معنى القضاء والقدر, وحكمه, ومراتبه, وأدلته
أولًا: معنى كلمتي القضاء والقدر:
أ. تمهيد حول المنهج الصواب في هذا الباب:
منهج أهل السنة عمومًا في مسائل الاعتقاد -ومنها هذه المسألة العظيمة- أن الناس حينما يختلفون لا يختلف سلف هذه الأمة؛ بل يسلكون الحق والصوابَ.
وهنا كلمات قالها الإمام ابن القيم -رحمه الله تعالى- في هذا الموضوع, في مقدمة كتابه (شفاء العليل في مسائل القضاء والقدر والحكمة والتعليل), وهو كتاب خاص بهذه المسائل، وعلى طالب العلم أن يهتم بمثل هذه الكتبِ -أي: كتب السلف الصالح رحمة الله تعالى عليهم- لأنهم يبينون من خلالها المعتقد الصحيحَ, الذي عليه أهل السنة والجماعة.
ب. معنى القضاء:
القضاء: هو الفصل والحكم، وقد تكرر في أحاديث الرسول صلى الله عليه وسلم ذكر القضاء، وأصله: القطع والفصل، يقال: قضى يقضي قضاء فهو قاضٍ إذا حكم وفصل، وقضاء الشيء: إحكامه وإمضاؤه والفراغ منه، فيكون إذًا بمعنى الخلق.
وقال الزهري -رحمه الله تعالى-: القضاء في اللغة على وجوهٍ مرجعها إلى انقضاء الشيء وتمامه، وكل ما أحكم عمله أو أتم، أو أدي، أو أوجب، أو علم، أو نفذ، أو أمضي؛ فقد قضي.
ج. معنى القدر:
القدر لغةً: مصدر، تقول: قَدَرت الشيء, أقدِره, قَدْرًا وقَدَرًا: إذا أحطت بمقداره، والقدر في اللغة: القضاء والحكم ومبلغ الشيء، والتقدير: هو التروية والتفكر في تسوية الأمر.
والقدر في الاصطلاح: ما سبق به العلم وجرى به القلم مما هو كائن إلى الأبد، وأنه عز وجل قدر مقادير الخلائق، وما يكون من الأشياء قبل أن تكون في الأزل، وعَلِمَ سبحانه وتعالى أنها ستقع في أوقات معلومة عنده تعالى، وعلى صفات مخصوصة، فهي تقع على حساب ما قدَّره.
وقال ابن حجر -رحمه الله تعالى- في تعريف القدر: “المراد: أن الله تعالى علم مقاديرَ الأشياء وأزمانها قبل إيجادها، ثم ما سبق في علمه أنه يوجد، فكل محدث صادر عن علمه وقدرته وإرادته”.
وقال السفاريني -رحمه الله تعالى-: “القدر: إيجاد الله الأشياء على قدر مخصوص وتقدير معين في ذواتها وأحوالها، طبقَ ما سبق في العلم وجَرَى به القلم”.
وهذه التعريفات كلها متقاربة فيما بينها، وهي تفيد أن القدر يشمل أمرين:
الأول: علم الله الأزلي الذي حكم فيه بوجود ما شاء أن يوجده، وحدد صفات المخلوقات التي يريد إيجادها.
وقد كتب كل ذلك في اللوح المحفوظ بكلماته؛ فالأرض والسماء, أحجامهما وأبعادهما وطريقة تكوينهما، وما بينهما، وما فيهما، كلُّ ذلك مدون علمه في اللوح المحفوظ تدوينًا دقيقًا وافيًا.
الثاني: إيجاد ما قدر الله إيجاده على النحو الذي سبق علمه، وجرى به قلمه، فيأتي الواقع المشهود مطابقًا للعلم السابق المكتوب.
والقدر يطلق ويراد به التقدير السابق لِمَا في علم الله، ويطلق ويراد ما خلقه وأوجده على النحو الذي علمه.
والقدر عمومًا يدل بوضعه -كما يقول الراغب الأصفهاني رحمه الله تعالى, فيما نقله عنه الحافظ ابن حجر العسقلاني رحمهما الله تعالى- على القدرة، وعلى المقدور الكائن بالعلم، فلله تعالى القدرة المطلقة، وقدرته لا يعجزها شيء، ومن أسمائه -تبارك وتعالى-: القادر، والقدير، والمقتدر.
والقدرة صفة من صفاته سبحانه وتعالى وهي من صفات الذات، فالقادر إذًا اسم فاعل من: قدر يقدر، والقدير: فعيل منه، وهو للمبالغة، ومعنى القدير: الفاعل لما يشاء على قدر ما تقتضي الحكمة، لا زائدًا عليها ولا ناقصًا عنها؛ ولذلك لا يصح أن يوصف به إلا اللهُ عز وجل، أي: القدير, قال تعالى: {إِنَّهُ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِير} [فصلت: 39]. والمقتدر: مفتعل من اقتدر، وهو أبلغ من قدير، ومنه قوله تعالى: {فِي مَقْعَدِ صِدْقٍ عِندَ مَلِيكٍ مُّقْتَدِر} [القمر: 55] وقد سئل الإمام أحمد -رحمه الله تعالى- عن القدر فقال: “القدر: قدرة الله -تبارك وتعالى”.
