معركة اليرموك ، فتح دمشق، وحمص
أ. معركة اليرموك:
لا يخفى أنَّ هذه المعركة من أهم المعارك، التي حسمت الأمر لصالح الإسلام والمسلمين على الجبهة الشامية ضد الروم، كانت أعداد القوتين في هذه المعركة ضخمة.
إنَّ أعدادَ الروم كانت ضخمة جدًّا وصلت لأكثر من مائتين وأربعين ألفًا، منهم المسلسل ومنهم المربوط؛ حتى يصمدوا ولا يفروا من أمام المسلمين، كما كانت قوات المسلمين تصل إلى حوالي 40 ألف مقاتل، كما جاءهم خالد بن الوليد من العراق، وعِكرمة كان معه حوالي ستة آلاف مقاتل، كل هؤلاء خرجوا لقتال الروم.
ونستطيع أن نقول: أن خالدًا ألقى خطبةً في جند المسلمين، فحمد الله وأثنى عليه، ثم قال: إن هذا يوم من أيام الله لا ينبغي فيه الفخر. يلاحظ: أن هذه الخطبة كان المقصود بها أكثر قيادات المسلمين حتى تتوحد القيادات، وحتى ينظر كل واحد إلى المصلحة العامة، وليس إلى المصلحة الخاصة، ومن ثم قال لهذه القيادات: أخلصوا جهادكم وارضوا الله بعملكم، فإن هذا يوم له ما بعده ولا تقاتلوا قومًا على نظام وتعبئة، وأنتم متساندون -يعني: متكلون- فإن ذلك لا يحل ولا ينبغي، وإن من وراءكم لو يعلم علمكم، حالَ بينكم وبين هذا فاعملوا فيما لم تؤمروا به.
قالوا: ما الرأي يا خالد؟ قال: إن أبا بكر لم يبعثنا إلا وهو يرى أنا سنتياسر، الأمور ستكون ميسرة بيننا.
ومن ثم قال لهم: إن كل رجل منكم ببلد لا ينتقصه منه أو لا ينتقص من قدره، أن دان للأمراء، ولا يزيده أن دانوا له، إن تأمر بعضكم فهذا أمر لن يزيدهم، وإن كان غيره عليه أميرًا فهذا الأمر لن ينتقص منه شيئًا، وهذا الأمر لن يزيد ولا ينقص لا عند أنفسكم ولا عند خليفة رسول الله صلى الله عليه وسلم هلموا، فإن هؤلاء قد تهيئوا، وإن هذا يوم له ما بعده إن رددناهم -يعني: إن انتصر المسلمون عليهم إلى خندقهم اليوم لم نزل نردهم، وإن هزمونا لم نفلح بعدها أبدًا، فهلموا فلنتعاور الإمارة -نتشارك جميعًا – فليكن بعضنا اليوم، والآخر غدًا، والآخر بعد غد حتى نتأمر كلنا -يعني: كل واحد فينا يصير أميرًا في يوم من الأيام- ودعوني أتأمر اليوم، فأمَّروه وهم يرون أنها كخرجاتهم وأن الأمر لا يكون.
بالنسبة للتعبئة يقال: إن الروم خرجت في تعبئة عظيمة جدًّا لم ير مثلها قط، وكذلك العرب كانوا لأول مرة بهذا العدد الهائل خرجوا في ستة وثلاثين كردوسًا، ونصحهم خالد بأن تكون التعبئة في صورة الكراديس، فقال: إن هذه الصورة أفضل؛ لأنها تظهر الجيش بمظهر ضخم وبمظهر كثير، وبمظهر كبير، فيسقط الرهبة في قلوب الروم عندما يروا أعداد المسلمين بهذه الصورة.
بالنسبة للقيادات نستطيع أن نقول: أنه جعل أبا عبيدة في القلب، وجعل الميمنة عليها عمرو بن العاص وشرحبيل بن حسنة، والميسرة عليها يزيد بن أبي سفيان، استعمل القعقاع بن عمرو، وكان القاضي هو أبو الدرداء، والقاص هو أبو سفيان بن حرب. حدث في أثناء المعركة أن أحد المسلمين قال لهم: ما أكثرَ الرومَ! وما أقل المسلمين! قال له: لا، إن الجنود إنما تكثر بالنصر وتقل بالخذلان.
وحقيقة خالد أبلى في هذه المعركة بلاءً حَسَنًا، وبالرغم من ذلك كانت قد تطورت الأمور في المدينة بالصورة التي لم يكن يتصورها، حيث توفي أبو بكر الصديق وتولى الفاروق عمر بن الخطاب، فجاء البريد للمسلمين بهذه الأخبار، فعندما قابل المسلمون البريدَ سألوه: ما الأخبار؟ فأخفى عنهم هذه الأخبارَ، وطمأنهم وقال لهم: إنه جاء بأخبار تتحدث عن مدد سوف يأتي إن شاء الله وسلامة الجميع.
