ لم تُوْحِ بها عاطفة، ولم ينبض إحساس، ولا أَثَرَ فيها لابتكارٍ في مذهبٍ شعريٍّ أو أداءٍ فنيٍّ؛ لأن أهلها في نظرِ هؤلاءِ الدارسين ليسوا إلا صدًى لتراث المشرق وآدابِه، وأبواقًا تتجاوب فيها تلك الأصواتُ المنبعثةُ من الشام أو العراق؛ مما جعل شخصيةَ الأندلسِ في الأدب العربي ضعيفةً باهتةً؛ لاعتمادها الكلي على الأدب المشرقي، يذكر الدكتور/ جلال أن هؤلاء القائلين بهذا الرأي ليس لهم سند قوي في دعوتهم هذه.

ويسمِّي الدكتور/ جلال من هؤلاء الدارسين الأستاذ كامل كيلاني في كتابه (نظرات في تاريخ الأدب الأندلسي) الذي صَدَرَ فيه عن المستشرق الإنجليزي نيكلسون الذي يرى: أن الأدبَ الأندلسيَّ صورةٌ شوهاء من الأدبِ العراقي، ثم الدكتور/ أحمد أمين في الجزء الثالث من كتابه (ظهر الإسلام) الذي ختم بحثه فيه عن الأدب الأندلسي، بقوله: ولئن دَمَغَ الأدبُ الجاهليُّ الأدبَ المشرقيَّ؛ فالأدبُ المشرقي دمغ الأدبَ الأندلسيَّ، وقد دخلنا في بحثِ الموضوع -هذا كلام الدكتور/ أحمد أمين- ونحن نعتقد أننا قادمون على شيء جديد مبتكر؛ فإذا نحن أمام ثورة كبيرة مقلدة.

فالأدب الذي يعبر عن شخصيةٍ لا بد أن يكون صادرًا عن عاطفة، ولا بد أن يحمل أفكارًا جديدة، ولا بد أن يكون له أساليب وصور خاصة جديدة تعبر عن شخصيةِ قائلِيهِ، هؤلاء الذين يقولون عن الأدب الأندلسي: إنه تقليد، يزعمون أنه خالٍ من الفكرةِ الأصيلةِ، ومن العاطفةِ الصادقةِ، ومن الصورِ المبتكرةِ، ويذهبون إلى أنه صدىً للأدب المشرقي.

وممَّنْ ذَهَبُوا إلى هذا المذهب أيضًا الدكتور/ شوقي ضيف في كتابه (الفن ومذاهبه في الشعر العربي)؛ إذ ذهبَ إلى أن الأندلس كانت تقلد المشرق في جميع نواحي الحياة، وأن الأندلسيين عاشوا معيشةً تقليديةً تعتمد على المحاكاة والتلفيق؛ حتى لا يُحِسَّ الإنسان كأنما أصبح الشعر دربًا من القواعد والقوالب الجامدة.

هذه الأحكام؛ إذًا تجرد الشعر الأندلسي من الأصالة، وتتهمه بأنه لم يكن فيه ابتكارٌ، ولا تجديدٌ ولا تعبيرٌ عن شخصية، وأنه يخلو من العاطفةِ الصادقةِ والأفكارِ الأصيلةِ، والصورِ المبتكرةِ والأساليب الجديدة.

في مقابل هؤلاء الدارسين يقف اتجاهٌ آخر، يعتقد هذا الاتجاه الآخر بأن الأدب الأندلسي مستقلٌّ عن الأدب المشرقي تمامًا، وأنَّ الشخصيةَ الأندلسيةَ في الشعر تتميز تميزًا واضحًا وكبيرًا، وتظهر فيها الجِدَّةُ والابتكار، وهؤلاء بعضهم يغالي في هذه الدعوة وبعضهم يقتصد.

من هؤلاء الذين ذهبوا إلى هذا المذهب الرافعي في الجزء الثالث من كتابه (تاريخ آداب العرب)، والدكتور/ أحمد ضيف في كتابه (بلاغة العرب في الأندلس)، والدكتور/ إبراهيم سلامة في كتابه (تياراتٌ أدبية بين الشرق والغرب)، والدكتور/ أحمد هيـكل في كتابه (الأدبُ الأندلسيُّ من الفتح إلى سقوط الخلافة).

