معنى القضاء والقدر, والأدلة على وجوب الإيمان به، ومراتبه
أولًا: معنى كلمتي القضاء والقدر:
أ. تمهيد حول المنهج الصواب في هذا الباب:
اخترتُ أن يكون حديثي في النقطة الأولى تمهيدًا حول المنهج الصواب في هذا الباب؛ لأنني -قبل أن أتكلم حول هذا الموضوع- أودّ أن أشير إلى منهج أهل السنة عمومًا في مسائل الاعتقاد، ومنها هذه المسألة العظيمة، وكيف أن الناس حينما يختلفون لا يختلف سلف هذه الأمة, بل يسلكون الحق والصواب.
وتُعجبني هنا كلمات قالها الإمام ابن القيم -رحمه الله تعالى- في هذا الموضوع, في مقدمة كتابه (شفاء العليل في مسائل القضاء والقدر والحكمة والتعليل), وهو كتاب خاص بهذه المسائل، وينبغي أن يُهتَم بمثل هذه الكتب -كتب السلف الصالح رحمة الله تعالى عليهم- لأنهم يبينون من خلالها المعتقد الصحيح, الذي عليه أهل السنة والجماعة.
ب. معنى القضاء:
القضاء: هو الفصل والحكم، وقد تكرر في أحاديث الرسول صلى الله عليه وسلم ذكر القضاء، وأصله: القطع والفصل، يقال: قضى يقضي قضاء فهو قاضٍ؛ إذا حكم وفصل، وقضاء الشيء: إحكامه وإمضاؤه والفراغ منه.
قال الزهري -رحمه الله تعالى: القضاء في اللغة على وجوهٍ, مرجعها إلى انقضاء الشيء وتمامه، وكل ما أُحكم عمله, أو أُتمّ، أو أدي، أو أوجب، أو علم،
أو نُفِّذ، أو أمضي، فقد قضي، وقد جاءت هذه الوجوه كلها في الأحاديث الواردة في القضاء والقدر.
ج. معنى القدر:
القدر لغةً مصدر، تقول: قدرت الشيء -بتخفيف الدال وفتحها- أقدرها -بالكسر والفتح- قدْرًا وقدَرًا بالتحريك: إذا أحطت بمقداره، والقدر في اللغة: القضاء والحكم ومبلغ الشيء، والتقدير: التروية والتفكر في تسوية الأمر.
والقدر في الاصطلاح: ما سبق به العلم, وجرى به القلم مما هو كائن إلى الأبد، وأنه عز وجل قدّر مقادير الخلائق، وما يكون من الأشياء قبل أن تكون في الأزل، وعَلِم سبحانه وتعالى أنها ستقع في أوقات معلومة عنده تعالى، وعلى صفات مخصوصة، فهي تقع على حساب ما قدَّره.
يقول الراغب الأصفهاني, فيما نقله عنه الحافظ ابن حجر العسقلاني -رحمهما الله تعالى: القدر يدل بوضعه على القدرة، وعلى المقدور الكائن بالعلم. فلله تعالى القدرة المطلقة، وقدرته لا يعجزها شيء، ومن أسمائه تبارك وتعالى: القادر، والقدير، والمقتدر.
والقدرة صفة من صفاته سبحانه وتعالى وهي من صفات الذات، فالقادر إذًا اسم فاعل من: قدر يقدر، والقدير: فعيل منه وهو للمبالغة، ومعنى القدير: الفاعل لما يشاء على قدر ما تقتضيه الحكمة، لا زائدًا عليها ولا ناقصًا عنها؛ ولذلك لا يصح أن يوصف به إلا اللهُ عز وجل ، أعني: القدير- قال تعالى: {إِنّهُ عَلَىَ كُلّ شَيْءٍ قَدِيرٌ} [فصلت: 39]. والمقتدر: مفتعل من اقتدر، وهو أبلغ من قدير، ومنه قوله تعالى: {فِي مَقْعَدِ صِدْقٍ عِندَ مَلِيكٍ مّقْتَدِرِ} [القمر: 55]. وقد سئل الإمام أحمد -رحمه الله تعالى- عن القدر, فقال: “القدر: قدرة الله -تبارك وتعالى”.
د. هل هناك تفرقة بين القضاء والقدر؟
للعلماء في التفرقة بين القضاء والقدر قولان:
القول الأول: القضاء: هو العلم السابق الذي حكم الله به في الأزل، والقدر: وقوع الخلق على وزن الأمر المقضيّ السابق.
