Top
Image Alt

معركة القادسية، وفتح المدائن

  /  معركة القادسية، وفتح المدائن

معركة القادسية، وفتح المدائن

هذه الموقعة موقعة عظيمة جدًّا، لم يكن بالعراق أعجب منها، عندما بدأت أحداث موقعة القادسية كان سعد رضي الله  عنه قد أصابه مرض، وهو عبارة عن عرق النسا -مرض شهير ومعروف من قديم- ودمامل ظهرت في جسد سيدنا سعد؛ جعلته لا يستطيع ركوب الخيل، ومن ثم جعل لنفسه مبنى مرتفع، أقام في هذا المبنى، وهو متكئ على صدره، لا يستطيع أن يجلس على أليتيه، وجعل وسادة، واتكأ على صدره وينظر إلى الجيش، ويدير ويدبر أمر الجيش، وهو من فوق هذا المكان العالي، وقسَّم القوات أقسامًا كثيرة، جعل على الميسرة، قيس بن المكشوح، على الميمنة جرير بن عبد الله البجلي.

وكان قيس والمغيرة بن شعبة قد قدما على سعد مددًا من عند أبي عبيدة من الشام، وكانا قد شهدا موقعة اليرموك في الشام، يعني في بلاد الروم.

اختُلف في عدد المسلمين بعضهم يقول: سبعة آلاف، وبعضهم يقول: ثمانية آلاف، أما بالنسبة لعدد الفرس؛ فتقول الروايات: بأن عدد الفرس يقترب من الستين ألفًا، ومن ثم نجد سعدًا له موقف عظيم؛ فالقوات صلى بها الظهر ثم خطب الناس؛ فوعظهم وعظًا جميلًا، وحثهم على القتال والصبر، وتلا قول الله تعالى: {وَلَقَدْ كَتَبْنَا فِي الزَّبُورِ مِن بَعْدِ الذِّكْرِ أَنَّ الأَرْضَ يَرِثُهَا عِبَادِيَ الصَّالِحُون} [الأنبياء: 105] وقرأ آيات الجهاد ، وكبر سعد أربع تكبيرات وفي الرابعة حمل المسلمون على الفرس فاقتتلوا، حتى كان الليل فتحاجزوا، وقُتل من الفريقين بشرٌ كثير، واقتتلوا في يومهم التالي وليلتهم، ثم أصبحوا كما أمسوا على مواقفهم، واقتتلوا حتى أمسوا، ثم اقتتلوا في اليوم الثالث كذلك، وأمست هذه الليلة، وتُسمى هذه الليلة بليلة الهارية.

لما أصبح اليوم الرابع اقتتلوا قتالًا شديدًا، وقد قاسى المسلمون من الفيلة، ولكن استطاع الصحابة رضي الله  عنهم والمسلمون وتمكنوا من إبادة الفيلة ومن عليها، وكان أسلوبهم في هذا قلع عيون الفيلة بالسهام والنبال، وأبلى جماعة من الشجعان بلاءً حسنًا، كان على رأس هؤلاء طُليحة الأسدي، -المتنبئ بعدما تاب ورجع إلى الله وحسن إسلامه، كان جندًا من جنود الله- وعمرو بن معدي كرب، والقعقاع بن عمرو، وجرير بن عبد الله البجلي، وضرار بن الخطاب، وغيرهم.

هؤلاء كانوا هم الشجعان الذين ثبتوا في هذه المعارك، وقووا ظهور المسلمين، ويرجع النصر لفضل الله سبحانه وتعالى أولًا وأخيرًا ثم إليهم.

لما جاء وقت الزوال من هذا اليوم، وكان يُسمى بيوم القادسية (كان يوم الاثنين)- هبت ريح شديدة؛ فرفعت خيام الفرس عن أماكنها، وألقت سرير رستم فتخوَّف فبادر فركب بغلته، وهرب بها، فأدركه المسلمون وقتلوه، وقتلوا الجالينوس قائد من أعظم قواده، وهو في مقدمة طلائع الفرس، وانهزمت الفرس وولوا مدبرين، ولحقهم المسلمون فأشبعوهم قتلًا وأسرًا في هذا اليوم.

