معرفة الناسخ والمنسوخ من الحديث
ممّا يتعلّق بالحديث الصحيح: معرفة ناسخ الحديث ومنسوخه:
أ. التّدرّج في تشريع الأحكام:
مِن الأسس التي بُني التشريع الإسلامي عليها: التّدرّج في تشريع الأحكام حتى تتهيأ النفوس لتقبُّلها، ولا تُفاجَأ بها فيشقّ عليها. وهذا التدرج يقتضي تشريعَ بعض الأحكام لتكون علاجًا لحالات اقتضتْها الظروف والملابسات، ثم تنتهي هذه الأحكام بعد ذلك بالنّسخ، لزوال مقتضياتها؛ حتى إذا تمّ شرْع الله سبحانه وتعالى نزولًا، بقيتْ مُحكَمة إلى يوم الدِّين.
وشريعتنا الإسلامية قد تمّتْ بنزول قول الله سبحانه وتعالى: {الْيَوْمَ أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ وَأَتْمَمْتُ عَلَيْكُمْ نِعْمَتِي وَرَضِيتُ لَكُمُ الإِسْلاَمَ دِينًا } [المائدة: 3]. فبعْد نزول هذه الآية الكريمة الدالة على تمام الشريعة وكمالها، لا يكون هناك تبديل ولا تغيير.
والنّسخ قد يقع بين الشرائع السماوية وبعضها، أو يقع في الشريعة الواحدة؛ إذ قد يُشرع الحُكم لتحقيق مصلحة وقتيّة تقتضيها أسبابٌ خاصة؛ فإذا زالت هذه الأسباب، زالت تلك المصلحة التي شُرع الحُكم مِن أجْلِها، فيُصبح الحُكْم لا فائدة من بقائه.
ومن أمثلة هذا: نهْي النبي صلى الله عليه وسلم عن ادِّخار لحوم الأضاحي حين وفدَت طائفة من فقراء المسلمين على المدينة أيّامَ عيد الأضحى. وعلّة هذا النهي هو: التّوسعة على هذه الطائفة. فلمّا زالت العلّة التي مِن أجْلها شُرع الحُكم، جاء النسخ بقول رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((إنّما نهَيْتُكم مِن أجْل الدّافّة التي دفّتْ عليكم؛ فكُلوا وتصدّقُوا وادّخروا)).
ب. تعريف الناسخ والمنسوخ:
و”النّسخ” في اللغة: يُطلق على معانٍ بمعنى: الرفّع والإزالة. والإزالة نوعان: إلى بدَل، وإزالة إلى غير بدل.
– فالإزالة إلى بدل، وهي عبارة عن: إبطال شيء وإقامة آخَر مكانه، كـ”نسختِ الشمسُ الظِّلَّ” بأن أذهبَتْه وحلّت محلّه، وكـ”نسخ الشيْب الشباب”.
– والإزالة إلى غير بدل، وهي عبارة عن: رفْع الحكم وإبطاله من غير تعويض عن المنسوخ، كـ”نسختِ الريح آثَار القوم” بأن أبطلتْها وعفَتْ عليها. ومن هذا النوع: قوله سبحانه وتعالى: {وَمَا أَرْسَلْنَا مِن قَبْلِكَ مِن رَّسُولٍ وَلاَ نَبِيٍّ إِلاَّ إِذَا تَمَنَّى أَلْقَى الشَّيْطَانُ فِي أُمْنِيَّتِهِ فَيَنسَخُ اللَّهُ مَا يُلْقِي الشَّيْطَانُ ثُمَّ يُحْكِمُ اللَّهُ آيَاتِهِ وَاللَّهُ عَلِيمٌ حَكِيم} [الحج: 52]. أو بمعنى: النّقل والتحويل، وهو إمّا نقْل مع بقاء الأوّل، كـ”نسخْت الكتاب” إذا نقلت ما فيه وبقي الأصل، ومنه: قوله سبحانه: {هَذَا كِتَابُنَا يَنطِقُ عَلَيْكُم بِالْحَقِّ إِنَّا كُنَّا نَسْتَنسِخُ مَا كُنتُمْ تَعْمَلُون} [الجاثية: 29]، وإما تحويل مع بقاء الشيء في نفسه، ومنه تحويل المناسخات في المواريث؛ فإنها تُنقل من قوم إلى قوم مع بقائها في نفسها.