يقول الحافظ ابن حجر -رحمه الله تعالى: قال العلماء: القضاء هو الحكم الكلي الإجمالي في الأزل، والقدر: جزئيات ذلك الحكم وتفاصيله.
وقال في موضع آخر: القضاء: الحكم بالكليات على سبيل الإجمال في الأزل، والقدر: الحكم بوقوع الجزئيات التي لتلك الكليات, على سبيل التفصيل.
القول الثاني وهو عكس القول السابق: القدر: هو الحكم السابق، والقضاء: هو الخلق.
قال الخطابي -رحمه الله- في (معالم السنن): القدر: اسم لما صار مقدَّرًا عن فعل القادر؛ كالهدم والنشر والقبض أسماء لِمَا صدر من فعل الهادم والناشر والقابض، والقضاء في هذا معناه: الخلق، كقوله تعالى: {فَقَضَاهُنّ سَبْعَ سَمَاوَاتٍ فِي يَوْمَيْنِ} [فصلت: 12] أي: خلقهن.
وبِناءً على هذا القول, يكون القضاء من الله تعالى أخصَّ من القدر؛ لأنه الفصل بين التقديرين، فالقدر هو التقدير، والقضاء هو الفصل والقطع.
ويدل لصحة هذا القول نصوص كثيرة من كتاب الله تعالى, مثل قوله تعالى: {وَكَانَ أَمْراً مّقْضِيّاً} [مريم: 21].
فالقضاء والقدر بناءً على هذا القول أمران متلازمان، لا ينفك أحدهما عن الآخر؛ لأن أحدهما بمنزلة الأساس وهو القدر، والآخر بمنزلة البناء وهو القضاء، فمن رام الفصل بينهما فقد رام هدم البناء ونقضه؛ ولذلك دائمًا ما يقول العلماء: القضاء والقدر؛ لأنهما متلازمان.
ثانيًا: وجوب الإيمان بالقضاء والقدر, والأدلة على ذلك:
أ. أدلة القرآن الكريم:
ذكر القرآن الكريم في مواطنَ متعددة القدر، ووجوب الإيمان به؛ لأن الإيمان بالقدر من أصول الإيمان التي لا يتم إيمان العبد إلا بها، والنصوص المخبرة عن قدر الله أو الآمرة بالإيمان بالقدر كثيرة، وقد صرّح بها الكتاب العزيز في نحو مائة آية؛ فمن ذلك قول الله -تبارك وتعالى-: {إِنّا كُلّ شَيْءٍ خَلَقْنَاهُ بِقَدَرٍ} [القمر: 49], وقوله: {سُنّةَ اللّهِ فِي الّذِينَ خَلَوْاْ مِن قَبْلُ وَكَانَ أَمْرُ اللّهِ قَدَراً مّقْدُوراً} [الأحزاب: 38], وقوله: {وَلَـَكِن لّيَقْضِيَ اللّهُ أَمْراً كَانَ مَفْعُولاً} [الأنفال: 44]. ففي هذه الآيات -وفي غيرها كثير- إثبات لقدر الله عز وجل , أو أمر بالتسليم للقدر.
ومن الآيات الدالة على القدر أيضًا: ما ورَدَ من آيات المشيئة والإرادة في القرآن الكريم؛ لأن المشيئة مَرتبة من مراتب القدر، وذلك مثل ما ورد في قول الله -تبارك وتعالى-: {وَلَوْ شِئْنَا لاَتَيْنَا كُلّ نَفْسٍ هُدَاهَا} [السجدة: 13], وكقوله سبحانه وتعالى في الإرادة: {فَمَن يُرِدِ اللّهُ أَن يَهْدِيَهُ يَشْرَحْ صَدْرَهُ لِلإِسْلاَمِ وَمَن يُرِدْ أَن يُضِلّهُ يَجْعَلْ صَدْرَهُ ضَيّقاً حَرَجاً} [الأنعام: 125].
ب. أدلة السنة:
ومن أدلة السنة النبوية على وجوب الإيمان بالقضاء والقدر أحاديث كثيرة؛ ففي (صحيح مسلم) من حديث عمر بن الخطاب رضي الله عنه في سؤال جبريل عليه السلام الرسول صلى الله عليه وسلم لما جاء وسأله عن الإيمان، وعن الإسلام، وعن الإحسان، ولما أجاب النبي صلى الله عليه وسلم جبريلَ عن الإيمان قال: ((أن تؤمن بالله وملائكته، وكتبه، ورسله، وتؤمن بالقدر خيره وشره)) فذكر هذا من أصول الإيمان, ومن أركانه.
