Top
Image Alt

معركة جلولاء، وفتح الجزيرة

  /  معركة جلولاء، وفتح الجزيرة

معركة جلولاء، وفتح الجزيرة

أ. معركة جلولاء:

عندما فرَّ كسرى من المدائن، وأخذ معه ما استطاع حمله هاربًا إلى حلوان، شرع في أثناء الطريق في جمع رجال وأعوان، وجنود من الفرس، من البلدان التي تحيط بهذه الأماكن؛ فاجتمع إليه خلق كثير من الفرس، وأمَّر على الجميع قائدًا لهم، وسار كسرى إلى حلوان، ودخل حلوان وحفر خندقًا عظيمًا حول المدينة، وملأ المدينة بالعدد الخاصة بآلات الحصار، والعدة والطعام الذي يكفيهم في أثناء الحصار، وخلافه من هذه الأشياء. في الوقت الذي كان المسلمون فيه يقيمون في جلولاء، كتب سعد بن أبي وقاص إلى الخليفة عمر يخبره بهذه التطورات؛ فرد إليه الخليفة بقوله: أن يقيم هو بالمدائن، ويبعث ابن أخيه هاشم بن عتبة أميرًا على الجيش، ويكون على مقدمة هذا الجيش القعقاع بن عمرو، وعلى الميمنة سهل بن مالك، والميسرة أخوه عمر بن مالك.

فعل سعد ذلك، وبعث مع ابن أخيه هذا -وهو هاشم بن عتبة- جيشًا كثيفًا، يُقال: إنه يقارب الاثني عشر ألفًا من المقاتلين، وهم من سادات المسلمين، ووجوه المهاجرين والأنصار، ورءوس العرب، هؤلاء كانوا قد انتهوا من فتح المدائن، ساروا حتى انتهوا إلى الفرس، وهم بجلولاء وشاهدوهم ورأوهم، وقد خندقوا عليهم، حاصرهم هاشم بن عتبة، وكان نظامهم أنهم يخرجون من بلدهم لقتال المسلمين في كل وقت؛ فيقاتلون قتالًا شديدًا لم يسمع مثله، ويعودون مرة أخرى إلى المدينة، وإلى حصار المدينة، يغلقون على أنفسهم هذه الخنادق؛ هربًا من المسلمين.

اشتد النزال واضطربت نار الحرب، وقام في الناس هاشم بن عتبة هذا قائد الجيش، وخطبهم أكثر من مرةٍ، وحرَّضهم على القتال، والتوكل على الله والصبر، في ذات الوقت تعاقدت الفرس وتعاهدت على حرب المسلمين والصمود أمام المسلمين، وإيقاف زحف المسلمين، وحلفوا بالنار المقدسة ألا يفروا أبدًا حتى يفنوا العرب تمامًا، ويرجعوا العرب عن مواقعهم التي وصلوا إليها، لَمَّا كان الموقف الأخير من أيام هذه الحرب، وهو يوم الفيصل والفرقان، توقفوا من أول النهار، واقتتلوا قتالًا شديدًا لم يُعهد مثله.

تقول الروايات: فنيت أسلحة الطرفين من شدة القتال، كسرت النشاب والرماح من هؤلاء، ومن هؤلاء، حتى أمسكوا بالسيوف والطرابيزينات، وأصبح القتال مواجهة ومشافهة بين الجانبين، في هذه الأثناء حانت صلاة الظهر؛ فصلى المسلمون إيماءً؛ لأن ظروفهم لا تسمح بالصلاة المجتمعة، أو صلاة الجماعة، فما كان منهم إلا أنهم صلوا إيماء، في هذه الأثناء ذهبت فرقة المجوس للاستراحة التي كانت تقاتل، وجاءت فرقة أخرى مكانها لتباشر الحرب مع المسلمين؛ لكثرة عدد قوات الفرس، هذا لا يمكن أن يحدث عند المسلمين؛ لأن القوات لا يمكن أن يحدث فيها التغيير والراحة؛ لأن العدد قليل.

قام القعقاع بن عمرو في المسلمين وخطبهم، وقال: أَهَالَكُم ما رأيتم أيها المسلمون؟ يعني: ما رأيتم من تغيير الفرق، فرقة ذهبت تستريح من القتال، وجاءت فرقة أخرى حتى يأتي دورها؛ فتأتي هذه وتذهب أخرى، أما المسلمون فهم الذين يستمرون في القتال باستمرار، قالوا: نعم.فقال: بل إن حاملون عليهم، ومجدون في طلبهم، حتى يحكم الله بيننا؛ فاحْمِلوا عليهم حملةً رجلٍ واحد، فحمَلَ وحمل الناس، حتى انتهى إلى باب الخندق الخاص بالمدينة.