و”النّسخ” في الاصطلاح: له عدّة تعريفات، منها:
– أنه: بيان انتهاء حُكم شرعيّ بطريق شرعيّ متراخٍ عنه.
– أو أنه: رفْع حُكم شرعيّ بدليل شرعيّ متأخِّر عنه.
والفرْق بين التعريفيْن يرجع لكلمتَيْ: “بيان” و”رفْع”، مع اتّفاق باقي القيود. وهذا يرجع إلى أنّ النسخ فيه جهتان:
إحداهما: بالنسبة إلى الله سبحانه وتعالى فمَن راعى هذه الجهة عبّر بـ”البيان”؛ لأنّ النّسخ في حقِّه سبحانه وتعالى بيانُ مَحْضِ انتهاء مدّة الحُكم الأوّل، وليس فيه معنى الرفع، لأنه كان معلومًا عند الله سبحانه وتعالى أنه ينتهي في وقت كذا بالنسخ.
ثانيتهما: بالنسبة إلى البشَر؛ فمَن راعى هذه الجهة عبّر بـ”الرّفع”؛ لأنه زال عندهم ما كان ظاهرَ الثبوت، وخَلَفه شيءٌ آخَر.
وقد اختار ابن الصلاح: التعريف الثاني، وقال: “هذا حدّ وقع لنا، سالِم من اعتراضات ورَدَتْ على غيره”. وقال الحافظ العراقي: “وقد أطبق المتأخِّرون على ما حدّه به القاضي: أنه الخِطاب الدّالّ على ارتفاع الحُكم الثابت بالخطاب المتقدِّم، على وجْهٍ لولاه لكان ثابتًا، مع تراخيه عنه”. قال الحازمي: “وهذا حدّ صحيح”.
وأمّا عن محترزات التعريف الثاني، وهو أنه: “رفْع حُكم شرعيٍّ بدليلٍ شرعيٍّ متأخِّر عنه”، فالمراد بـ”رفْع الحُكم”: قطْع تعلّقه عن المكلَّفين، واحترز به عن بيان المُجمل، وبإضافته للشّارع عن إخبار بعضِ مَن شاهد النّسخ من الصحابة؛ فإنه لا يكون نسخًا، وإن لم يحصل التكليف به لِمن لم يَبلغْه قبل ذلك إلَّا بإخباره. واحترز بـ”الحُكم” عن رفع الإباحة الأصلية، فإنه لا يُسمَّى نسخًا. واحترز بقوله: “المتقدِّم” عن التخصيص المتّصل بالتكليف، كالاستثناء ونحوه. واحترز بقوله: “بحُكم متأخِّر” عن رفْع الحُكم بموت المكلَّف، أو زوال تكليفه بجنون ونحوه. واحترز بانتهائه -أي: بانتهاء الوقت- كقوله صلى الله عليه وسلم: ((إنّكم مُلاقُو العدوّ غدًا، والفِطْر أقوى لكم؛ فأفطروا)). فالصوم بعد ذلك اليوم ليس نسخًا.
وقد اعترض عليه بأنّ التعبير بـ”رفْع الحُكم” ليس بجيِّد، لأن الحُكم قديم لا يُرفَع. والجواب عنه: أنه إنما أراد بـ”رفْع الحُكم”: قطْع تعليقه بالمكلَّف. واعترض صاحب (المحصول) أيضًا على هذا الحدّ بأوجه أخَر في كثير منها نظَر، ليس المجالُ موضعَ ذكْرها.
ج. حكم تعلم علم الناسخ والمنسوخ:
تعَلُّمُ علْمِ النّاسخ والمنسوخ فرْضُ كفاية، لِتوقّف بعضِ الأحكام عليه. وهو فنّ مُهمّ مستصعَب. وعن الزهري أنه قال: “ادعى الفقهاء، وأعجَزَهم أن يعرفوا ناسخَ الحديث من مَنسوخه. وكان للشافعي -رحمه الله تعالى- فيه يدٌ طولى وسابقة أولى”. وعن محمد بن مسلم بن وارة -أحد أئمّة الحديث- أن أحمد بن حنبل -رحمه الله- تعالى قال له -وقد قدِم من مصر-: كتبتَ كُتب الشافعي، فقال: لا، قال: فرّطْتَ. ما علمنا المُجمَل من المُفسَّر، ولا ناسخ حديث رسول الله صلى الله عليه وسلم من منسوخه، حتى جالسنا الشافعي”.
وقد أدخل فيه بعضُ أهل الحديث ممّن صنّف فيه ما ليس منه؛ وذلك لخفاء معنى النسخ وشرْطه.