وأخرج مسلم والترمذي, عن عمرو بن العاص رضي الله عنه قال: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: ((كتب الله مقاديرَ الخلائق قبل أن يخلق السموات والأرض بخمسين ألف سنة، قال: وعرشه على الماء)).
وروى مسلم أيضًا عن أبي هريرة رضي الله عنه قال: “جاء مشركو قريش يخاصمون رسول الله صلى الله عليه وسلم في القدر، فنزلت هذه الآية: {يَوْمَ يُسْحَبُونَ فِي النّارِ عَلَىَ وُجُوهِهِمْ ذُوقُواْ مَسّ سَقَرَ (48) إِنّا كُلّ شَيْءٍ خَلَقْنَاهُ بِقَدَرٍ} [القمر: 48، 49]”.
والنصوص في ذلك كثيرة للغاية، فإن النصوص الدالة على علم الله وقدرته ومشيئته وخلقه تدل على قدره تبارك وتعالى. فالقدر إذًا يتضمن الإيمان بعلم الله, ومشيئته, وخلقه.
ثالثًا: مراتب القدر, وأدلتها:
يجب العلم أولًا بأن مراتب الإيمان بالقضاء والقدر -التي مَن لم يؤمن بها لم يؤمن بالقضاء والقدر- أربع:
المرتبة الأولى: علم الرب سبحانه وتعالى بالأشياء قبل كونها.
المرتبة الثانية: كتابته لها قبل كونها.
المرتبة الثالثة: مشيئته لها.
المرتبة الرابعة: خلقه لها.
المرتبة الأولى: علم الله بالأشياء قبل كونها:
والعلم السابق -علم الله عز وجل – قد اتفق عليه الرسل من أولهم إلى آخرهم، واتفق عليه جميع الصحابة ومن تبعهم من الأمة, ولم يخالف في ذلك إلا مجوسُ هذه الأمة، والله عز وجل قد ذكر في كتابه الكريم ما يدل على علمه الواسع المحيط بكل ما كان، وبكل ما سيكون، وبكل ما لم يكن لو كان كيف يكون بتفصيلاته, وما إلى ذلك.
ومن الأدلة القرآنية على ثبوت علم الله سبحانه وتعالى السابق لجميع الأشياء, قبل كونها: ما قاله سبحانه وتعالى في رده على الملائكة, حينما قال لهم: {وَإِذْ قَالَ رَبّكَ لِلْمَلاَئِكَةِ إِنّي جَاعِلٌ فِي الأرْضِ خَلِيفَةً قَالُواْ أَتَجْعَلُ فِيهَا مَن يُفْسِدُ فِيهَا وَيَسْفِكُ الدّمَآءَ وَنَحْنُ نُسَبّحُ بِحَمْدِكَ وَنُقَدّسُ لَكَ قَالَ إِنّيَ أَعْلَمُ مَا لاَ تَعْلَمُونَ} [البقرة: 30].
قال مجاهد -رحمه الله-: عَلِمَ من إبليس المعصية, وخلقه لها. وقال قتادة -رحمه الله-: كان في علمه أنه سيكون من تلك الخليقة أنبياء ورسل، وقوم صالحون، وساكنو الجنة. وقال ابن مسعود رضي الله عنه: “أعلم ما لا يعلمون من إبليس”. وقال مجاهد: علم من إبليس أنه لا يسجد لآدمَ.
وقال تعالى في إثبات علمه السابق لكل شيء: {إِنّ اللّهَ عِندَهُ عِلْمُ السّاعَةِ وَيُنَزّلُ الْغَيْثَ وَيَعْلَمُ مَا فِي الأرْحَامِ وَمَا تَدْرِي نَفْسٌ مّاذَا تَكْسِبُ غَداً وَمَا تَدْرِي نَفْسٌ بِأَيّ أَرْضٍ تَمُوتُ إِنّ اللّهَ عَلَيمٌ خَبِيرٌ} [لقمان: 34], ثم قال سبحانه: {إِنّ اللّهَ عَلَيمٌ خَبِيرٌ} [لقمان: 34].
وفي (الصحيحين) عن أبي هريرة رضي الله عنه قال: ((ما من مولود يولد إلا على الفطرة، فأبواه يهوّدانه أو ينصّرانه أو يمجّسانه، كما تنتج البهيمة جمعاء, هل تحسون فيها من جدعاء حتى تكونوا أنتم تجدعونها؟ قالوا: يا رسول الله، أفرأيتَ مَن يموت منهم وهو صغير؟ قال: الله أعلم بما كانوا عاملين)).