وعندما أسر إلى خالد الكلام صارحه بحقيقة الأوضاع بموت الصديق وتولية عمر، وبعزل خالد وتولية أبي عبيدة، وأخبر البريد خالدًا بأنه لن يذيعها على الجند وشكر له خالد هذا التصرفَ، ومن ثم أكمل خالد قيادة الحرب في هذه الظروف، وخبأ هذه الأخبار التي تقول بموت الصديق وتولية الفاروق؛ حتى لا تحدث ضعضعة في نفوس الجنود، وحتى لا تتأثر الجنود بهذا الوضع النفسي وبتغيير القيادات.
وقامت المعركة والتحم الناس وتطارد الفرسان وتقاتلوا … إلى آخر كل ذلك، وأقام أبو عبيدة أيضًا والتصقت دابته بدواب الأعداء، والتحمت المعركة بكل صعوبتها وقسوتها، في هذه الأثناء ظهر أحد قيادات الروم وطلب الحديث مع خالد، فظهر له خالد، وسأله عدة أسئلة منها: هل هو حقيقة سيف من سيوف الله؟ بمعنى: أن الله أنزل سيفًا على محمد صلى الله عليه وسلم وأعطاه لخالد؟ قال: لا ليس شيئًا من ذلك، وإنما كنت أنا من أشد الناس حربًا على محمد صلى الله عليه وسلم ثم هداني الله إلى الإسلام، فقال لي رسول الله صلى الله عليه وسلم ثم سأله هذا القائد عن منزلة مَن يدخل الإسلام بعد أن كان على الكفر؟
فقال: منزلتنا واحدة، فقال له: فهل له مثلكم من الأجر والثواب؟ قال: نعم، بل وأفضل منا؛ لأننا اتبعنا نبينا وهو حي يخبرنا بالغيب ونرى منه العجائب والآيات، وحق لمن رأى ما رأينا وسمع ما سمعنا أن يسلم، وأنتم لم تروا مثلنا -الذين يأتون بعد ذلك- ولم تسمعوا مثلنا، فَمَن دخل بنية وصدق كان أفضل منا. هكذا قال خالد لهذا القائد.
ومن ثم تحول هذا القائد إلى الإسلام وقلب ترسه، وكان في صفوف المسلمين، وتقول الروايات: إنه ذهب إلى خيمة خالد، واغتسل وصلى مع خالد ركعتين، تقول الروايات: أنه لم يصل غيرهما؛ لأنه قاتل وقُتِلَ في المعركة وأصبح شهيدًا، واستحق جنة الخلد نظيرَ دخوله الإسلام، وصلاته هاتين الصلاتين.
في هذه الأثناء كانت الروم قد حملت على المسلمين وطاردتهم، وكادت إحدى الجبهات أن تتمايل في جبهات المسلمين، عندما رأى عكرمة هذا الأمر صاح في جنود المسلمين، وقال: من يبايعني على الموت، سنبايع على الموت، يعني: لن تزحزح مهما تكن الأمور، وسنقتل في أماكننا لو استدعى الأمر يقال: أن عمه الحرث بن هشام بايعه على الموت.
ومن أقوال عكرمة في هذه الأثناء أنه قال: قاتلت مع النبي صلى الله عليه وسلم يقصد أنه قاتل ضد رسول الله صلى الله عليه وسلم كان على الكفر ولم يسلم سوى في فتح مكة، وكان دمه مُهراقًا، ولكن الرسول عَفَا عنه بعد ذلك، فيقول: كيف يكون ذلك؟ أكون قاتلت رسول الله مرارًا، ووقفت ضد رسول الله مرارًا، واليوم أفر، هذا لا يكون أبدًا، ومن ثم ثبت على الموت معه كما ذكرنا عمه الحرث بن هشام وضرار بن الأزور في أربعمائة من وجوه المسلمين وفُرسانهم، فقاتلوا حتى أثخنوا بالجراحات، ويقال: إن بعضهم توفي من جراحاته وبعضهم كانت فيه جراحات كثيرة حتى منعته من القتال.
وفي نهاية الأمر ضعضع الله سبحانه وتعالى الروم، ونهضت خيول المسلمين وقوات المسلمين، واستطاعوا أن يكتسحوهم، وفي هذه الأثناء بدأت خيل الروم تفر من المعركة، وكان من ذكاء المسلمين ومن خطة خالد أنهم فتحوا الطريق لخيل الروم لتهرب، حتى تسهل العملية العسكرية بالنسبة للمسلمين والحرب بالنسبة للمسلمين، وهذا ما كان، فهربت خيل الروم فاستطاعت جنود المسلمين أن تطارد هذه الخيلَ الهاربة، واستطاعت باقي الجنود أن تقاتل الفرسان من الروم وأن ينتصروا عليهم، ومن ثم حقق الله سبحانه وتعالى النصر للمسلمين في هذه المعركة الخالدة، والتي نذكرها بكل فخر وفخار للإسلام ولجنود الإسلام.
