مظاهر تودده عليه السلام مع المسلمين، وائتمامه بابن عوف، وسؤاله عمن تخلف من غفار وأسلم، أمر مسجد الضرار، وحكم الله فيه
وفي الطريق كذلك شكا المسلمون له صلى الله عليه وسلم ما أصاب إبلهم من الإجهاد والتعب، فدعا صلى الله عليه وسلم ربه أن تنشط هذه الرواحل، وقال في دعائه: “اللهم احمل عليها في سبيلك، إنك تحمل على القوي والضعيف، وعلى الرطب واليابس في البر والبحر” فنشطت الإبل، وما شكوا منها بعد ذلك حتى بلغوا المدينة، حيث كانت تنازعهم أزمتها.
كما أنه صلى الله عليه وسلم في رحلة الإياب قام بأمر دل على كريم تواضعه صلى الله عليه وسلم فإن عبد الرحمن بن عوف تقدم فأم الناس في صلاة فجرٍ في يوم من أيام العودة؛ لأنه صلى الله عليه وسلم خرج ومعه المغيرة بن شعبة يحمل له الماء، فلما تأخر النبي صلى الله عليه وسلم قدموا عبد الرحمن بن عوف، فجاء النبي صلى الله عليه وسلم وهم يصلون، وأدركهم في الركعة الثانية، فلما سلم الناس أعظموا ذلك الأمر، ولكنه هدأ من روعهم وقال: “أحسنتم، سوأصبتم” وهذا مما يدل على كريم تواضعه صلى الله عليه وسلم.
وفي الطريق سأل صلى الله عليه وسلم أبا رُهْم كلثوم بن الحصين الغفاري، عن تخلف من تخلف من غفار، وأسلم فأخبره رضي الله عنه بأمرهم، وقال صلى الله عليه وسلم: ما منع أحدًا من أولئك حين تخلف أن يحمل على بعير من إبله امرأ نشيطًا في سبيل الله، ثم قال لأبي رهم: إن أعز أهلي علي أن يتخلف عني المهاجرون من قريش، والأنصار، وغفار، وأسلم صلى الله عليه وسلم. وهكذا كان صلى الله عليه وسلم يتودد إلى أصحابه، ويشعرهم بمكانتهم عنده.
أمر مسجد الضرار، وحكم الله فيه:
ثم إنه صلى الله عليه وسلم كان له أمر آخر مع المنافقين الذين بنوا مسجد الضرار، حيث اتخذوا ذلك المسجد مكانًا يدبرون فيه المؤامرات ضد المسلمين والإسلام، ويريدون به تفريق الجماعة عن مسجد قباء ومسجده صلى الله عليه وسلم.
كما أنهم جعلوه مكانًا يتلقون فيه رسائل أبي عامر الفاسق الذي آل أمره إلى المقام بالشام عند هرقل، وكان يمنيهم أنه يحرض هرقل على النبي صلى الله عليه وسلم بغضًا وعداء للإسلام والمسلمين.
ولذلك فإنه صلى الله عليه وسلم لما طلب منه المنافقون قبل أن يخرج إلى تبوك أن يصلي في هذا المسجد، يظهرون أن هذا تبركًا وترويجًا لأمر هذا المسجد بصلاة النبي صلى الله عليه وسلم فيه، فإنه صلى الله عليه وسلم اعتذر لهم لأنه كان في شغلٍ بأمر السفر وقال: “إنا على جناح سفر”، ووعدهم أن يصلي، وكان صلى الله عليه وسلم يعزم على أن يصلي حينما يعود من هذه الغزوة، وهنا أراد الله عز وجل ألا يصلي النبي صلى الله عليه وسلم في هذا المسجد؛ لأن الوحي نزل عليه في مكان قريب من المدينة، هو الوادي المعروف بـ: “ذي أوان” جاءه جبريل عليه السلام بأمر الله عز وجل ألا يصلي في هذا المسجد، ويخبره بخبر هؤلاء وما أجمعوا عليه، ونزلت هذه الآية: {وَالَّذِينَ اتَّخَذُواْ مَسْجِدًا ضِرَارًا وَكُفْرًا وَتَفْرِيقًا بَيْنَ الْمُؤْمِنِينَ وَإِرْصَادًا لِّمَنْ حَارَبَ اللّهَ وَرَسُولَهُ مِن قَبْلُ وَلَيَحْلِفَنَّ إِنْ أَرَدْنَا إِلاَّ الْحُسْنَى وَاللّهُ يَشْهَدُ إِنَّهُمْ لَكَاذِبُون لاَ تَقُمْ فِيهِ أَبَدًا لَّمَسْجِدٌ أُسِّسَ عَلَى التَّقْوَى مِنْ أَوَّلِ يَوْمٍ أَحَقُّ أَن تَقُومَ فِيهِ فِيهِ رِجَالٌ يُحِبُّونَ أَن يَتَطَهَّرُواْ وَاللّهُ يُحِبُّ الْمُطَّهِّرِين} [التوبة:107، 108]، يقصد مسجد قباء.
وهنا أمر النبي صلى الله عليه وسلم مالك بن الدُّخشم، ومَعْنَ بن عدي، أن ينطلقا إلى هذا المسجد الظالم أهله، وأن يهدماه ويحرقاه، فقاما بهذا الأمر، فحرق المسجد وهدم وتفرق عنه أولئك المنافقون.