د. هل هناك تفرقة بين القضاء والقدر؟
للعلماء في التفرقة بين القضاء والقدر قولان:
الأول: القضاء: هو العلم السابق الذي حكم الله به في الأزل، والقدر: وقوع الخلق على وزن الأمر المقضي السابق.
يقول الحافظ ابن حجر -رحمه الله تعالى-: قال العلماء: القضاء هو الحكم الكلي الإجمالي في الأزل، والقدر: جزئيات ذلك الحكم وتفاصيله. وقال في موضع آخر: القضاء: الحكم بالكليات على سبيل الإجمال في الأزل، والقدر: الحكم بوقوع الجزئيات, التي لتلك الكليات على سبيل التفصيل.
القول الثاني في التفرقة بين القضاء والقدر: عكس القول السابق، فالقدر هو الحكم السابق، والقضاء هو الخلق.
قال ابن بطال -رحمه الله-: القضاء هو المقضي، ومراده بالمقضي هنا المخلوق، وهذا هو قول الخطابي -رحمه الله- فقد قال في (معالم السنن): القدر: اسم لما صار مقدرًا عن فعل القادر كالهدم والنشر والقبض، أسماء لِمَا صدر من فعل الهادم والناشر والقابض.
والقضاء في هذا معناه: الخلق، كقوله تعالى: {فَقَضَاهُنَّ سَبْعَ سَمَاوَاتٍ فِي يَوْمَيْنِ} [فصلت: 12] أي: خلقهن.
وبِناءً على هذا القول يكون القضاء من الله تعالى أخصَّ من القدر؛ لأنه الفصل بين التقديرين، فالقدر هو التقدير، والقضاء هو الفصل والقطع.
ويدل لصحة هذا القول نصوص كثيرة من كتاب الله تعالى, مثل: {وَكَانَ أَمْرًا مَّقْضِيًّا} [مريم: 21] وقال: {كَانَ عَلَى رَبِّكَ حَتْمًا مَّقْضِيًّا} [مريم: 71] وقال: {فَإِذَا قَضَى أَمْرًا فَإِنَّمَا يَقُولُ لَهُ كُن فَيَكُون} [غافر: 68].
فالقضاء والقدر بناءً على هذا القول أمران متلازمان، لا ينفك أحدهما عن الآخر؛ لأن أحدهما بمنزلة الأساس وهو القدر.
والآخر بمنزلة البناء وهو القضاء، فَمَن رام الفصل بينهما فقد رام هدم البناء ونقضه؛ ولذلك دائمًا العلماء يقولون: القضاء والقدر؛ لأنهما متلازمان.
ثانيًا: وجوب الإيمان بالقضاء والقدر, والأدلة على ذلك:
أ. أدلة القرآن الكريم:
القرآن الكريم ذكر في مواطنَ متعددة القدر، ووجوب الإيمان به؛ لأن الإيمان بالقدر من أصول الإيمان التي لا يتم إيمان العبد إلا بها، والنصوص المخبرة عن قدر الله أو الآمرة بالإيمان بالقدر كثيرة، وقد صرح بها الكتاب العزيز في نحو مائة آية؛ فمن ذلك قول الله -تبارك وتعالى-: {إِنَّا كُلَّ شَيْءٍ خَلَقْنَاهُ بِقَدَر} [القمر: 49] وقوله: {وَكَانَ أَمْرُ اللَّهِ قَدَرًا مَّقْدُورًا} [الأحزاب: 38] وقوله: {وَلَـكِن لِّيَقْضِيَ اللّهُ أَمْراً كَانَ مَفْعُولاً} [الأنفال: 44] , ففي هذه الآيات وفي غيرها إثباتٌ لقدر الله عز وجل أو أمر بالتسليم للقدر.
ومن الآيات الدالة على القدر أيضًا: ما ورَدَ من آيات المشيئة والإرادة في القرآن الكريم؛ لأن المشيئة مَرتبة من مراتب القدر، وذلك مثل ما ورد في قول الله -تبارك وتعالى-: {وَلَوْ شِئْنَا لآتَيْنَا كُلَّ نَفْسٍ هُدَاهَا} [السجدة: 13] وكقول الله -جل ذكره-: {وَلَوْ شَاء رَبُّكَ لآمَنَ مَن فِي الأَرْضِ كُلُّهُمْ جَمِيعًا} [يونس: 99] وكقوله سبحانه وتعالى في الإرادة: {فَمَن يُرِدِ اللّهُ أَن يَهْدِيَهُ يَشْرَحْ صَدْرَهُ لِلإِسْلاَمِ وَمَن يُرِدْ أَن يُضِلَّهُ يَجْعَلْ صَدْرَهُ ضَيِّقًا حَرَجًا} [الأنعام: 125].