قُتل في المعركة ما يقرب من عشرة آلاف، وقتلوا قبل ذلك قريبًا من ذلك، وقتل في هذا اليوم من المسلمين، وما قبله من الأيام حوالي ألفان وخمسمائة رجل من الشهداء، وهرب الفرس حتى دخلوا المدائن، هذه المدينة التي فيها الإيوان إيوان كسرى المعروف الشهير، وغنم المسلمون من هذه الموقعة -وهي موقعة القادسية- الأشياء العظيمة جدًّا، الأموال الكثيرة والسلاح، وما لا يحدُّ ولا يوصف كثرته، وجُمعت الغنائم بعد صرف الأسلاب، وخُمِّست وبعث بالخمس والبشارة إلى أمير المؤمنين عمر بن الخطاب رضي الله  عنه.

تذكر روايات التاريخ أن الفاروق كان يخرج يبحث عن الأخبار في طريق العراق. يمشي في طريق العراق مسافات؛ لعله يجد آت من هناك يسأله عن المعركة وما حدث فيها، وظروف المسلمين، بينما هو في ذات يوم من الأيام يسير إذا براكب يأتي من بُعد، فاستقبله عمر واستخبره الخبر، فقال له: فتح الله على المسلمين بالقادسية، وغنموا غنائم كثيرة، وجعل يحدثه، وهو لا يعرف أنه الفاروق عمر بن الخطاب خليفة المسلمين؛ خاصة وأن عمر كان يمشي تحت راحلته، فلما اقترب من المدينة جعل الناس يحيون عمر بالإمارة؛ فعرف الرجل عمر فاستحيى، فقال: يرحمك الله، يا أمير المؤمنين، هلا أعلمتني أنك الخليفة، فقال له الفاروق: هوِّن عليك يا أخي، لا حرج عليك يا أخي.

هذه قصة ذكرها مهم في هذا الموضع لنتعرف على أخلاقيات هؤلاء القادة العظام، وكيف تخلقوا بهذا الخلق العظيم والذي كان سببًا في نصرة المسلمين.

أمر آخر حدث في هذه المعركة: إن سيدنا سعد رضي الله  عنه كان مريضًا في هذه المعركة بعرق النسا، وبتلك القروح التي ظهرت له في ساقيه، وهذه الأمور مَنعته من المشاركة في القتال، ولكنه كان جالسًا في هذا البناء الذي بني له، وكان ينظر في مصالح الجيش، ويرتب القواد، ويبعث بالرسائل، ويدير المعركة من هذا المكان العالي.

وكان مع هذا المكان المرتفع لا يغلق بابه عليه، بل يتركه مفتوحًا؛ من شجاعته ومن فرط شجاعته، ولو فرَّ الناس في هذه المعركة لأخذته الفرس قبضًا باليد. هكذا تقول رواية ابن كثير.. وكانت عنده امرأته سلمى، وهي كانت قبله عند المثنى بن حارثة؛ لأنه تزوج زوجة المثنى إكرامًا لها، بعد موت المثنى؛ فلما فرّ بعض الخيل خافت هي؛ لأنه قد تحدث الهزيمة وتدور الدائرة على المسلمين؛ ففزعت وقالت: وا مثنياه ولا مثنى لي اليوم، فغضب سعد من ذلك ولطمها، فقالت: أغيرة وجبنًا يعني أنها تعيره بجلوسه في هذا البيت العالي يدير المعركة دون أن يشارك في الحرب، وهذا عناد منها -هكذا يقول ابن كثير: هذا عناد منها- فإنها أعلم الناس بعذره، وما هو فيه من المرض المانع من المشاركة، وكيف يتهرب وهو من العشرة المبشرين بالجنة، وقد توفي رسول الله صلى الله عليه  وسلم وهو عنه راضٍ.