وأقبل الليل بظلامه، وجالت بقية الأبطال بمن معهم في الناس، وجعلوا يأخذون في التحاجز على أساس توقف الحرب نظرًا لإقبال الليل، كان من ضمن الأبطال العظام في هذه المعركة، يومئذٍ طليحة الأسدي، -الذي كان من المتنبئين- وعمرو بن معدي كَرِب، وقيس بن مكشوح، وحجر بن عدي وغيرهم، هؤلاء الأبطال لم يعلموا بما صنعه القعقاع من أنه ذهب إلى مدخل الخندق وعلى باب الخندق، وقاتل الفرس حتى استطاع أن يجليهم عن باب الخندق، وأصبح باب الخندق مفتوحًا لِمَن يريد أن يدخل.

لم يشعروا بذلك -أبطال المسلمين- لولا أن منادي القعقاع نادى في المسلمين: أين أنتم أيها المسلمون، أين أنتم؟ هذا أميركم على باب خندقهم، يعني: المسلمون وصلوا بابَ الخندق، وتم فتح باب الخندق.

بالفعل لما سمع المجوس ذلك خافوا، وفروا من الخندق، وفروا من أمام المسلمين، وحمل المسلمون، اتجهوا نحو القعقاع بن عمرو؛ فإذا هو على باب الخندق قد ملكه عليهم، يعني: أصبح سيطرة باب الخندق في يد القعقاع، وهربت الفرس كلهم، فتكاثر المسلمون، وتوجهوا إليهم، ودخلوا عليهم من كل وجه، وقعدوا لهم كل مرصد، فقُتل منهم في هذا الموقف مقتلة عظيمة، حتى جللوا وجه الأرض بالقتلَى، ولذلك سميت “جَلْولاء”، وغنموا من الأموال والسلاح والذهب والفضة أشياء تقترب في عددها من الغنائم التي حصلوا عليها عند فتح مدينة المدائن عاصمة الفرس.

تقول الروايات: إن المسلمين أرسلوا إلى الفاروق عمر بن الخطاب برسول ومعه الخُمس الذي يُرسل للمدينة، وكان الذي قَدِمَ على الفاروق عمر هو زياد بن أبي سفيان، وتقول الروايات: إن الفاروق عمر سأل زيادًا عن الموقعة، كيف كانت؟ وكيف تم النصر؟ وتقول الروايات: إن زيادًا هذا كان فصيحًا؛ فأعجب عمر بإيراده للقصة بهذه الصورة، وأحب أن يسمع المسلمون منه ذلك بهذه اللغة، وبهذه البلاغة؛ فقال له: “أتستطيع أن تخطب الناس بما أخبرتني به بنفس هذه البلاغة، وبهذه القوة، وبهذا العرض الجيد؟”. قال: نعم يا أمير المؤمنين، إنه ليس أحد على وجه الأرض أهيب عندي منك، فقام في الناس؛ فقص عليهم خبر هذه الواقعة، وكم قتلوا مِن الفرس؟ وكم غنموا؟

وبعبارة عظيمة بليغة، وأعجب عمر به، وقال: “هذا هو الخطيب المفوه الفصيح”.

فقال زياد: إن جندنا أطلقوا بالفِعال لساننا، يعني: فعالهم العظيمة، وتصرفاتهم الكريمة الكبيرة، وجهدهم، وقتالهم، وصبرهم ومثابرتهم، حتى حقق الله لهم النصر، هذا الجهد هو الذي أطلق ألسنتنا بهذه الفصاحة، وبهذا الجمال، وبهذه القوة، وبهذا العرض، ولولا هذه الفعال العظيمة لجنود المسلمين ما كانت ألسنتنا تستطيع أن تعرض بهذه الفصاحة، وبهذه البلاغة.

قام عمر وقسَّم في الناس ما جاءتهم من هذه الأموال، ولكنه نظر إلى هذه الأموال إلى الياقوت والزبرجد، والذهب الأصفر، والفضة البيضاء، وهذه الكميات الهائلة التي أتت من بلاد الفرس نظر إليها، وأمعن النظر فيها، ثم بَكَى عمر بكاءً شديدًا.

فقال له عبد الرحمن بن عوف: “ما يبكيك يا أمير المؤمنين؛ فوالله إن هذا لموطن شكر”، فقال عمر رضي الله  عنه: “والله ما ذاك يبكيني؟ وتالله ما أعطى الله قومًا هذه الأموال العظيمة إلا تحاسدوا، وتباغضوا، ولا تحاسدوا إلا أُلقِيَ بأسهم بينهم”، يعني: توقع أن يكون مستقبل الأيام فيه خلاف بين المسلمين.

وأعتقد أن هذا أيضًا من إلهامات الفاروق؛ لأنَّه بالفعل حدث بعد ذلك خلاف بين المسلمين.