وقد تكلّم فيه النبي صلى الله عليه وسلم.
وعن السلمي، عن علي,: “أنه مرّ بأبي عبد الرحمن، صاحب أبي موسى، وهو يقصّ على الناس، فقال: أتعرف الناسخ والمنسوخ؟ قال: لا. قال: هلكْتَ وأهلكْتَ”. وقال الزهري: “مَن لم يعْلم الناسخ والمنسوخ، خلَط في الدِّين”. وأسند عن حذيفة: “أنه سئل عن شيء، فقال: إنما يُفتي مَن عَرف الناسخ والمنسوخ. قالوا: ومَن يعرف ذلك؟ قال: عمر”.
د. شروط النسخ:
– أن يكون المنسوخ حُكمًا شرعيًّا؛ فلا يدخل النسخ الأحكام العقليّة والاعتقادية، كوحدانيّة الله سبحانه وتعالى ووجوب الإيمان به. ولا يدخل النسخ الأحكام الحِسِّيّة كإحراق النار، ولا يدخله أيضًا الأحكامُ المؤبَّدة بالنص أو بدلالته، كقوله سبحانه وتعالى في بيان حُكم قاذف المحصنات: {وَالَّذِينَ يَرْمُونَ الْمُحْصَنَاتِ ثُمَّ لَمْ يَأْتُوا بِأَرْبَعَةِ شُهَدَاء فَاجْلِدُوهُمْ ثَمَانِينَ جَلْدَةً وَلاَ تَقْبَلُوا لَهُمْ شَهَادَةً أَبَدًا وَأُوْلَئِكَ هُمُ الْفَاسِقُون} [النور: 4]، وكقوله صلى الله عليه وسلم: ((الجهادُ ماضٍ إلى يوم القيامة)). ومثال المؤبّد بالدِّلالة: كالشريعة التي توفِّي رسول الله صلى الله عليه وسلم عنها؛ فإنها مؤبَّدة إلى يوم القيامة، بدلالة أنه صلى الله عليه وسلم خاتم الأنبياء والمرسلين. ولا يدخل النسخ أيضًا في الإخبار عن الأمور الماضية، أو المستقبلة، أو الحاضرة، كقولهسبحانه وتعالى: {فَأَمَّا ثَمُودُ فَأُهْلِكُوا بِالطَّاغِيَة * وَأَمَّا عَادٌ فَأُهْلِكُوا بِرِيحٍ صَرْصَرٍ عَاتِيَة} [الحاقة: 5، 6]. أما الأخبار التي تتضمّن حُكمًا شرعيًّا، فهي محلّ للنسخ باعتبار ما تضمّنتْه من حُكم شرعي.
– ومن شروط النسخ: أن يكون الناسخ منفصلًا عن المنسوخ، متأخِّرًا عنه؛ فإن المقترِن بالحُكم كالشرط، والصفة، والاستثناء، لا يُسمّى نسخًا، بل تخصيصًا.
– ومن شروطه أيضًا: أن يكون النّسخ بشرْع؛ فلا يكون ارتفاعُ الحُكم بالموت نسخًا، بل سقوط تكليف.
– ومن شروط النسخ أيضًا: أن لا يكون المنسوخ مقيَّدًا بوقتٍ، وإلاّ فلا يكون انقضاء ذلك الوقت ناسخًا له، كقول الله سبحانه وتعالى: {وَكُلُواْ وَاشْرَبُواْ حَتَّى يَتَبَيَّنَ لَكُمُ الْخَيْطُ الأَبْيَضُ مِنَ الْخَيْطِ الأَسْوَدِ مِنَ الْفَجْرِ ثُمَّ أَتِمُّواْ الصِّيَامَ إِلَى الَّليْلِ} [البقرة: 187].
– ومن شروط النسخ أيضًا: أن يكون الناسخُ مثلَ المنسوخ في القوّة أو أقوى منه.
– ومِن شروطه أيضًا: أن يكون المقتضِي للمنسوخ غيرَ المقتضي للناسخ، حتى يلزم البداء.
