معرفة غريب ألفاظ الحديث
أمّا عن غريب الألفاظ في الحديث، فهو ما وقع في متن الحديث مِن لفظة غامضة، بعيدة من الفهْم، لِقِلّة استعمالها. وهذا الفن مُهمّ يَقبح جهلُه بأهل الحديث خاصّة، ثم بأهل العلْم عامّة. والخوض فيه صعب ليس بالهيِّن، وهو حقيق بالتّحرِّي، جدير بالتّوقِّي. فلْيتَحَرَّ خائضُه، وليتََّقِ الله أن يُقدم على تفسير كلام نبيِّه صلى الله عليه وسلم بمجرّد الظّنون، وقد كان السلف يتثبّتون فيه أشدّ تثبُّت.
سئل أحمد بن حنبل عن حرف من غريب الحديث، فقال: “سلوا أصحاب الغريب، فإني أكره أن أتكلّم في قول رسول الله صلى الله عليه وسلم بالظّنِّ، فأخطئ”.
وقال أبو قلابة للأصمعي: ما معنى قول رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((الجارُ أحقّ بصقْبِه))؟ فقال: أنا لا أفسّر حديث رسول الله صلى الله عليه وسلم ولكنّ العرب تزعم أنّ الصقب: اللّزيق”.
وأقوى وأجْود ما يُعتمد عليه في تفسير غريب الحديث: أن يظفر به مفسَّرًا في بعض روايات الحديث الأخرى. وأجْود تفسيره: ما جاء مُفسّرًا به في روايات، كحديث الصحيحين في قوله صلى الله عليه وسلم لابن صائد: ((خبأْتُ لك خَبيئًا، فما هو؟ قال: الدُّخ))، فـ((الدُّخ)) ههنا: الدخان، وهو لغة فيه، حكاه الجوهري، وابن دريد، وابن السيد، وغيرهم… لِما روى أبو داود والترمذي، من رواية الزهري، عن سالم، عن ابن عمر رضي الله عنهم في هذا الحديث: أنّ النبي صلى الله عليه وسلم قال له: ((إني خبأتُ لك خبيئًا ، وخَبَأ له: {فَارْتَقِبْ يَوْمَ تَأْتِي السَّمَاء بِدُخَانٍ مُّبِين} [الدخان: 10])). فأدرك ابن صياد من ذلك هذه الكلمة، فحَسَب على عادة الكهان في اختطاف بعض الشيء من الشياطين من غير وقوف على تمام البيان؛ ولهذا قال صلى الله عليه وسلم له: ((اخْسَأْ! فلن تعدُوَ قدْرَك!))، أي: فلا مزيد لك على قَدْر إدراك الكهان.
قال ابن المديني: “والسِّرّ في كونه خبأ له الدّخان: أنّ عيسى عليه السلام يقتله بجبل الدّخان؛ فهذا هو الصواب في تفسير ((الدُّخ)) هنا”.
وقد فسّره غير واحد على غير ذلك، فأخطؤوا. قال الحاكم: “إنه ((الدُّخ)) بمعنى “الزّخّ” الذي هو: الجِماع”، قال ابن الصلاح: “وهو تخليط فاحش، يغيظ العالِم والمؤمن”.
وممّن فسره أيضًا على غير الصواب: أبو سليمان الخطابي، فرجّح أنّ ((الدُّخ)): نبت موجود بين النخيل، وقال: لا معنى للدّخان هاهنا؛ إذ ليس ممّا يُخبأ، إلا أن يريد بِـ((خَبَأْتُ)): أضمرت، وليس بجيِّد، وهو غير مرضي.
وعن غريب الألفاظ في الحديث قال الحاكم: “وهذا علْم قد تكلّم فيه جماعة من أتباع التابعين، منهم: مالك، والثوري، وشعبة، فمَن بَعْدَهم…”.
وروى الحاكم عن هلال بن العلاء، قال: “مَنّ اللهُ -تعالى ذِكْره- على هذه الأمّة بأربعة”. قال: “بالشافعي بفقه أحاديث رسول الله صلى الله عليه وسلم وبأبي عبيد فسّر غرائب أحاديث رسول الله صلى الله عليه وسلم وبيحيى بن مَعين نفَى الكذب عن أحاديث رسول الله صلى الله عليه وسلم وبأحمد بن حنبل ثَبَت في المحنة بأمْر رسول الله صلى الله عليه وسلم لولاهم لذهب الإسلام”.
