Top
Image Alt

معنى كلمتي: “تاريخ” و”تأريخ”، واستعمالهما عند المسلمين

  /  معنى كلمتي: “تاريخ” و”تأريخ”، واستعمالهما عند المسلمين

معنى كلمتي: “تاريخ” و”تأريخ”، واستعمالهما عند المسلمين

الحمد لله، والصلاة والسلام على رسول الله، وعلى آله وصحبه أجمعين، أما بعد:

فسوف نتعرض لعلم التاريخ والمؤرخين بداية، ثم نتعرض بعد ذلك إلى الموضوعات المتعلقة بتاريخ الخلفاء الراشدين.

معنى كلمتي “تاريخ” و”تأريخ” واستعمالهما:

هناك فرق كبير بين لفظتي “تاريخ” و”تأريخ”، فالأولى بالألف اللينة وبدون همزٍ على الألف، والثانية بهمزٍ على الألف. هذا من حيث اللفظ والكتابة فقط.

ومن حيث اللغة: فإن معنى هذه الكلمات يدور في الإعلام بالوقت.

أما من حيث المعنى الاصطلاحي: فسنجد أنَّ “تأريخ” تطلق على دراسة الماضي، أما “تاريخ” فتطلق على الماضي نفسه.

فالتاريخ -باختصار شديد- إذا كان حدثًا في زمان؛ فإن دراسة الحدث في هذا الزمان هي “التأريخ”، أما ماهية الحدث نفسه فهي “التاريخ”.

ومن يراجع مصادرنا القديمة الإسلامية؛ فسوف يفاجأ بأن علماء الإسلام اختلفوا اختلافًا كبيرًا في تعريف التاريخ؛ وما ذلك إلا لسعة الموضوعات التي يمكن أن تدخل في هذا التعريف، ومن ثم حدث هذا الاختلاف.

سنجد أنَّ علماء الإسلام لم يدونوا تعريفًا كاملًا ومدونًا ومحددًا لعلم التاريخ طوال القرون الثلاثة الأولى من الهجرة النبوية، وسوف نعرض لأهم التعريفات التي ذكرها علماء الإسلام وهم يتناولون قضية “تعريف علم التاريخ”.

نبدأ بالسخاوي الذي قال في تعريفه لعلم التاريخ: إنَّ التاريخ فنٌّ يُبحَث فيه عن وقائع الزمان من حيث التعيين والتوقيت.

من الواضح أنه يهتم بالحدث؛ “وقائع الزمان” يعني: الحدث، ومعنى ذلك: يبحث عن الحدث في إطار الزمان من حيث التعيين والتوقيت.

أما الجَبرْتي فعرفه بقوله: علم يبحث فيه عن معرفة أحوال الطوائف وبلدانهم ورسومهم وعاداتهم وصنائعهم وأنسابهم ووفياتهم.

أما التاريخ عند ابن خلدون -وهو المتوفى في السنة التاسعة بعد المائة الثامنة من الهجرة النبوية، فهو يقول في تعريفه: أنه خبر عن الاجتماع الإنساني الذي هو عمران العالم، وما يعرض لطبيعة ذلك العمران من أحوال مثل: التوحش أو العصبيات وأصناف التقلبات للبشر بعضهم مع بعض، وما ينشأ عن ذلك من الملك والدول ومراتبها، وما ينحله البشر بأعمالهم ومساعيهم من الكسب والمعاش والعلوم والصنائع… وسائر ما يُحدِث في ذلك العمران بطبيعته من الأحوال.

الناظر في تعريف ابن خلدون يستطيع أن يتبين أن ابن خلدون أوجد للتاريخ أكثر من جانب: جانب ظاهري، وآخر باطني:

الجانب الأول الظاهري: نستطيع أن نعتبره الجانب النظري، وهو لا يعدو أن يكون مجرد إخبار عن الأيام والدول القديمة والأمم الهالكة.

الجانب الثاني الباطني: يعتبره ابن خلدون نظرًا وتحقيقًا، وتعليلًا دقيقًا للكائنات ومبادئها، ومن ثم فهو يطلعنا على أسباب الوقائع والأحداث وكيفية حدوثها.

وهذا الحديث الذي سبق به ابن خلدون الأوربيين، يدحض ما جاء في كتابات العرب نقلًا عن الرؤية الأوربية من أن لفظة “تأريخ” عند العرب لا تطابق كلمة “History” عند الأوربيين؛ فالقضايا الفلسفية التحليلية الواردة بفكرة التاريخ -في نظرهما- هي من تطورات الفلسفة الحديثة، وهي تختلف كلية عن مفهوم التاريخ عند العرب.