ب. أدلة السنة:
ومن أدلة السنة النبوية على وجوب الإيمان بالقضاء والقدر أحاديث كثيرة؛ ففي (صحيح مسلم) من حديث عمر بن الخطاب رضي الله عنه في سؤال جبريلَ عليه السلام الرسول صلى الله عليه وسلم لما جاء وسأله عن الإيمان، وعن الإسلام، وعن الإحسان، ولما أجاب النبي صلى الله عليه وسلم جبريلَ عن الإيمان، قال: ((أن تؤمن بالله وملائكته، وكتبه، ورسله، وتؤمن بالقدر خيره وشره)) فذكر هذا من أصول الإيمان, ومن أركانه.
وأخرج مسلم والترمذي عن عمرو بن العاص رضي الله عنه قال: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: ((كتب الله مقاديرَ الخلائق قبل أن يخلق السموات والأرض بخمسين ألف سنة، قال: وعرشه على الماء)).
كما أخرج أبو داود والترمذي من حديث عبادة بن الصامت رضي الله عنه أنه قال لابنه عند الموت: “إنك لن تجد حقيقةَ الإيمان, حتى تعلم أن ما أصابك لم يكن ليخطئك، وما أخطأك لم يكن ليصيبك، وإني سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: ((إن أول ما خلق الله القلم فقال له: اكتب، قال: وما أكتب؟ قال: اكتب مقادير كل شيء حتى تقومَ الساعة))، وإني سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: ((مَن مات على غير هذا؛ فليس مني))”.
والنصوص في ذلك كثيرة جدًّا؛ فإن النصوص الدالة على علم الله وقدرته ومشيئته وخلقه تدل على قدره -تبارك وتعالى- فالقدر إذًا يتضمن الإيمان بعلم الله ومشيئته وخلقه.
ثالثًا: مراتب القدر وأدلتها:
يجب أن نعلم -أولًا- أن مراتب الإيمان بالقضاء والقدر -التي مَن لم يؤمن بها لم يؤمن بالقضاء والقدر- أربع:
المرتبة الأولى: علم الرب سبحانه وتعالى بالأشياء قبل كونها.
المرتبة الثانية: كتابته لها قبل كونها.
المرتبة الثالثة: مشيئته لها.
المرتبة الرابعة: خلقه لها.
المرتبة الأولى: علم الله بالأشياء قبل كونها:
والعلم السابق -أي: علم الله عز وجل-قد اتفق عليه الرسل من أولهم إلى آخرهم، واتفق عليه جميع الصحابة ومن تبعهم من الأمة, ولم يخالف في ذلك إلا مجوسُ هذه الأمة، والله عز وجل قد ذكر في كتابه الكريم ما يدل على علمه الواسع المحيط بكل ما كان، وبكل ما سيكون، وبكل ما لم يكن لو كان كيف يكون، بتفصيلاته وما إلى ذلك.
ومن الأدلة القرآنية على ثبوت علم الله سبحانه وتعالى السابق لجميع الأشياء قبل كونها: ما قاله سبحانه وتعالى في رده على الملائكة, حينما قال لهم: {وَإِذْ قَالَ رَبُّكَ لِلْمَلاَئِكَةِ إِنِّي جَاعِلٌ فِي الأَرْضِ خَلِيفَةً قَالُواْ أَتَجْعَلُ فِيهَا مَن يُفْسِدُ فِيهَا وَيَسْفِكُ الدِّمَاء وَنَحْنُ نُسَبِّحُ بِحَمْدِكَ وَنُقَدِّسُ لَكَ قَالَ إِنِّي أَعْلَمُ مَا لاَ تَعْلَمُون} [البقرة: 30] فلنتأمل الآية: {إِنِّي أَعْلَمُ مَا لاَ تَعْلَمُون}.
قال مجاهد -رحمه الله-: عَلِمَ من إبليس المعصية وخلقه لها، وقال قتادة -رحمه الله-: كان في علمه أنه سيكون من تلك الخليقة أنبياء ورسل، وقوم صالحون، وساكنو الجنة, وقال ابن مسعود رضي الله عنه: “أعلم ما لا يعلمون من إبليس”، وقال مجاهد: علم من إبليس أنه لا يسجد لآدمَ.
وقال تعالى في إثبات علمه السابق لكل شيء: {إِنَّ اللَّهَ عِندَهُ عِلْمُ السَّاعَةِ وَيُنَزِّلُ الْغَيْثَ وَيَعْلَمُ مَا فِي الأَرْحَامِ وَمَا تَدْرِي نَفْسٌ مَّاذَا تَكْسِبُ غَدًا وَمَا تَدْرِي نَفْسٌ بِأَيِّ أَرْضٍ تَمُوتُ} [لقمان: 34] ثم قال سبحانه: {إِنَّ اللَّهَ عَلِيمٌ خَبِير} [لقمان: 34].
وفي (الصحيحين) عن أبي هريرة رضي الله عنه قال: ((ما من مولود يولد إلا على الفطرة، فأبواه يهودانه أو ينصرانه أو يمجسانه؛ كما تنتج البهيمة جمعاء هل تحسون فيها من جدعاء حتى تكونوا أنتم تجدعونها؟ قالوا: يا رسول الله، أفرأيتَ مَن يموت منهم وهو صغير؟ قال: الله أعلم بما كانوا عاملين)).