وهذا هو الشاهد من هذا الحديث، وهو أن النبي صلى الله عليه وسلم أخبر بأن الله سبحانه وتعالى يعلم أزلًا ما العباد فاعلون, حيث قال: ((الله أعلم بما كانوا عاملين)).
وفي حديث الاستخارة ما يؤكد ثبوت هذا العلم لله عز وجل , ألا إنه بكل شيء عليم، وأنه سبحانه يعلم ما كان وما سيكون، ففي حديث الاستخارة قول النبي صلى الله عليه وسلم: ((اللهم إني أستخيرك بعلمك، وأستقدرك بقدرتك، وأسألك من فضلك؛ فإنك تقدر ولا أقدر، وتعلم ولا أعلم، وأنت علّام الغيوب. اللهم إن كنت تعلم أن هذا الأمر خير لي في ديني ومعاشي وعاقبة أمري؛ فاقدره لي ويسره لي، ثم بارك لي فيه، وإن كنت تعلمه شرًّا لي في ديني ومعاشي وعاقبة أمري؛ فاصرفه عني واصرفني عنه، واقدر لي الخير حيث كان، ثم رضّني به)).
فيبين هذا الحديثُ علمَ الله سبحانه وتعالى بما لا يعلمه الإنسان، وأنه يعلم في الأزل ما الذي ينفع الإنسان ويُصلحه.
المرتبة الثانية: الكتابة:
وهي أن الله سبحانه وتعالى كتب في اللوح المحفوظ كل ما هو كائن إلى يوم القيامة، قال تعالى: {وَلَقَدْ كَتَبْنَا فِي الزّبُورِ مِن بَعْدِ الذّكْرِ أَنّ الأرْضَ يَرِثُهَا عِبَادِيَ الصّالِحُونَ (105) إِنّ فِي هَـَذَا لَبَلاَغاً لّقَوْمٍ عَابِدِينَ} [الأنبياء: 105، 106], وقال: {وَلَقَدْ كَتَبْنَا فِي الزّبُورِ}, والزبور هنا: جميع الكتب المنزلة من السماء ولا يختص بزبور داود, والذكر: أم الكتاب الذي عند الله عز وجل , والأرض: الدنيا، وعباده الصالحون: هم أمة محمد صلى الله عليه وسلم. هذا أصح الأقوال في هذه الآية، وهي عَلم من أعلام نبوة رسول الله صلى الله عليه وسلم, فإنه أخبر بذلك وهو في مكة, وأهل الأرض كلهم كفار أعداء له ولأصحابه، والمشركون قد أخرجوهم من ديارهم ومساكنهم، وشتّتوهم في أطراف الأرض، فأخبرهم ربهم -تبارك وتعالى- أنه كتب في الذكر الأول أنهم يرثون الأرض مِن الكفار، ثم كتب هذا بعد ذلك في الكتب التي أنزلها على رسله. والكتاب قد أطلق عليه الذكر في قول النبي صلى الله عليه وسلم, في الحديث المتفق على صحته: ((كان الله ولم يكن شيء غيره، وكان عرشه على الماء، وكتب في الذكر كلَّ شيء)).
فهذا هو الذكر الذي كتب فيه أن الدنيا تصير لأمة محمد صلى الله عليه وسلم, والكتب المنزلة قد أطلق عليها الزبر في قول الله تعالى: {وَمَآ أَرْسَلْنَا مِن قَبْلِكَ إِلاّ رِجَالاً نّوحِيَ إِلَيْهِمْ فَاسْأَلُواْ أَهْلَ الذّكْرِ إِن كُنْتُم لاَ تَعْلَمُونَ (43) بِالْبَيّنَاتِ وَالزّبُرِ} [النحل: 43، 44].
وقال تعالى في إثبات كتابته لكل ما هو كائن إلى يوم القيامة: {إِنّا نَحْنُ نُحْيِي الْمَوْتَىَ وَنَكْتُبُ مَاَ قَدّمُواْ وَآثَارَهُمْ وَكُلّ شيْءٍ أَحْصَيْنَاهُ فِيَ إِمَامٍ مّبِينٍ} [يس: 12] فجمع بين الكتابين -الكتاب السابق لأعمالهم قبل وجودهم، والكتاب المقارن لأعمالهم- في هذه الآية، فأخبر أنه يحييهم بعدما أماتهم للبعث ويجازيهم بأعمالهم، ونبه بكتابتها على ذلك حيث قال: {وَنَكْتُبُ}: ما قدموا من خير أو شر فعلوه في حياتهم، {وَآثَارَهُمْ}: ما سنوه من سنة خير أو شر، فاقتدي بهم فيها بعد موتهم. قال ابن عباس في رواية عطاء: “آثارهم: ما أثروا من خير أو شر”.