ب. فتح دمشق:
إن ترتيبات فتح دمشق عسكريًّا تمثلت في أن أبا عبيدة بن الجراح بَعَثَ جيشًا يكون بين دمشق وبين فَلسطين، وبعث ذا الكلاع في جيش يكون بين دمشق وبين حِمص؛ ليرد مَن يرِد إليهم من المدد من جهة هِرقل، يعني: يقطع الطريق على القوات التي تبتغي الوصول إلى دمشق مددًا لأهل دمشق، التي تأتي من عند هرقل، ثم صار أبو عبيدة من “مرج الصفر” قاصدًا دمشق، وجعل خالد بن الوليد في القلب، وجعل أبا عبيدة وعمرو بن العاص في المجنبتين.
وكان على الرَّجالة شرحبيل بن حسنة، قدموا دمشق وعليها نسطاس بن نسطورس، ونزل خالد بن الوليد على الباب الشرقي، ونزل أبو عبيدة على باب الجابية الكبير، ونزل عمرو بن العاص وشرحبيل بن حسنة على بقية أبواب البلد، ونصبوا المنجنيق
وبهذه الصورة بدءوا في الحصار، حاصروها حصارًا شديدًا يقال: أنه استمر سبعين ليلة وقيل: أربعة أشهر وقيل: ستة أشهر وقيل: أربعة عشر شهرًا، والله أعلم أي ذلك كان.
في هذه الأثناء كان أهل دمشق ممتنعين تمام الامتناع، ويرسلون إلى هرقل يطلبون المدد كان هرقل يبعث مددًا، ولكن هذه القوات التي وضعها أبو عبيدة في الطريق القادم من عند هرقل والواصل إلى دمشق، منعت هذه الإمداداتِ من الوصول؛ لأن الطريق أرصده أبو عبيدة كما ذكرنا رضي الله عنه.
لما أيقن أهل دمشق أنهم لن يصل إليهم مدد أبلسوا وفشلوا وضعفوا، وقوي المسلمون في تلك الأثناء، واشتد حصارهم لدمشق وجاء فصل الشتاء، في هذه الأثناء ولد لأحد بطارقة دمشق مولود، فصنع لهم طعامًا وسقاهم شرابًا وباتوا عنده في وليمته، أكلوا وشربوا وتعبوا فناموا، وانشغلوا عن أماكنهم، وفطِنَ لذلك أمير الحرب خالد بن الوليد الذي كان لا ينام، والذي كانت همة الحرب تملؤه في كل وقت وحين ووضع الإسلام والمسلمين، ومقاتلي الإسلام والمسلمين في ذهنه ليلَ نهار.
لما رأى ذلك ورأى هذه الخمدة على السور، وأنه ليس هناك أحد على السور يقاتل، أعَدَّ سلالمَ من حبال، فجاء هو وأصحابه من الصناديد الأبطال العظام مثل القعقاع بن عمرو وغيره، وجاءوا بهذه السلالم ونصبوها على الأسوار، وقالوا لأصحابهم: هلموا إلينا، وهم كانت بين الأسوار وبينهم خندق فيه مياه، عبروا هذه المياه عن طريق بعض القِرب في صدورهم وأعناقهم، ونصبوا السلالم، وقالوا للجنود: عندما نصعد هذه الأسوار ونكبر، فعليكم بالأبواب.
وبالفعل لما صعدوا على السلالم واستووا على السور، رفعوا أصواتهم بالتكبير، وجاء المسلمون فصعدوا في تلك السلام، وانحدر خالد وأصحابه الشجعان من السور إلى البوابات، فقتلوا الحراس وقطعوا أعاليقَ الأبواب بالسيوف، ومن ثم تمكنوا من فتح الأبواب عنوةً ودخل الجيش من الباب الشرقي لمدينة دمشق.