يذهب الدكتور/ جلال حجازي إلى موقفٍ متوسطٍ بين هذين المذهبين -أو هذين الاتجاهينِ- فالرأي القائل: بأن الأدب الأندلسي لا يعدُو أن يكون صدًى وتقليدًا للأدب المشرقي يظلم هذا الأدب الأندلسي، ويتغافل عمَّا فِيْهِ من أفكارٍ أصيلةٍ، وعواطفَ صادقةٍ وصورٍ مبتكرةٍ؛ والذين ذهبوا إلى أن الأدب الأندلسي مستقلٌّ عن الأدبِ المشرقيِّ تمامَ الاستقلال، وأن شخصيته تتميز بالجدة والابتكار التامَّين الكاملين، هذا أيضًا يُغْفِلُ جانبًا مهمًّا من الصورة: وهو التأثر الكبير للأدب الأندلسي بالأدب المشرقي، وكان هذا التأثر طبيعيًّا؛ لأن هذا الأدب الأندلسي تتلمذ على الأدب في المشرق.

والذين يذكرون أن الأدب الأندلسي متميز وله شخصيته الواضحةُ مع تأثرهِ بالأدبِ المشرقي يستدلُّونَ على ذلك بأن هذا الشعر صوَّرَ الحياةَ الجديدةَ التي كانت في الأندلس، وهذه الحياة كانت مختلفة في طبيعتها عن الحياة التي يصورها الأدب في المشرق، وبما أن الأدب تصويرٌ للحياة؛ فإذا كانت الحياة هنا تختلف عن الحياة هناك؛ فإنَّ الأدبَ هنا يختلفُ عن الأدبِ هُنَاك.

من ذلك الذي يدل على هذا المسلك ما جاء في كتاب الدكتور/ إبراهيم أبو الخشب؛ إذ قال: عَلَى أنَّ شعر الأندلس يمتاز في جملته عن الشعر العربي -يقصد الشعر العربي في بلاد المشرق- بما فيه -أي: بما في هذا الشعر الأندلسي- من المعاني المبتكرة الجميلة التي كان يعالجها الشعراء هناك: من الوصفِ البديعِ، والكلامِ الرشيقِ، والذوقِ النقيِّ، والافتنان في أساليب الخيال؛ ولأنه يدل على حياتين، ويرسم صورتين من أحوال العربي.

فبينما ترى الشاعر يصبو إلى ذكر بلاده الأولى من حياته البدويةِ؛ تجده يذكر الرياض، والبساتين، والأزهار، والأنهار، والمياه الجارية، وظلال الأشجار، والنسيم العليل، والآراء العامة والخاصة، وأحوال الاجتماع والعادات؛ فالباحث هنا ينظر إلى أنَّ الشاعرَ العربيَّ الذي رَحَلَ من بلادِ الشرق إلى بلاد الأندلس اجتمعت في نفسه صورتان، وعايش حياتين؛ فهو يصور هذه وتلك.

هذا العقل المزدوجُ من البدوِ والحضرِ ظهر فيه جمال الفطرة، ونضارة الحضارة، وظهر هذا كله في الشعر؛ لأن الشعر كان مسرح العقول من جِدٍّ، وهزلٍ، وعلمٍ، وفلسفة، ولبس منتشرًا زُهَاءَ ثمانية قرون بين الخاصة والعامة من العرب، وسكان البلاد الأصليين؛ كالقوط، وغيرهم، وقال الشعر كثير من الأمراء، وسابق الرجالَ النساءُ في ذلك؛ فَكُنَّ أحيانًا -أي: النساء- يسبقنهم، وعُنِيَ الناس هناك بالشعر عنايةً عظيمةً، فكانوا ينقشونه على جدران المساكن وأبنية الحكومة، واتصل بالحوادث العامة الاجتماعية، وكان من وسائل الرقي، ومن دواعي السلم والحرب، وفكِّ أسرِ المسجونين والعفو عن المجرمين.