إن سيدنا سعد بعد دخوله مدينة نهر سيف وجدَها خالية، لا أحد فيها، ولم يجد فيها شيئًا مما يغنم، بل وجد كل الفرس قد تحولوا بكاملهم إلى المدائن، وركبوا السفن، ووصلوا إلى المدائن، هم وما يملكون، ولم يجد سعد شيئًا من السفن يستطيع اللحاق بهم، والوصول إليهم.

في هذه المرحلة كان نهر دجلة قد زاد زيادة عظيمة، واسودَّ ماؤه، ورمى بالزبد من كثرة الماء، ووصلت الأخبار إلى سعد بأن يزدجرد عازم على أخذ الأموال والأمتعة من المدائن إلى حلوان، وبناءً على ذلك إن لم يدركه سعد قبل ثلاثة أيام فسوف تفوته هذه الفرصة من الوصول إلى كسرى، وإلى المدائن، والنصر والحصول على الغنائم.

فخطب سعد في المسلمين على شاطئ دجلة؛ فحمد الله وأثنى عليه، وقال: “إن عدوكم قد اعتصم منكم بهذا البحر، فإذا شئتم ذهبنا إليه”، وعرض عليهم سعد هذه الفكرة -فكرة الذهاب إليهم، وعبور البحر- وقال لهم: “وقد رأيت أن تبادروا جهاد العدو بنياتكم، قبل أن تحصركم الدنيا، إلا أني قد عزمت على قطع هذا البحر إليهم؛ فقالوا جميعًا: عزم الله لنا ولك على الرشد فافعل، وعند ذلك ندب سعد الناس للعبور، وطلب الشجعان من المسلمين، والأقوياء منهم؛ ليحموا ظهور المسلمين، ويقفوا على الناحية الأخرى حتى يجوز الناس -يعني: يعبروا- وحتى لا يتعرض من يعبر لسهام الفرس؛ فوقف عاصم بن عمرو وقال: من ينتدب معي لنكون قبل الناس دخولًا في هذا البحر؛ فنحمي ظهور المسلمين من الجانب الآخر، فانتدب له ستون من الشجعان المذكورين.

وكان الأعاجم يقفون صفوفًا على الجانب الآخر وأحجم الناس عن الخوض. فقال رجل من المسلمين: أتخافون من هذه النطفة؟! ثم تلا قول الله تعالى: {وَمَا كَانَ لِنَفْسٍ أَنْ تَمُوتَ إِلاَّ بِإِذْنِ الله كِتَابًا مُّؤَجَّلاً} [آل عمران: 145]. واقتحم بفرسه، واقتحم الناس معه، لما رآهم الفرس يطفون على وجه الماء قالوا: “ديوان ديوان” يعني مجانين مجانين. وقالوا: والله ما نقاتل إنسًا بل نقاتل جنًّا، وأرسلوا فرسانًا لهم حتى يُلاقوا المسلمين، ويمنعوهم من الخروج إلى الماء ويقتلوهم وهم في الماء، فأمر عاصم أصحابه أن يسددوا سهامهم إلى عيون الخيل؛ فيقلعوا عيون الخيل، ففعلوا ذلك، ومن ثم فرَّ الفرس من أمامهم، وتبعهم عاصم وأصحابه، وساقوهم وراءهم حتى طردوهم من الجانب الآخر، ووصل الجميع وخاضوا دجلة، ووصلوا إلى أصحابهم من الجانب الآخر، ووقفوا حتى يحموا ظهور المسلمين -باقي الجيش الإسلامي يريد أن يعبر- وبالفعل بدأ يتحرك باقي الجيش.