لما سمع أهل البلد التكبير ثاروا، وذهب كل فريق منهم إلى أماكنهم من السور لا يدرون أين يذهبون؟ وجعل كلما قدم أحد من أصحاب الباب الشرقي قتله خالد وأصحابه ممن استطاعوا أن يفتحوا الباب الشرقي، ودخل خالد البلد عنوة، وذهب أهل كل باب فسألوا: مَن أميرهم الذي عند الباب؟
في هذه الأثناء وقبل هذه التطورات، كان المسلمون قد دعوا أهل دمشق إلى المشاطرة -يعني: الصلح بالمشاطرة- بحيث تكون للمسلمين نصف دمشق، وللروم النصف الآخر، فأبوا عليهم ذلك، لكن لما حدثت هذه التطورات أجابوهم وأسرعوا بالصلح، وعندما دخل المسلمون من كل جانب، وجدوا خالدًا وهو يقتل من وجده من أهل الروم، فقالوا له: إنَّا قد أمناهم؛ لأنهم أسرعوا بالذهاب إلى الصلح، وفعلًا اتفقوا عليه، ومن ثم فأصبح الصلح ساريًا، قال لهم خالد: ولكني فتحتها عنوةً. قال: لا، ولكننا كنا قد عاهدنا القوم على الصلح.
بهذه الصورة نستطيع أن نقول: حدث خلاف حقيقةً بين المؤرخين وخلاف في هذه الأثناء، وهذا خلاف خلاصته: هل تم فتح دمشق صلحًا أم تم فتح دمشق عنوةً؟ قال البعض: أنها فتحت صلحًا وقال آخرون: بل فتحت عنوة؛ لأن خالدًا افتتحها بالسيف أولًا -كما ذكرنا- ولما أحسوا بذلك ذهبوا إلى بقية الأمراء ومعهم أبو عبيد، فصالحوهم.
على أية حال تم الاتفاق بينهم على أن يتركوا نصفها، والصلح كان على نصف دمشق -يعني: نصفها صلح ونصفها عنوة- ومَلَك أهلها نصف ما كان بأيديهم وأقروا عليه، واستقرت يد الصحابة على النصف الآخر من المقاتلين والشجعان، وحتى إنَّه تقول الروايات: إنَّ المسلمين لما أخذوا نصف المدينة أخذوا نصف الكنيسة العظيمة التي كانت موجودةً بدمشق، وتعرف باسم كنيسة “يوحنا”، فاتخذوا الجانب الشرقي من هذه الكنيسة مسجدًا، وأبقوا لهم النصف الغربي. وتقول الروايات: أنهم أبقوا لهم أربع عشرة كنيسة أخرى مع نصف هذه الكنيسة المعروفة بكنيسة “يوحنا”، وموجود فيها جامع دمشق في تلك الأثناء.
كُتب لهم كتاب بذلك كان عليه توقيعات خالد بن الوليد، وأبي عبيدة بن الجراح، وعمرو بن العاص، ويزيد بن أبي سفيان، وشرحبيل بن حسنة، وغيرهم.
ج. وقعة حمص الأولى:
أبو عبيدة عندما تابع المنهزمين في قِتاله الروم والذين وصلوا إلى حمص، نزل هو حولها -حول حمص- وحاصرها ولحقه خالد بن الوليد، فحاصروها حصارًا شديدًا، وذلك في زمن البرد الشديد، صابر أهل البلد رجاءَ أن يصرفهم -يعني: البرد يصرف المسلمين عنهم وشدة البرد- وكذلك في المقابل صبر الصحابة، وهؤلاء الجنود الشجعان صبروا صبرًا عظيمًا، لكن تقول الروايات: إنَّ شدة البرد كانت تصل بهم إلى حد أن تقطع أقدامهم وأرجلهم من شدة البرد، لكن المسلمين حماهم الله سبحانه وتعالى بحمايته، لم يزالوا كذلك حتى انسلخ فصل الشتاء فاشتد الحصار.
وأشار بعض كِبار أهل حمص عليهم بالمصالحة، فأبوا ذلك وقالوا: لا، كيف نصالح والملك منا قريب، ولكن حدث تطور غريب، أن الصحابة في بعض الأيام كبروا تكبيرات عظيمة جدًّا بأصوات عالية رهيبة، ارتجت منها المدينة حتى تفطرت منها بعض الجدران، ثم أعادوا التكبيرات مرةً أخرى بصورة أضخم وأعظم، فسقطت بعض الدور، فجاءت العامة إلى الخاصة، وقالوا لهم: ألا تنظرون إلى ما نزل بنا وما نحن فيه؟ ألا تصالحون القوم عنا؟ فهنا فعلًا صالحوهم على ما صالحوا عليه أهلَ دمشق على نصف المنازل، وضرب الخراج على الأراضي، وأخذ الجزية على الرقاب حسب الغَني والفقير.
ومن ثم بعث أبو عبيدة بالأخماس والبشارة إلى عمر رضي الله عنه مع عبد الله بن مسعود، وأنزل أبو عبيدة بحمص جيشًا كبيرًا يكون بها مع جماعة من الأمراء؛ منهم بلال بن رباح، والمِقداد، وغيرهم، وحقيقة تم النصر للمسلمين، وتم فتح حمص بهذه الصورة التي حدثتكم عنها.