قوله تعالى: {يُنَبّأُ الإِنسَانُ يَوْمَئِذِ بِمَا قَدّمَ وَأَخّرَ} [القيامة: 13], فإن قيل: قد استُفيد هذا من قوله: {قَدّمُواْ}, فما أفاد قوله: {وَآثَارَهُمْ}؟
نقول: أفادت فائدة جليلة, وهي أنه سبحانه وتعالى يكتب ما عملوه، وما تولد من أعمالهم، فيكون المتولد عنها كأنهم عملوه في الخير والشر، وهو أثر أعمالهم، فآثارهم هي آثار أعمالهم المتولدة عنها، والمقصود أن قوله: {وَكُلّ شيْءٍ أَحْصَيْنَاهُ فِيَ إِمَامٍ مّبِينٍ} هو اللوح المحفوظ وهو أم الكتاب، وهو الذكر الذي كتب فيه كل شيء، وهذا يتضمن كتابة أعمال العباد قبل أن يعملوها، والإحصاء في الكتاب يتضمن علمه بها، وقال -جل ذكره-: {وَمَا مِن دَآبّةٍ فِي الأرْضِ وَلاَ طَائِرٍ يَطِيرُ بِجَنَاحَيْهِ إِلاّ أُمَمٌ أَمْثَالُكُمْ مّا فَرّطْنَا فِي الكِتَابِ مِن شَيْءٍ ثُمّ إِلَىَ رَبّهِمْ يُحْشَرُونَ} [الأنعام: 38] قال: {مّا فَرّطْنَا فِي الكِتَابِ مِن شَيْءٍ}.
وقد اختلف في الكتاب ههنا: هل هو القرآن أم اللوح المحفوظ؟ على قولين:
فقالت طائفة: المراد به القرآن، وهذا من العام المراد به الخاص، أي: ما فرطنا فيه من شيء يحتاجون إلى ذكره وبيانه, وهذا كقول الله تعالى: {وَنَزّلْنَا عَلَيْكَ الْكِتَابَ تِبْيَاناً لّكُلّ شَيْءٍ} [النحل: 89].
وقالت طائفة أخرى: المراد بالكتاب في الآية اللوح المحفوظ الذي كتب الله فيه كل شيء، وهذه إحدى الروايتين عن ابن عباس، وكأن هذا القول أظهر في الآية والسياق يدل عليه، فإنه قال: {وَمَا مِن دَآبّةٍ فِي الأرْضِ وَلاَ طَائِرٍ يَطِيرُ بِجَنَاحَيْهِ إِلاّ أُمَمٌ أَمْثَالُكُمْ} وقد قال تعالى: {حـمَ (1) وَالْكِتَابِ الْمُبِينِ (2) إِنّا جَعَلْنَاهُ قُرْآناً عَرَبِيّاً لّعَلّكُمْ تَعْقِلُونَ} [الزخرف: 1- 3] ثم قال بعدها: {وَإِنّهُ فِيَ أُمّ الْكِتَابِ لَدَيْنَا لَعَلِيّ حَكِيمٌ} [الزخرف: 4], ما المراد بـ”أم الكتاب” المذكورة في هذه الآية؟
قال ابن عباس رضي الله عنه: “في اللوح المحفوظ المقروء” أي: الذي نقرؤه عندنا، قال مقاتل: إن نسخته في أصل الكتاب وهو اللوح المحفوظ، وأم الكتاب أصل الكتاب، وأم كل شيء أصله، والقرآن كتبه الله في اللوح المحفوظ قبل خلق السموات والأرض، كما قال تعالى: {بَلْ هُوَ قُرْآنٌ مّجِيدٌ (21) فِي لَوْحٍ مّحْفُوظٍ} [البروج: 21، 22].
وأجمع الصحابة والتابعون, وجميع أهل السنة والحديث: أن كل كائن إلى يوم القيامة فهو مكتوب في أم الكتاب، وقد دل القرآن الكريم على أن الرب تعالى كتب في أم الكتاب ما يفعله وما يقوله، فكتب في اللوح أفعاله وكلامه، فـ {تَبّتْ يَدَآ أَبِي لَهَبٍ وَتَبّ} [المسد: 1] في اللوح المحفوظ قبل وجود أبي لهب، وقوله: {لَدَيْنَا} يجوز أن يكون من صلة أم الكتاب, أي: إنه في الكتاب الذي عندنا، وهذا اختيار ابن عباس، ويجوز أن يكون من صلة الخبر. إنه علي حكيم عندنا ليس هو كما عند المكذبين به، وإن كذبتم به وكفرتم فهو عندنا في غاية الإتقان والارتفاع، والشرف والإحكام.