هذا هو الشاهد من هذا الحديث، وهو أن النبي صلى الله عليه وسلم أخبر بأن الله سبحانه وتعالى يعلم أزلًا ما العباد فاعلون؛ حيث قال: ((الله أعلم بما كانوا عاملين)).
وفي حديث الاستخارة ما يؤكد ثبوت هذا العلم لله عز وجل, ألا إنه بكل شيء عليم، وإنه سبحانه يعلم ما كان وما سيكون، وفي حديث الاستخارة هذا قول النبي صلى الله عليه وسلم: ((اللهم إني أستخيرك بعلمك، وأستقدرك بقدرتك، وأسألك من فضلك، فإنك تقدر ولا أقدر، وتعلم ولا أعلم، وأنت علام الغيوب, اللهم إن كنت تعلم أن هذا الأمر خير لي في ديني ومعاشي وعاقبة أمري، فاقدره لي ويسره لي، ثم بارك لي فيه، وإن كنت تعلمه شرًّا لي في ديني ومعاشي وعاقبة أمري، فاصرفه عني واصرفني عنه، واقدر لي الخير حيث كان، ثم رضني به)).
فيبين هذا الحديثُ علمَ الله سبحانه وتعالى بما لا يعلمه الإنسان، وأنه يعلم في الأزل ما الذي ينفع الإنسان ويصلحه.
المرتبة الثانية: الكتابة:
الكتابة هي أن الله سبحانه وتعالى كتب في اللوح المحفوظ كل ما هو كائن إلى يوم القيامة، قال تعالى: {وَلَقَدْ كَتَبْنَا فِي الزَّبُورِ مِن بَعْدِ الذِّكْرِ أَنَّ الأَرْضَ يَرِثُهَا عِبَادِيَ الصَّالِحُون * إِنَّ فِي هَذَا لَبَلاَغًا لِّقَوْمٍ عَابِدِين} [الأنبياء: 105، 106] قال: {وَلَقَدْ كَتَبْنَا فِي الزَّبُورِ} والزبور هنا: جميع الكتب المنزلة من السماء ولا يختص بزبور داود، والذكر: أم الكتاب الذي عند الله عز وجل, والأرض: الدنيا، وعباده الصالحون: هم أمة محمد صلى الله عليه وسلم. هذا أصح الأقوال في هذه الآية، وهي عَلم من أعلام نبوة رسول الله صلى الله عليه وسلم, فإنه أخبر بذلك وهو في مكة وأهل الأرض كلهم كفار أعداء له ولأصحابه، والمشركون قد أخرجوهم من ديارهم ومساكنهم، وشتتوهم في أطراف الأرض، فأخبرهم ربهم -تبارك وتعالى- أنه كتب في الذكر الأول أنهم يرثون الأرض مِن الكفار، ثم كتب ذلك بعد ذلك في الكتب التي أنزلها على رسله.
والكتاب قد أطلق عليه الذكر في قول النبي صلى الله عليه وسلم في الحديث المتفق على صحته: ((كان الله ولم يكن شيء غيره، وكان عرشه على الماء، وكتب في الذكر كلَّ شيء)) فهذا هو الذكر الذي كتب فيه أن الدنيا تصير لأمة محمد صلى الله عليه وسلم, والكتب المنزلة قد أطلق عليها الزبر في قول الله تعالى: {وَمَا أَرْسَلْنَا مِن قَبْلِكَ إِلاَّ رِجَالاً نُّوحِي إِلَيْهِمْ فَاسْأَلُواْ أَهْلَ الذِّكْرِ إِن كُنتُمْ لاَ تَعْلَمُون * بِالْبَيِّنَاتِ وَالزُّبُرِ} [النحل: 43، 44].
وقال تعالى في إثبات كتابته لكل ما هو كائن إلى يوم القيامة: {إِنَّا نَحْنُ نُحْيِي الْمَوْتَى وَنَكْتُبُ مَا قَدَّمُوا وَآثَارَهُمْ وَكُلَّ شَيْءٍ أحْصَيْنَاهُ فِي إِمَامٍ مُبِين} [يس: 12] فجمع بين الكتابين؛ الكتاب السابق لأعمالهم قبل وجودهم، والكتاب المقارن لأعمالهم، جَمَعَ بينهما في هذه الآية، فأخبر أنه يحييهم بعدما أماتهم للبعث ويجازيهم بأعمالهم، ونبه بكتابتها على ذلك فقال: {وَنَكْتُبُ} ما قدموا من خير أو شر فعلوه في حياتهم، {وَآثَارَهُمْ}: ما سنوه من سنة خير أو شر، فاقتدي بهم فيها بعد موتهم، وقال ابن عباس في رواية عطاء: “آثارهم: ما أثروا من خير أو شر”. فإن قلت: قد استُفيد هذا من قوله: {قَدَّمُوا}, فما أفاد قوله: {وَآثَارَهُمْ} على قوله؟
قلت: أفادت فائدة جليلة وهي أنه سبحانه وتعالى يكتب ما عملوه، وما تولد من أعمالهم، فيكون المتولد عنها كأنهم عملوه في الخير والشر، وهو أثر أعمالهم، فآثارهم هي آثار أعمالهم المتولدة عنها، والمقصود أن قوله: {وَكُلَّ شَيْءٍ أحْصَيْنَاهُ فِي إِمَامٍ مُبِين} هو اللوح المحفوظ، وهو أم الكتاب، وهو الذكر الذي كتب فيه كل شيء، وهذا يتضمن كتابة أعمال العباد قبل أن يعملوها، والإحصاء في الكتاب يتضمن علمه بها.