ولم تكد تخلو رسالةٌ نثريةٌ من الشعر حتى سرت عدْوَ الوزن والقافية إلى النثر، وانتشرت طريقة السجع في جميع المكاتبات، وهي محلَّاةٌ بأبياتٍ من الشعر… إلى أن يقول: وقد كان لنشاطِ العربِ العقلي وصفاء قرائحهم في قول الشعر ما كان له من العلوم والفنون؛ بل زاد ذلك في الشعر لما لهم من ميلهم الفطري إليه والافتنان به، فقد وَسِعَ كل شيء من أحوالهم الاجتماعية والنفسية؛ فكانوا يصفون الكبراء والعلماء، ويمدحونهم بعباراتٍ جميلةٍ رقيقةٍ أكثرها خالٍ من المبالغاتِ ويبثونه في شكواهم وآلامهم، ولهم قصائد في التقرب إلى الله، ومدح الرسول صلى الله عليه وسلم والزهدِ والتصوفِ والرثاء، ولهم أشعار رقيقة في المزح والتهكم والمجون.

وقد نظموا التاريخ وحوادثه، وبرَعُوا في وصف الأبنية الفخمة، وما فيها من الصورِ والأشكالِ والزينةِ، ونعتِ القصورِ والحدائقِ، ومجالسِ الشرابِ، والسَّمَرِ والغناءِ والرقصِ، ووصفوا التنَزُّهَ بالليل في ضوء القمر، والأشجار وغصونها، والرياح وهي تعبث بها، وظلها الظليل، وأشعة القمر على الجداول، وصفاء الجوِّ، والفاكهة، والأثاث والمساكن، والقصور والصور والتماثيل، وبرك المياه، وأواني الأزهار والحمامات الرخامية، والسباحة والنوافير، والحدائق والمياه، وتكلموا عن الغلمان والخدم، ومجالس الخلفاء، والاجتماعات العامة، ومجالس اللهو والشراب والرقص، وتكلموا عن آلات الطرب وكل أنواع السرور والفرح، ووصفوا ميادين الحروب، وأهوال القتال والنضال، والشجاعة والجبن والإقدام، والنصر والخذلان، ووصفوا النفوس وما يجول بها من الميول والأهواء، وما يحدث من لذة وألم.

وأما الأزجال والموشحات وغيرها من الأوزان التي ابتكروها في الشعر العربي والمقطوعات الشعرية؛ جديةً، أو هزليةً، أو اجتماعيةً؛ فَحَدِّثْ عن ذلك ولا حرج، فقد أظهروا من البراعة في ذلك ما لا يقدر عليه إلا نفوسٌ خُلِقتْ شعرية بطبيعتها، وشاعرة بفطرتها، وقد سرتْ هذه الأنواع إلى المشرق فأحدثت حركةً جديدةً في الشعر العربي.

هذا كله إذًا تفصيلٌ لما يمكن أن يشكِّلَ الملامحَ التي تُعِيْنُ على أن يكون للشعر في الأندلس شخصية، هم بالتأكيد يتلاقوْن، ويشتركون مع المشارقة في كثيرٍ من هذه الأبواب وهذه الأغراض التي ذكرها المؤلف، وأشار إليها.

فأبواب الشعر العامة يتفق فيها الأندلسيون مع المشارقة، أغراض الشعر -مثلًا: الغزل، والمدح، والهجاء، والحماسة، والحِكَمُ، والمواعظ، والوصف، والرثاء… هذه عناوين كبرى كل الشعراء يدخلون تحتها، ويقولون فيها، لكن هناك مشاهد، وهناك مظاهر في طبيعةٍ جديدةٍ وفي بلادٍ جديدةٍ قد تختلف عن بلادٍ أخرى وعن بعضِ الطبائعِ الأخرى، هذه المشاهد والمناظر وهذه الأحوال توحي بأفكارٍ وصور جديدةٍ، تكون هي ملامح التفرُّد والتميُّز بين شعرٍ وشعرٍ -شعرٍ في بيئة معينة، وشعرٍ في بيئة أخرى- بل تكون ملامحَ للتفرد والتميز بين شاعر وشاعر آخر.

error: النص محمي !!