وروى حماد بن زيد, عن داود بن أبي هند, عن الشعبي قال: {وَكُلّ شَيْءٍ فَعَلُوهُ فِي الزّبُرِ}: كتب عليهم قبل أن يعملوه، أي: كل شيء فعلوه كتب عليهم قبل أن يعملوه. وقالت طائفة: المعنى أنه يحصَى عليهم في كتب أعمالهم، ولا مانعَ من الجمع بين الأمرين، بمعنى: أنه قد كتب عليهم في الأزل قبل أن يعملوه، وأنه أيضًا يحصى عليهم، أي: يكتب في أعمالهم، وقد جمع أبو إسحاق الزجاج بين القولين فقال: مكتوب عليهم قبل أن يفعلوه، ومكتوب عليهم إذا فعلوه للجزاء، وهذا أصح.
وفي (الصحيحين) من حديث ابن عباس رضي الله عنه قال: “ما رأيت شبهًا أشبه باللَّمَم مما قال أبو هريرة عن النبي صلى الله عليه وسلم, قال: ((إن الله كتب على ابن آدم حظه من الزنا، أدرك ذلك لا محالةَ، فزنا العينين النظرُ، وزنا اللسان النطق، والنفس تتمنى وتشتهي، والفرج يصدق ذلك ويكذبه)) والشاهد من الحديث: ((إن الله كتب على ابن آدم حظه من الزنا)).
المرتبة الثالثة: مرتبة المشيئة:
وهذه المرتبة قد دل عليها إجماع الرسل من أولهم إلى آخرهم، وجميع الكتب المنزلة من عند الله، والفطرة التي فطر الله عليها خلقه، وأدلة العقول والعيان تدل عليها، فليس في الوجود موجب ومقتضٍ إلا مشيئة الله وحده دون سواه، فما شاء كان وما لم يشأ لم يكن، فلا حركة ولا سكون في هذا الكون إلا بمشيئته سبحانه دون سواه، ولا يكون ولا يقع في مُلكه إلا ما يريد، وهذا هو عموم التوحيد الذي لا يقوم إلا به، والمسلمون من أولهم إلى آخرهم مجمعون على أنه ما شاء كان, وما لم يشأ لم يكن.
وخالفهم في ذلك مَن خالف الرسل, وسلك طريق أهل الضلال ممن نفوا مشيئة الله سبحانه وتعالى بالكلية؛ كالفلاسفة وأتباعهم، أو مَن نَفَى مشيئته في أفعال العباد كالمعتزلة القدرية, الذين قالوا بأن الله سبحانه وتعالى لم يشأ أفعال العباد؛ لشُبَه قامت في أذهانهم.
والقرآن الكريم والسنة المطهرة أثبتَا مشيئةَ الله الكاملة الشاملة العامة المطلقة؛ فمثلًا: قول الله -تبارك وتعالى-: {وَلَوْ شَآءَ اللّهُ مَا اقْتَتَلَ الّذِينَ مِن بَعْدِهِم مّن بَعْدِ مَا جَآءَتْهُمُ الْبَيّنَاتُ وَلَـَكِنِ اخْتَلَفُواْ فَمِنْهُمْ مّنْ آمَنَ وَمِنْهُمْ مّن كَفَرَ وَلَوْ شَآءَ اللّهُ مَا اقْتَتَلُواْ وَلَـَكِنّ اللّهَ يَفْعَلُ مَا يُرِيدُ} [البقرة: 253], هذه آية واحدة ذُكرت فيها المشيئة مرتين: {وَلَوْ شَآءَ اللّهُ مَا اقْتَتَلَ الّذِينَ مِن بَعْدِهِم} وبعدها: {وَلَوْ شَآءَ اللّهُ مَا اقْتَتَلُواْ}.
كما أخبر سبحانه وتعالى عن أنبيائه ورسله أنهم كانوا يقرون له بهذه المشيئة، فنوح عليه السلام يقول لقومه: {إِنّمَا يَأْتِيكُمْ بِهِ اللّهُ إِن شَآءَ} [هود: 33], وإمام الحنفاء وأبو الأنبياء خليل الرحمن إبراهيم عليه السلام يقول لقومه: {وَلاَ أَخَافُ مَا تُشْرِكُونَ بِهِ إِلاّ أَن يَشَآءَ رَبّي شَيْئاً وَسِعَ رَبّي كُلّ شَيْءٍ عِلْماً} [الأنعام: 80], وقال الذبيح إسماعيل لأبيه مثبتًا مشيئة الله عز وجل : {سَتَجِدُنِيَ إِن شَآءَ اللّهُ مِنَ الصّابِرِينَ} [الصافات: 102].