الكتيبة الأولى كانت تُسمى: كتيبة الأهوال، وأميرها عاصم بن عمرو، والكتيبة الثانية التي عبرت كانت تسمى: كتيبة الخرساء، وأميرها القعقاع بن عمرو، وكان سعد والمسلمون ينظرون إلى ما يصنع هؤلاء الفرسان الشجعان بالفرس، وكان الفرس ينظرون لهذه الأشياء ويتعجبون من حدوثها، عندئذ نزل سعد بباقي الجيش، وعبر بباقي الجيش، وأمر سعد المسلمين أن يقولوا عندما ينزلوا إلى الماء: نستعين بالله ونتوكل عليه، حسبنا الله ونعم الوكيل، ولا حول ولا قوة إلا بالله العلي العظيم، واقتحم بفرسه واقتحم الناس معه لم يتخلف أحد.

تقول الروايات: كانوا يسيرون على وجه الماء كأنما يسيرون على وجه الأرض، وكان لا يُرى وجه الماء من كثرة الفرسان، وكانوا يتحدثون على وجه الماء كما أنهم يتحدثون على وجه الأرض؛ لما حصلت لهم الطمأنينة، والثقة في نصر الله ووعد الله وتأييده وهزيمة أعدائهم.

وأذكركم بأن أميرهم سعد بن أبي وقاص كما ذكرت لكم أحد العشرة المشهود لهم بالجنة، وتوفي رسول الله صلى الله عليه  وسلم، وهو عنه راضٍ ودعا له الرسول وقال: ((اللهم أجب دعوته وسدد رميته)).

وعلى أية حال؛ فقد تمكَّن المسلمون من العبور ولم يغرق أحد من المسلمين، بل إن أحدًا من المسلمين لم يفقد شيئًا من متاعه.

وهذه القصة من القصص العجيبة -كما ذكرت لكم- التي حدثت للمسلمين في أثناء حروبهم.

ومن ثم كان يومًا عظيمًا وأمرًا هائلًا وخطبًا جليلًا وخارقًا وباهرًا، وأمرًا يُعد معجزة لرسول الله صلى الله عليه  وسلم خلقها الله لأصحابه الذين التزموا بسنته ونهجه وهديه؛ فنصرهم الله على أعدائهم، لم يُر مثل هذا العمل في هذه البلاد، ولا في غيرها من البقاع.

ولكن أذكركم بقضية العلاء بن الحضرمي كنا قد سقناها قبل ذلك، وفيها شبه من هذه القصة.

بل إن هذه القصة تُعد أقوى؛ لأن الجيش كله عبر بهذه الصورة.

تقول الروايات: من بين أعضاء هذا الجيش سلمان الفارسي، ويقال: إن سلمان أقسم: أما والذي نفس سلمان بيده، ليخرجن منه أفواجًا -يعني: الجيش- كما دخلوا أفواجًا؛ فخرجوا منه كما قال سلمان، لم يغرق منهم أحد، ولم يفقدوا شيئًا.

على أية حال توجهت الجيوش إلى المدائن، وأسرعت الخيل إلى هناك صاهلة، وساقوا وراءهم الأعاجم حتى دخلوا المدائن؛ فلم يجدوا فيها أحدًا.

وأخذ كسرى أهله، وما قدر عليه من أمواله والأمتعة والحواصل، وتركوا ما عجزوا عنه من الأنعام، والثياب والمتاع والآنية، والألطاف والأدهان والأموال وخلافه، ما لا يُدرى قيمته.

تقول الروايات: “ما لا يُدرى قيمته”. وكان في خزانة كسرى ثلاثة آلاف ألف ألف ألف دينار ثلاث مرات.

أخذوا من ذلك ما قدروا عليه، وتركوا ما عجزوا عنه، وهو يعد مقدار النصف.

وكان أول من دخل المدائن كتيبة الأهوال، ثم كتيبة الخرساء فأخذوا يسيرون في سككها ودروبها لا يلقون أحدًا، بل كان هناك مجرد مجموعة حماية في القصر الأبيض.

error: النص محمي !!