ب. فتح الجزيرة:

المقصود بالجزيرة: المِنطقة بين دجلة والفرات، وأغلب مواقع الجزيرة فُتحت صلحًا، ولم تحدث معارك أو قتال بين المسلمين والفرس وغيرهم في تلك المنطقة؛ لأن أغلب المناطق آثرت الصلحَ وآثرت عقد اتفاقيات الصلح والتي يترتب عليها دفع الجزية، وهي دينار واحد عن كل حالم -عن كل بالغ- ومن المعروف أنه يستثنى منها كبار السن والرهبان والقساوسة، والنساء، والعجزة والضعاف، وغير القادرين على العمل والدفع، وخلافه، ومعروف أنها نظير الزكاة التي يدفعها المسلمون، الذي توجه في فتح الجزيرة أو بلاد الجزيرة هو عياض بن غنم رضي الله  عنه.

وتقول الروايات: إنه وجه عثمان بن أبي العاص إلى “الرها” وتم فتح الرها صلحًا، وكان مع عياض بن غنم في هذه الموقعة أبو موسى الأشعري رضي الله  عنه وكذلك تم فتح “حَرَّان” أيضًا صلحًا على نفس الشروط التي وضعت لصلح “الرها”.

كذلك توجه أبو موسى الأشعري إلى “نصيبين”، وتوجه عمر بن سعد بن أبي وقاص إلى “رأس العين”، وسار عياض بن غنم بنفسه إلى “دَارَا”؛ فافتتحت هذه البُلدان، وبعث عثمان بن أبي العاص إلى أرمينية؛ فيقال: إنه كان عندها شيء من القتال في هذه المنطقة، وهذا القتال قتل فيه صفوانُ بن المعطل السلمي شهيدًا، ثم صالحهم عثمان بن أبي العاص على الجزية، على كل أهل بيت دينار.

وتقول الروايات: جاء عبد الله بن عبد الله بن غسان، حتى انتهى إلى الموصل؛ فعبر إلى بلد، وانتهى إلى “نصيبين”، فلقوه بالصلح، وصنعوا كما صنع أهل “الرقة”، وفي هذه الأثناء أُرسل إلى الفاروق عمر بن الخطاب قيادات عرب أهل الجزيرة من النصارى، وأغلبهم كان من بني تغلب؛ لأن التغالبة بقوا على المسيحية، وأرسلت قيادتهم إلى الفاروق، ودار هناك نقاش كبير بين الفاروق عمر بن الخطاب وبين هؤلاء النصارى، هم أساسًا عرب ويعتبروا أنفسهم من الجزيرة العربية، وأصل من أصول القبائل العربية التي كانت موجودةً، وكانت تدين بالمسيحية.

قال لهم عمر: “أدوا الجزية”، فقالوا: أبلغنا مأمنا، فوالله لئن وضعت علينا الجزيةَ، لندخلنَّ أرض الروم؛ يعني: لا تطبق علينا موضوع الجزية، لو طبقت علينا موضوع الجزية فسوف نترك هذه البلاد وهذه الأراضي، ونذهب إلى أرض الروم.

وبهذه الصورة قالوا له: والله لتفضحنا مِن بين العرب بهذا التصرف، وهم يعتزون بعروبتهم، هم على المسيحية ولكنهم في النهاية عرب، فقال لهم: “أنتم فضحتم أنفسَكم، وخالفتم أمتكم، دخل العرب كلهم في الإسلام؛ فَلِمَ تبقون أنتم على دينكم، ولا تدخلون في الإسلام؟ ووالله لتؤدون الجزية.. ولئن هربتم إلى الروم لأكتبنَّ فيكم إلى ملوك الروم لإعادتكم”؛ فقالوا: خذ مِنا شيئًا، ولا نسميه جزيةً، يعني:إذا أخذت شيئًا من الأموال، لا تطلق عليه جزيةً، اعتبروا أن هذا التعبير فيه مذلة ومهانة لهم، والعربي على أي وضع يأنف من المذلة والمهانة، قال: “أنتم سموه ما شئتم”، فقال له علي بن أبي طالب رضي الله  عنه: “ألم يضعِّف عليهم سعد الصدقةً؟”، فقبل منهم الفاروق عمر ذلك نظرًا لتصرف سعد بهذه الصورة، وهي مضاعفة المال وعدم إطلاق هذا اللفظ.

وتقول الروايات: إنَّ الفاروق أصغَى إلى علي رضي الله  عنه ورضي بهذا الكلام الذي قاله وهذا التصرف الذي أحدثه سعد، وهو دَفْعُ الصدقة مضاعفةً، وعدم إطلاق هذا اللفظ.

إكمالًا لهذه النقطة، أريد أن أشير إلى أن جنود أهل الكتاب الذين يشاركون في أعمال الجيش أيضًا، تسقط عنهم الجزية، هم يدفعونها نظير عدم مشاركتهم في المجتمع الإسلامي، إنَّما إن شاركوا فتسقط عنهم الجزية بهذه الصورة، وهذا الكلام فيه كلام كثير كما تحدث عنه الدكتور القرضاوي في كتابه المعروف (غير المسلمين في المجتمع الإسلامي).

فمن يريد أن يعود إلى هذا الموضوع بشيء من الإسهاب والتفصيل، ففي هذا الكتاب كلام كثير يدور حول هذه القضية.

error: النص محمي !!