وقال رب العزة والجلال لسيد ولد آدم, وأكرمهم -عليه خاتم الأنبياء والمرسلين- محمد بن عبد الله -صلى الله عليه وعلى آله وسلم: {وَلاَ تَقْولَنّ لِشَيْءٍ إِنّي فَاعِلٌ ذَلِكَ غَداً (23) إِلاّ أَن يَشَآءَ اللّهُ} [الكهف: 23، 24] كما قال تعالى له في آية أخرى: {قُل لاّ أَمْلِكُ لِنَفْسِي ضَرّاً وَلاَ نَفْعاً إِلاّ مَا شَآءَ اللّهُ} [يونس: 49], وقال عن أهل الجنة: {خَالِدِينَ فِيهَا مَا دَامَتِ السّمَاوَاتُ وَالأرْضُ إِلاّ مَا شَآءَ رَبّكَ} [هود: 107], وقال عن أهل النار كذلك؛ ليبين سبحانه وتعالى أن الأمر راجعٌ إلى مشيئته سواء كان لأهل الجنة أو لأهل النار، ولو شاء رب العزة لكان غير ذلك, وقال عن أهل النار: {رّبّكُمْ أَعْلَمُ بِكُمْ إِن يَشَأْ يَرْحَمْكُمْ أَوْ إِن يَشَأْ يُعَذّبْكُمْ} [الإسراء: 54] هذا القول قاله لعموم الناس بعد أن ذكر قوله لأهل الجنة، وما يتمتعون فيه من النعيم: {خَالِدِينَ فِيهَا مَا دَامَتِ السّمَاوَاتُ وَالأرْضُ إِلاّ مَا شَآءَ رَبّكَ} [هود: 107], ثم خاطب الناس جميعًا فقال: {رّبّكُمْ أَعْلَمُ بِكُمْ إِن يَشَأْ يَرْحَمْكُمْ أَوْ إِن يَشَأْ يُعَذّبْكُمْ}, وقال سبحانه: {فَيَغْفِرُ لِمَن يَشَآءُ وَيُعَذّبُ مَن يَشَآءُ} [البقرة: 284].
وهذه الآيات كلها تثبت مشيئة الله عز وجل , وتتضمن أيضًا الرد على طائفتي الضلال: نُفاة المشيئة بالكلية، وهم الفلاسفة ومَن تبعهم على ذلك، ونفاة مشيئته في أفعال العباد وحركاتهم وهداهم وضلالهم، وهؤلاء هم القدرية المعتزلة.
وهو سبحانه وتعالى تارةً يخبر أن ما في الكون بمشيئته، وتارة يخبر أن ما لم يشأ لم يكن، وتارة يخبر أنه لو شاء لكان خلاف الواقع، وأنه لو شاء لكان خلاف القدر الذي قدره وكتبه، وأنه لو شاء ما عُصِيَ، وأنه لو شاء لجمع خلقه على الهدى وجعلهم أمة واحدة، وقد تضمن كل ذلك أن كل واقع إنما هو بمشيئته سبحانه, وأن ما لم يقع فهو لعدم مشيئته، وهذا هو حقيقة الربوبية، وهو معنى كونه “ربّ العالمين” وكونه القيوم القائم بتدبير عباده، فلا خلق ولا رزق، ولا عطاء ولا منع، ولا قبض ولا بسط، ولا موت ولا حياة، ولا إضلال ولا هدى، ولا سعادة ولا شقاوة، إلا بعد إذنه، وكل ذلك بمشيئته وتكوينه؛ إذ لا مالك غيره، ولا مدبر سواه، ولا رب غيره سبحانه.
وكما دلت الآيات القرآنية السابقة على ذلك، دلت أيضًا الأحاديث الصحيحة؛ فقد أثبتت الأحاديث الواردة عن النبي صلى الله عليه وسلم أن كل شيء وُجد في هذا الكون أو يوجد, إنما هو بمشيئة الله سبحانه وتعالى وحده دون سواه.
ففي (صحيح البخاري) من حديث أبي موسى, عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: ((اشفعوا تؤجروا، ويقضي الله على لسان نبيه ما يشاء)).
وفي (البخاري) أيضًا في قصة نومهم في الوادي, أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: ((إن الله قبض أرواحكم حين شاء، وردها حين شاء)).