وقال -جل ذكره-: {وَمَا مِن دَآبَّةٍ فِي الأَرْضِ وَلاَ طَائِرٍ يَطِيرُ بِجَنَاحَيْهِ إِلاَّ أُمَمٌ أَمْثَالُكُم مَّا فَرَّطْنَا فِي الكِتَابِ مِن شَيْءٍ ثُمَّ إِلَى رَبِّهِمْ يُحْشَرُون} [الأنعام: 38] قال: {مَّا فَرَّطْنَا فِي الكِتَابِ مِن شَيْءٍ} وقد اختلف في الكتاب ههنا: هل هو القرآن أم اللوح المحفوظ؟ على قولين:
فقالت طائفة: المراد به القرآن، وهذا من العام المراد به الخاص، أي: ما فرطنا فيه من شيء يحتاجون إلى ذكره وبيانه, وهذا كقول الله تعالى: {وَنَزَّلْنَا عَلَيْكَ الْكِتَابَ تِبْيَانًا لِّكُلِّ شَيْءٍ} [النحل: 89].
وقالت طائفة: المراد بالكتاب في الآية اللوح المحفوظ الذي كتب الله فيه كل شيء، وهذه إحدى الروايتين عن ابن عباس، وكأن هذا القول أظهر في الآية والسياق يدل عليه، فإنه قال: {وَمَا مِن دَآبَّةٍ فِي الأَرْضِ وَلاَ طَائِرٍ يَطِيرُ بِجَنَاحَيْهِ إِلاَّ أُمَمٌ أَمْثَالُكُم}.
وقد قال تعالى: {حم * وَالْكِتَابِ الْمُبِين * إِنَّا جَعَلْنَاهُ قُرْآنًا عَرَبِيًّا لَّعَلَّكُمْ تَعْقِلُون} [الزخرف: 1- 3] ثم قال بعدها: {وَإِنَّهُ فِي أُمِّ الْكِتَابِ لَدَيْنَا لَعَلِيٌّ حَكِيم} [الزخرف: 4], ما المراد بـ”أم الكتاب” المذكورة في هذه الآية؟ قال ابن عباس رضي الله عنهما: “في اللوح المحفوظ المقروء -أي: الذي نقرؤه- عندنا”، قال مقاتل: إن نسخته في أصل الكتاب وهو اللوح المحفوظ، وأم الكتاب أصل الكتاب، وأم كل شيء أصله، والقرآن كتبه الله في اللوح المحفوظ قبل خلق السموات والأرض، كما قال تعالى: {بَلْ هُوَ قُرْآنٌ مَّجِيد * فِي لَوْحٍ مَّحْفُوظ} [البروج: 21، 22].
وأجمع الصحابة والتابعون وجميع أهل السنة والحديث: أن كل كائن إلى يوم القيامة فهو مكتوب في أم الكتاب، وقد دل القرآن الكريم على أن الرب تعالى كتب في أم الكتاب ما يفعله وما يقوله، فكتب في اللوح أفعاله وكلامه، فـ: {تَبَّتْ يَدَا أَبِي لَهَبٍ وَتَب} [المسد: 1] في اللوح المحفوظ قبل وجود أبي لهب، وقوله: {لَدَيْنَا} يجوز أن تكون من صلة أم الكتاب أي: إنه في الكتاب الذي عندنا، وهذا اختيار ابن عباس، ويجوز أن يكون من صلة الخبر إنه علي حكيم عندنا ليس هو كما عند المكذبين به، أي: وإن كذبتم به وكفرتم فهو عندنا في غاية الإتقان والارتفاع، والشرف والإحكام.
وفي (الصحيحين) من حديث ابن عباس رضي الله عنهما قال: “ما رأيت شبهًا أشبه باللمم مما قال أبو هريرة, إلا النبي صلى الله عليه وسلم قال: ((إن الله كتب على ابن آدم حظه من الزنا، وأدرك ذلك لا محالةَ، فزنا العينين النظرُ، وزنا اللسان النطق، والنفس تتمنى وتشتهي، والفرج يصدق ذلك ويكذبه)), والشاهد من الحديث: ((إن الله كتب على ابن آدم حظه من الزنا)).