هـ. علامات النسخ:
للنسخ علاماتٌ يُعرف بها؛ فمِن طُرق معرفته:
– أن يكون لفْظُ النبي صلى الله عليه وسلم صريحًا بالنسخ، نحو: قوله صلى الله عليه وسلم: ((نهيْتُكم عن زيارة القبور، فزوروها. ونهيتُكم عن لحوم الأضاحي فوق ثلاثٍ، فأمسكوا ما بدا لكم. ونهيتُكم عن النبيذ إلَّا في سقاء، فاشربوا في الأسقية كلِّها، ولا تشربوا مُسكرًا)). وأيضًا حديث بريدة الذي أخرجه مسلم في (صحيحه)، أنّ رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: ((كنتُ نهيْتُكم عن زيارة القبور، فزورها))، وأشباه ذلك من الأحاديث النبوية.
– ومن علامات النسخ أيضًا: أن يكون لفظُ الصحابي ناطقًا بالنّسخ، كحديث علي بن أبي طالب, أنه قال: ((كان رسول الله صلى الله عليه وسلم أمَرَنا بالقيام في الجنازة، ثم جَلس بعد ذلك، وأمَرَنا بالجلوس)). وعنه أيضًا أنه قال في شأن الجنازة: ((إنّ رسول الله صلى الله عليه وسلم قام، ثم قعَد)). وكما روى الترمذي وغيره عن أبيّ بن كعب, أنه قال: ((كان الماء من الماء رخصةً في أوّل الإسلام، ثم نُهِيَ عنها))، وكما روى النسائي عن جابر بن عبد الله, أنه قال: ((كان آخِرُ الأمرْين من رسول الله صلى الله عليه وسلم: ترْكَ الوضوء ممّا مسّت النار))، وأشباه ذلك من الأحاديث.
وأمّا قول الصحابي: “هذا ناسخ لهذا”، فلم يَقْبلْه كثيرٌ من الأصوليِّين؛ لأنه يرجع إلى نوع من الاجتهاد، وقد يُخطئ فيه. وقبِلوا قوله: “هذا كان قبل هذا”؛ لأنه ناقِل، وهو ثقة مقبول الرواية.
قال الحافظ العراقي: أطلق ابن الصلاح أنّ النسخ يُعرف بقول الصحابي؛ لكن هل يُكتفى بقوله: “هذا ناسخ”، أو “هذا منسوخ”، أو لا بدّ من التصريح بأنّ هذا متأخِّر عن هذا؟ فالذي ذكَره الأصوليّون كصاحب (المحصول)، والآمدي، وابن الحاجب: أنه لا بدّ من إخباره بأن أحدهما متأخِّر، ولا يُكتفى بقوله: “هذا ناسخ”، لاحتمال أن يقوله عن اجتهاد. ونحن لا نرى ما يراه. وحكى صاحب (المحصول) عن الكرخي: أنه يكفي إخباره بالنسخ، إذ لولا ظهور النسخ فيه لم يُطلقه. وما ذهب إليه الكرخي هو الظاهر. وفي عبارة الشافعي ما يقتضي الاكتفاء بذلك؛ فإنه قال: “ولا يُستدَلّ على الناسخ والمنسوخ إلَّا بخبر عن رسول الله صلى الله عليه وسلم أو بوقت يدلّ على أنّ أحدَهما بعد الآخّر، أو بقول مَن سمع الحديث، أو العامّة. هكذا رواه البيهقي في (المدخل) بإسناده إلى الشافعي.
وقوله: “أو بقول مَن سمع الحديث”، أراد به قول الصحابي مطلقًا، لا قوله: “هذا متأخِّر” فقط؛ لأنّ هذه الصورة قد دخلت في قوله: “أو بوقت يدلّ على أنّ أحدهما بعد الآخَر”، أو أن يكون التاريخ معلومًا، كحديث شدّاد بن أوس وغيره، أنّ رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: ((أفطر الحاجِم والمحجوم)). وروي في حديث ابن عباس: ((أنّ النبي صلى الله عليه وسلم احتجم وهو مُحرم، واحتجم وهو صائم)).
وقد بيّن الشافعي: أنّ الحديث الثاني ناسخ للأوّل من حيث إنه روي في حديث شداد: ((أنه كان مع النبي صلى الله عليه وسلم زمان الفتْح، فرأى رجلًا يحتجم في شهر رمضان، فقال: أفطر الحاجم والمحجوم)).
وروي في حديث ابن عباس: ((أنّ النبي صلى الله عليه وسلم احتجم وهو مُحرم صائم))؛ فظهر بهذا: أنّ الأوّل كان زمن الفتح سَنة ثمان، وأنَّ الثاني كان في حَجّة الوداع سَنة عشْر من الهجرة النبوية الشريفة.