وأوّل مَن صنّف الغريب في الإسلام: أبو عبيدة معمر بن المثنّى، ثم النّضر بن شميل.
ونقل الحاكم: أنّ النّضر هو أوّل مَن صنّف الغريب، وقال: له فيه كتاب هو عندنا بلا سماع.
ثم صنّف عبد الملك بن قريب الأصمعي، وكان في عصر أبي عبيدة وتأخّر، وكُتُبهما صغيرة قليلة. وكذلك قطرب وغيره من أئمة الفقه واللّغة، جمعوا أحاديث تكلّموا على لغتها ومعناها في أوراق ذوات عدد، ولم يكن أحد منهم ينفرد عن غيره بكثير حديث لم يذكره الآخَر. واستمر الحال إلى زمن أبي عبيد القاسم بن سلام، وذلك بعد المائتيْن، فجمع كتابه الكبير المشهور في (غريب الحديث) والآثار، فاستقصى وأجاد. فوقع من أهل العلْم بموقع جليل، وصار قدوة في هذا الشأن.
ثم صنّف بعد ذلك: أبو محمد عبد الله بن مسلم بن قتيبة الدينوري القتيبي. صنّف كتابه المشهور، فزاد على أبي عبيد مواضع، وتتبّعه في مواضع.
ثم صنّف بعده: أبو سليمان حمد بن محمد بن إبراهيم الخطابي. صنّف كتابه في ذلك، فزاد على ابن قتيبة وأبي عبيد ما فاتهما، ونبّه على أغاليط لهما؛ فهذه الكتب الثلاثة أمّهات الكُتب المؤلفة في ذلك، وراءها مجامع تشتمل من ذلك على زوائد وفوائد كثيرة. ولا ينبغي أن يقلّد منها إلَّا ما كان مصنّفوها أئمّة أجلَّاء.
قال العلامة الأبناسي: “والمعنى: أنه لا يُعتمد على الحواشي؛ فقد قرأ بعضُهم في المصابيح حديث: ((إذا سافرْتم في الخصْب، فأعْطوا الإبل حقّها. وإذا سافرتم في الجدْب، فبادروا بها نِقْيَها))، فقرأها: “نِقْبَها”، فقيل له: إنما هي ((نِقْيَهَا))، بكسر النون، وسكون القاف، وبمثنّاة من تحت. فقال: كذا ضبطها بعض الشّرّاح في طرّة الكتاب، وقال: “النّقب”: الطريق الضّيِّق. وهذا خطأ. والصواب: ((نِقْيَهَا))، و”النِّقْي”: المخّ الذي في العظْم، ومنه حديث أمّ زرع: ((لا سمين فيُنْتَقَى))، وفي الأضحية: ((والعجفاء التي لا تُنقى))”.
قال الحاكم: “وصنّف علي المديني وإبراهيم بن إسحاق الحربي أيضًا في غريب الحديث، وصنّف فيه جماعة، منهم: القاسم بن ثابت بن حزم السرقسطي، صنّف كتابه (غريب الحديث)، وعبد الغفار الفارسي صنّف فيه أيضًا كتاباَ سماه: (مجمع الغرائب)، وصنّف الزمخشري أيضًا كتابه: (الفائق في غريب الحديث)، وصنّف أيضًا بعْده أبو الفرَج ابن الجوزي.
وكان قد جمع بين الغريبَيْن -غريبَي القرآن والحديث-: أبو عبيد أحمد بن محمد الهروي، صاحب أبي منصور الأزهري، وذيّل عليه الحافظ أبو موسى المديني ذيلًا حسنًا. ثم جمع بينهما مقتصِرًا على غريب الحديث فقط: أبو السعادات المبارك بن محمد بن الأثير الجزري، وزاد عليهما زيادات كثيرة، وذلك في كتابه الكبير: (النهاية في غريب الحديث والأثر).
قال السيوطي: “وهي مِن أحسن الكتب في الغريب، ومن أجْمعها وأشهرها الآن، وأكثرها تداولًا. وقد فاته الكثير، فذيّل عليه الإمام صفيّ الدِّين محمود بن محمد بن حامد الأرموي بذيل لم نقف عليه. وقد كتب حواشيَ عليها ثم أفرِدتْ”.