وفي (الصحيحين) أيضًا من حديث ابن الزناد, عن الأعرج, عن أبي هريرة رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((لما قضى الله الخلق كتب في كتابه, فهو عنده فوق العرش: إن رحمتي غلبت غضبي)).
المرتبة الثالثة: مرتبة المشيئة:
وهذه المرتبة قد دل عليها إجماع الرسل من أولهم إلى آخرهم، وجميع الكتب المنزلة من عند الله، والفطرة التي فطر الله عليها خلقه، وأدلة العقول والعيان تدل عليها، وليس في الوجود موجبٌ ومقتضٍ إلا مشيئة الله وحده دون سواه، فما شاء كان وما لم يشأ لم يكن، فلا حركة ولا سكون في هذا الكون إلا بمشيئته سبحانه دون سواه، ولا يكون ولا يقع في مُلكه إلا ما يريد، وهذا هو عموم التوحيد الذي لا يقوم إلا به، والمسلمون من أولهم إلى آخرهم مجمعون على أنه ما شاء كان, وما لم يشأ لم يكن.
وخالفهم في ذلك مَن خالف الرسل, وسلك طريق أهل الضلال ممن نفوا مشيئة الله سبحانه وتعالى بالكلية؛ كالفلاسفة وأتباعهم، أو مَن نَفَى مشيئته في أفعال العباد كالمعتزلة القدرية الذين قالوا بأن الله سبحانه وتعالى لم يشأ أفعال العباد؛ لشُبه قامت في أذهانهم.
والقرآن الكريم, والسنة المطهرة أثبتَا مشيئةَ الله الكاملة الشاملة العامة المطلقة؛ فمثلًا قول الله -تبارك وتعالى-: {وَلَوْ شَاء اللّهُ مَا اقْتَتَلَ الَّذِينَ مِن بَعْدِهِم مِّن بَعْدِ مَا جَاءتْهُمُ الْبَيِّنَاتُ وَلَـكِنِ اخْتَلَفُواْ فَمِنْهُم مَّنْ آمَنَ وَمِنْهُم مَّن كَفَرَ وَلَوْ شَاء اللّهُ مَا اقْتَتَلُواْ وَلَـكِنَّ اللّهَ يَفْعَلُ مَا يُرِيد} [البقرة: 253] فهذه آية واحدة ذُكرت فيها المشيئة مرتين: {وَلَوْ شَاء اللّهُ مَا اقْتَتَلَ الَّذِينَ مِن بَعْدِهِم} وبعدها: {وَلَوْ شَاء اللّهُ مَا اقْتَتَلَ}, وقال الله تعالى أيضًا: {كَذَلِكَ اللّهُ يَفْعَلُ مَا يَشَاء} [آل عمران: 40] وقال سبحانه: {وَلَوْ شَاء اللّهُ لَجَمَعَهُمْ عَلَى الْهُدَى} [الأنعام: 35].
كما أخبر سبحانه وتعالى عن أنبيائه ورسله أنهم كانوا يقرون لربهم بهذه المشيئة؛ فنوح عليه السلام يقول لقومه: {إِنَّمَا يَأْتِيكُم بِهِ اللّهُ إِن شَاء} [هود: 33] وإمام الحنفاء وأبو الأنبياء خليل الرحمن إبراهيم عليه السلام يقول لقومه: {وَلاَ أَخَافُ مَا تُشْرِكُونَ بِهِ إِلاَّ أَن يَشَاء رَبِّي شَيْئًا وَسِعَ رَبِّي كُلَّ شَيْءٍ عِلْمًا} [الأنعام: 80] وقال الذبيح إسماعيل لأبيه مثبتًا مشيئة الله عز وجل: {سَتَجِدُنِي إِن شَاء اللَّهُ مِنَ الصَّابِرِين} [الصافات: 102] وقال خطيب الأنبياء شعيب لقومه: {وَمَا يَكُونُ لَنَا أَن نَّعُودَ فِيهَا إِلاَّ أَن يَشَاء اللّهُ رَبُّنَا وَسِعَ رَبُّنَا كُلَّ شَيْءٍ عِلْمًا عَلَى اللّهِ تَوَكَّلْنَا} [الأعراف: 89] وقال يوسف الصديق عليه السلام لأبيه وإخوته: {ادْخُلُواْ مِصْرَ إِن شَاء اللّهُ آمِنِين} [يوسف: 99], وقال قوم موسى له: {وَإِنَّآ إِن شَاء اللَّهُ لَمُهْتَدُون} [البقرة: 70], وقال رب العزة والجلال لسيد ولد آدم وأكرمهم عليه, خاتم الأنبياء والمرسلين محمد بن عبد الله -صلى الله عليه وعلى آله وسلم-: {وَلاَ تَقُولَنَّ لِشَيْءٍ إِنِّي فَاعِلٌ ذَلِكَ غَدًا * إِلاَّ أَن يَشَاء اللَّهُ} [الكهف: 23، 24].