وفي (صحيح مسلم) عن أبي هريرة رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((المؤمن القوي خير وأحب إلى الله من المؤمن الضعيف، وفي كل خير. احرِصْ على ما ينفعك, واستعن بالله ولا تعجز، وإن أصابك شيء فلا تقل: لو أني فعلت كان كذا وكذا، ولكن قل: قدر الله وما شاء فعل، فإن لو تفتح عمل الشيطان))، والشاهد من الحديث: ((ولكن قل: قدر الله وما شاء فعل)) وهذا يقال لكل مَن ندم على أمر فاته مثلًا، وتمنى أن يكون غيره, وليعلم كل فرد أن كل واقع إنما هو بمشيئة الله عز وجل ؛ ولذلك نجد أن النبي صلى الله عليه وسلم كان يرسخ هذا المفهوم وهذا المعنى بين أصحابه، فقال صلى الله عليه وسلم للأعرابي الذي عاده من الحمى: ((لا بأس، طَهور إن شاء الله)), وقد روى ذلك أيضًا البخاري في باب: “المشيئة والإرادة”.
المرتبة الرابعة: خلق الله للأعمال, وتكوينه، وإيجاده لها:
وهذا أيضًا أمر متفق عليه، حيث اتفقت عليه الكتب الإلهية والفطر والعقول، وقد قررت النصوص القرآنية والنبوية هذا الأمر كذلك، وهو أن الله سبحانه وتعالى خالق كل شيء، فهو الذي خلق الخلق وكوّنهم وأوجدهم، فهو الخالق وما سواه مربوب مخلوق، قال تعالى: {اللّهُ خَالِقُ كُلّ شَيْءٍ} [الرعد: 16], وقال سبحانه: {إِنّ رَبّكَ هُوَ الْخَلاّقُ الْعَلِيمُ} [الحجر: 86].
والنصوص في هذا كثيرة طيبة، وهي تدل على أن أفعال العبد لا تخرج عن غيرها من المخلوقات، فكل ما هو في الكون إنما هو بخلق الله وإيجاده لها، وقد علم الله عز وجل ما سيخلقه من عباده، وعلم ما هم فاعلون، وكتب كل ذلك في اللوح المحفوظ، وخلقهم الله كما شاء ومضى وقدر عليهم، وقد عمل العباد على النحو الذي شاءه الله فيهم، وهدى سبحانه مَن كتب الله له السعادة, وأضل من كتب عليه الشقاوة، وعلم أهل الجنة ويسرهم لعمل أهلها، وعلم أهل النار ويسرهم لعمل أهلها.
وهناك نصوص أخرى كثيرة أصرح في الدلالة على هذه المسألة، وهي أن الله خالق أفعال العباد, ومن ذلك قول الله -تبارك وتعالى: {وَاللّهُ خَلَقَكُمْ وَمَا تَعْمَلُونَ} [الصافات: 96], وقال سبحانه: {وَكُلّ شَيْءٍ فَعَلُوهُ فِي الزّبُرِ}.
وقد جاءت أحاديث كثيرة أيضًا تواتر معناها لتؤيد هذه الآيات القرآنية، وتدل على أن رب العباد علم ما العباد عاملون، وقدر ذلك وقضاه وفرغ منه، وعلم ما سيصير إليه العباد من السعادة والشقاء، وقد أخبرت النصوص مع ذلك أن القدر لا يمنع من العمل، فأمر بالعمل: ((اعملوا؛ فكل ميسر لِمَا خلق له))، ومما يؤيد ذلك ما رواه الإمام مسلم في صحيحه عن جابر بن عبد الله رضي الله عنه قال: ((جاء سراقة بن مالك بن جعشم، فقال: يا رسول الله صلى الله عليه وسلم, بين لنا ديننا كأنا خلقنا الآن؛ فيم العمل اليوم؟ أفيم جفت به الأقلام وجرت به المقادير؟ أم فيم يستقبل؟ قال: لا، بل فيما جَفت به الأقلام وجرت به المقادير، قال: ففيم العمل؟ فقال صلى الله عليه وسلم: اعملوا، فكل ميسر)) وفي رواية: ((كل عامل ميسر لعمله)).
وقد علم الله عز وجل أهل الجنة من أهل النار؛ لأنه هو خالق أفعالهم، فقد روى البخاري عن عمران بن حصين رضي الله عنه قال: ((قال رجل: يا رسول الله، أيعرف أهل الجنة من أهل النار؟ فقال: نعم، قال: فلِمَ يعملون؟ قال: كل يعمل لما خلق له, أو يسر له)).