وقال السيوطي أيضًا: “وقد شرعتُ في تلخيصها تلخيصًا حسَنًا مع زيادات جمّة، والله تعالى أسأل الإعانة على إتمامها”.
قال الحاكم: “وأنا ذاكر -بمشيئة الله سبحانه- في هذا الموضع من الحديث: ما يُستدلّ به على شواهده. سمعت أبا زكريا يحيى بن محمد العنبري يقول في حديث أنس، في قصة الحديبية: “أعْطهِ الحُذَيَّا”، قال: “البشارة، يقال لها: “الحُذَيَّا”. والعرب تقول: “حذَوْتُه بالحُذَيَّا”، وإنما يُعيّن بالبشارة بالخير”.
وروى الحاكم بسنده عن أبي المليح الهزلي، عن أبيه، قال: ((كنّا مع النبي صلى الله عليه وسلم فأصابنا بغيش من مطر، فنادى مُنادِي النبي صلى الله عليه وسلم ونحن في سفر: مَن شاء أن يُصلِّي في رَحْله فلْيفْعَلْ)).
قال أبو عبد الله: “سألت الأدباء عن معنى “البَغيش”، فقالوا: المطر. والعرب تقول: بَغْشَة، وبَغِيش”.
وروى الحاكم بسنده عن أبي هريرة, أنه قال: ((كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يأخذ بيد الحسين بن علي، فيرفَعه على باطن قدميه، فيقول: حزقة! حزقة! ترقَّ عينَ بقّة. اللهم إني أُحبّه؛ فأحِبَّه، وأحِبَّ مَن يُحبُّه)).
قال أبو عبد الله: “سألت الأدباء عن معنى هذا الحديث، فقالوا لي: إنّ “الحزقة”: المقارب الخطى والقصير الذي يقرّب خطاه. و”عين بقّة” أشار إلى البقّة التي تطير، ولا شيء أصغر من عيْنها لِصِغَرها. وأخبرني بعض الأدباء: أنّ النبي صلى الله عليه وسلم أراد بالبقّة فاطمة، فقال للحسين: يا قرّة عين بقّة، ترقّ -والله تعالى أعلم-“.
وروى الحاكم بسنده عن الأصمعي، أنه قال: “العرب تقول لقِسَتْ نفسي، أي: غَثَتْ”.
قال ثعلب: “ومنه النّهْي في قوله صلى الله عليه وسلم: ((لا يَقولنّ أحدُكم: خَبُثَتْ نفْسي، ولْيقُلْ: لقِستْ نفسي)).
حدثنا أبو عمر قال: أخبرنا ثعلب عن ابن الأعرابي أنه قال: “العرب تقول: لقِسَت نفسي، أي: ضاقت”.
قال ثعلب: “فعلى قول ابن الأعرابي هو أجود؛ لأن النفس تضيق من الأمر، ولا يكون بها غثيان، لأن الغيثان ضرب من الوجع”.
قال الحاكم: قرأت بخط أبي العباس محمد بن يعقوب، عن محمد بن عبد الوهاب، أنه قال: قلت لعلي بن عثام: لِمَ سُمُّوا: “نقباء”؟ قال: “النقيب”: الضّمين؛ ضمنوا لرسول الله صلى الله عليه وسلم إسلام قوْمِهم، فسُمُّوا بذلك: “نقباء”.
وروى الحاكم بسنده عن أبي أمامة, أنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((عليكم بهذا العلْم قبْل أن يُقبض، وقبْل أن يُرفَع! ثمّ جمَع بين أصبعيْه الوُسطى والتي تلي الإبهام -هكذا- ثم قال: العالِم والمُتعلِّم في الخير شريكان، ولا خير في الناس بَعْدُ)).
قال أبو زكريا: “فالعالِم والمتعلِّم في الأجر سيّان، كما أنّ الدّاعي والمؤمن في الدّعاء شريكان؛ قال الله عز وجل- في شأن الدّعاء، في قصّة موسى وهارون -عليهما السلام: {قَالَ قَدْ أُجِيبَت دَّعْوَتُكُمَا فَاسْتَقِيمَا وَلاَ تَتَّبِعَآنِّ سَبِيلَ الَّذِينَ لاَ يَعْلَمُون} [يونس: 89]”.
وعن أبي العالية أنه قال: “{قَالَ قَدْ أُجِيبَت}، قال: دعا موسى وأمَّن هارون”.