وهذه الآيات كلها تثبت مشيئة الله عز وجل, وتتضمن أيضًا الرد على طائفتي الضلال نُفاة المشيئة بالكلية، وهم الفلاسفة ومَن تبعهم على ذلك، ونفاة مشيئة أفعال العباد وحركاتهم وهداهم وضلالهم، وهؤلاء هم القدرية المعتزلة.
وهو سبحانه وتعالى تارةً يخبر أن ما في الكون بمشيئته، وتارة يخبر أن ما لم يشأ لم يكن، وتارة يخبر أنه لو شاء لكان خلاف الواقع، وأنه لو شاء لكان خلاف القدر الذي قدره وكتبه، وأنه لو شاء ما عُصِيَ، وأنه لو شاء لجمع خلقه على الهدى وجعلهم أمة واحدة، وقد تضمن كل ذلك أن كل واقع إنما هو بمشيئته سبحانه, وأن ما لم يقع فهو لعدم مشيئته، وهذا هو حقيقة الربوبية، وهو معنى كونه “رب العالمين” وكونه القيوم القائم بتدبير عباده؛ فلا خلق ولا رزق، ولا عطاء ولا منع، ولا قبض ولا بسط، ولا موت ولا حياة، ولا إضلال ولا هدى، ولا سعادة ولا شقاوة، إلا بعد إذنه، وكل ذلك بمشيئته وتكوينه، إذ لا مالكَ غيره، ولا مدبر سواه، ولا رب غيره سبحانه.
وكما دلت الآيات القرآنية السابقة على ذلك، دلت أيضًا الأحاديث الصحيحة على ذلك؛ فقد أثبتت الأحاديث الواردة عن النبي صلى الله عليه وسلم أن كل شيء وُجد في هذا الكون, أو يوجد إنما هو بمشيئة الله سبحانه وتعالى وحده دون سواه.
ففي (صحيح البخاري) من حديث أبي موسى, عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: ((اشفعوا تؤجروا، ويقضي الله على لسان نبيه ما يشاء)), وفي (صحيح البخاري) أيضًا من حديث علي بن أبي طالب رضي الله عنه, حين طرقه النبي صلى الله عليه وسلم وفاطمة ليلًا، وقال لهما صلى الله عليه وسلم: ((ألا تصليان؟ فقال علي: إنما أنفسنا بيد الله، فإذا شاء أن يبعثنا بعثنا)) والشاهد: ((فإذا شاء أن يبعثنا))؛ لأن في هذا إثباتًا لمشيئة لله عز وجل.
وفي (البخاري) أيضًا في قصة نومهم في الوادي, أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: ((إن الله قبض أرواحكم حين شاء، وردّها حين شاء)) وهذا جزء من حديث طويل رواه البخاري في كتاب (التوحيد) من صحيحه، تحت باب في المشيئة والإرادة: {وَمَا تَشَاؤُونَ إِلاَّ أَن يَشَاء اللَّهُ} [الإنسان: 30], وهذا واضح من ترجمة الإمام البخاري -رحمه الله تعالى- لهذا الحديث بهذا القول.
وفي (صحيح مسلم) عن أبي هريرة رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((المؤمن القوي خير وأحب إلى الله من المؤمن الضعيف وفي كل خير، احرِصْ على ما ينفعك واستعن بالله ولا تعجز، وإن أصابك شيء فلا تقل: لو أني فعلت كان كذا وكذا، ولكن قل: قدر الله وما شاء فعل؛ فإن لو تفتح عمل الشيطان))، والشاهد من الحديث: ((ولكن قل: قدر الله وما شاء فعل)), وهذا يقال لكل مَن ندم على أمر فاته مثلًا وتمنى أن يكون غيره, وليعلم كل فرد أن كل واقع إنما هو بمشيئة الله عز وجل؛ ولذلك نجد أن النبي صلى الله عليه وسلم كان يرسخ هذا المفهوم وهذا المعنى بين أصحابه، فقال صلى الله عليه وسلم للأعرابي الذي عاده من الحمى: ((لا بأس، طَهور إن شاء الله)) وقد روى ذلك أيضًا البخاري في باب: “المشيئة والإرادة”.
هذه هي المرتبة الثالثة وهي مرتبة المشيئة، وهذه هي الأدلة عليها.
د. المرتبة الرابعة: خلق الله للأعمال وتكوينه لها، وإيجاده لها:
وهذا أيضًا أمر متفق عليه، اتفقت عليه الكتب الإلهية والفطر والعقول، وقد قررت النصوص القرآنية والنبوية هذا الأمر كذلك، وهو أن الله سبحانه وتعالى خالق كل شيء، فهو الذي خلق الخلق وكوّنهم وأوجدهم، فهو الخالق، وما سواه مربوب مخلوق، قال تعالى: {اللّهُ خَالِقُ كُلِّ شَيْءٍ} [الرعد: 16] وقال سبحانه: {إِنَّ رَبَّكَ هُوَ الْخَلاَّقُ الْعَلِيم} [الحجر: 86] وقال: {الْحَمْدُ لِلّهِ الَّذِي خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضَ وَجَعَلَ الظُّلُمَاتِ وَالنُّورَ} [الأنعام: 1] وقال سبحانه: {وَهُوَ الَّذِي خَلَقَ اللَّيْلَ وَالنَّهَارَ وَالشَّمْسَ وَالْقَمَرَ كُلٌّ فِي فَلَكٍ يَسْبَحُون} [الأنبياء: 33].
والنصوص في هذا كثيرة طيبة، وهي تدل على أن أفعال العبد لا تخرج عن غيرها من المخلوقات، فكل ما هو في الكون إنما هو بخلق الله وإيجاده لها، وقد علم الله عز وجل ما سيخلقه من عباده، وعلم ما هم فاعلون، وكتب كل ذلك في اللوح المحفوظ، وخلقهم الله كما شاء، ومضى وقدر عليهم، وقد عمل العباد على النحو الذي شاءه الله فيهم، وهدى سبحانه مَن كتب الله له السعادة وأضل من كتب عليه الشقاوة، وعلم أهل الجنة ويسرهم لعمل أهلها، وعلم أهل النار ويسرهم لعمل أهلها.
والنصوص التي سقناها الآن تكفي في الدلالة على ما ذكرناه وقررناه، ومع ذلك فهناك نصوص أخرى كثيرة أصرح في الدلالة على هذه المسألة، وهي أن الله خالق أفعال العباد.
ومن ذلك قول الله -تبارك وتعالى-: {وَاللَّهُ خَلَقَكُمْ وَمَا تَعْمَلُون} [الصافات: 96] وقال سبحانه: {وَكُلُّ شَيْءٍ فَعَلُوهُ فِي الزُّبُر}, وقال تعالى: {وَمَا تَحْمِلُ مِنْ أُنثَى وَلاَ تَضَعُ إِلاَّ بِعِلْمِهِ وَمَا يُعَمَّرُ مِن مُّعَمَّرٍ وَلاَ يُنقَصُ مِنْ عُمُرِهِ إِلاَّ فِي كِتَابٍ إِنَّ ذَلِكَ عَلَى اللَّهِ يَسِير} [فاطر: 11].
وقد جاءت أحاديث كثيرة أيضًا تواتَرَ معناها تؤيد هذه الآيات القرآنية، وتدل على أن رب العباد علم ما العباد عاملون، وقدر ذلك وقضاه وفرغ منه، وعلم ما سيصير إليه العباد من السعادة والشقاء، وقد أخبرت النصوص مع ذلك أن القدر لا يمنع من العمل، فأمر بالعمل: ((اعملوا، فكل ميسر لِمَا خلق له))، ومما يؤيد ذلك: ما رواه الإمام مسلم في صحيحه, عن جابر بن عبد الله رضي الله عنه قال: ((جاء سراقة بن مالك بن جعشم، فقال: يا رسول الله صلى الله عليه وسلم بين لنا ديننا كأنا خلقنا الآن، ففيم العمل اليوم؟ أفيما جفت به الأقلام وجرت به المقادير؟ أم فيما يستقبل؟ قال: لا، بل فيما جَفت به الأقلام وجرت به المقادير، قال: ففيم العمل؟ فقال صلى الله عليه وسلم: اعملوا، فكل ميسر)) وفي رواية: ((كل عامل ميسر لعمله)).
وقد علم الله عز وجل أهل الجنة من أهل النار؛ لأنه هو خالق أفعالهم، فقد روى البخاري عن عمران بن حصين رضي الله عنه قال: ((قال رجل: يا رسول الله، أيعرف أهل الجنة من أهل النار؟ فقال: نعم، فقال: فلِمَ يعملون؟ قال: كل يعمل لما خلق له, أو يسر له)). وروى مسلم في صحيحه, عن علي رضي الله عنه قال: ((كنا في جنازة في بقيع الغرقد، فأتانا رسول الله صلى الله عليه وسلم فقعَدَ وقعدنا حولَه ومعه مخصرة، فنكّس فجعل ينكت بمخصرته، ثم قال: ما مِن نفس منفوسة إلا وقد كتب الله مكانها من الجنة أو النار، وإلا قد كتب شقيةً أو سعيدةً، قال: فقال رجل: يا رسول الله، أفلا نمكث على كتابنا وندع العمل؟ فقال صلى الله عليه وسلم: مَن كان مِن أهل السعادة فسيصير إلى عمل أهل السعادة، ومَن كان من أهل الشقاوة فسيصير إلى عمل أهل الشقاوة، فقال: اعملوا، فكل ميسر. أما أهل السعادة فييسرون لعمل أهل السعادة، وأما أهلُ الشقاوة فييسرون لعمل أهل الشقاوة. ثم قرأ: {فَأَمَّا مَن أَعْطَى وَاتَّقَى * وَصَدَّقَ بِالْحُسْنَى * فَسَنُيَسِّرُهُ لِلْيُسْرَى * وَأَمَّا مَن بَخِلَ وَاسْتَغْنَى * وَكَذَّبَ بِالْحُسْنَى * فَسَنُيَسِّرُهُ لِلْعُسْرَى} [الليل: 5- 10].