ولا بد لنا هنا من وقفة؛ لنبين أن هؤلاء الذين تربوا على موائد الكتابة الغربية، وتأثروا بذلك الفكر الغربي عادة ما يجردون كل الحضارة الإسلامية من معطياتها ومن صورها ومن محتواها؛ ومن ثمَّ فإنهم ينسبون كل ما هو متقدم وكل ما هو حضاري وكل ما هو علمي لحضارة الغرب الأوربي، متنكرين لفضل الحضارة الإسلامية وعلماء الحضارة الإسلامية.

وها نحن أمام قضية واضحة، وهي القضية التي تدور في إطار علم التاريخ، والتعريف الذي ساقه ابن خلدون لهذا التعريف.

والحقيقة أنَّ الكاتبين لهذا الحكم يرجعان الفلسفة والتحليل التاريخي إلى النتاج الأوربي الحديث، ويغفلان دور العرب تمامًا؛ ولا سيما أن ابن خلدون الذي ذكر -كما قدمنا- أنَّ للتاريخ في جانبه الباطني نظر وتحقيق وتعليل دقيق للكائنات ومبادئها، هو يطلعنا على أسباب الوقائع والأحداث وكيفية حدوثها، وهذا يؤكد على أنَّ ابن خلدون قد وعيَ هذا الجانب ولم يغفله، وأنه أدى هذا الدور قبل الأوربيين بقرون عديدة؛ فكما ذكرت: ابن خلدون توفي في السنة التاسعة بعد المائة الثامنة من الهجرة النبوية، وهذا معناه: أنه سبق الحضارة الأوربية بقرون عديدة في نظرته للتاريخ بهذه الصورة، التي تحوي الجانب النظري والجانب التطبيقي والتحليلي والفلسفي والعملي -إن صح التعبير.

وإذا كان ما سبق هو الحديث عن التاريخ وتعريفه؛ فنريد أن نتساءل: هل هناك تعريفات أخرى للتأريخ؟

من البديهي أنَّ العلوم تصنف ويكتب فيها لفائدة البشر وإعمار الدنيا، وإذا كان هناك -فرضًا- نوعًا من العلوم يشذ عن هذه القاعدة، ولا يتم استثماره لصالح البشرية؛ فهو من قبيل العبث؛ بل إن التاريخ -كعلم من علوم المعرفة- إن لم نستثمره فيما يعود على البشرية بالخير والفائدة؛ فهو -في نظري- أيضًا عبث في عبث -بهذه الصورة؛ ولذلك نريد أن نضع تعريفًا نستطيع من خلاله أن نتبين معنى كلمة “التأريخ” في ضوء الاستفادة بهذا العلم، وتفعيل هذا العلم، واستعمال هذا العلم سواء بالنسبة للتاريخ الإسلامي أو غيره -إن أريد له ذلك.

فالتأريخ: “هو معرفة الماضي لتفسير الحاضر وإنارة الطريق إلى المستقبل”، وهو بذلك يكون نافعًا ويؤدي غرضًا ضروريًّا من ضروريات الحياة.

وإذا نظرنا إلى ذلك التعريف للتأريخ وحاولنا أن نعمل عقولنا فيه؛ فسنجد أنَّ التعريف بهذه الصورة يجمع بين توضيح ماهية التاريخ في مقولة: “معرفة الماضي”.

أما بالنسبة لنقطة عمله وأهميته؛ فيكمن ذلك -من خلال هذا التعريف أيضًا- في مقولة: “لتفسير الحاضر وإنارة الطريق إلى المستقبل”.

يسأل سائل فيقول: هذا تعريفٌ أصم جامد -إن صح التعبير- كيف يمكننا أن نطبق مثل هذا التعريف على أحداث التاريخ؟ هل هناك من أمثلة نستطيع أن نضربها لنتعرف معنى هذا التاريخ؟. وأستطيع أن أضرب مثالًا سهلًا وبسيطًا، وهذا المثال يدور حول اليهود وعقد الاتفاقات والمعاهدات معهم:

الواقع أنَّ معطيات التأريخ تقول: إنَّ اليهود ما حافظوا يومًا على عهودهم قط، ودائمًا نجدهم ينقضون تلك العهود، ومن يعود إلى أحداث السيرة سوف يرى أن نقضهم لعهودهم كان سببًا رئيسًا في إخراجهم من المدينة المنورة؛ بل نستطيع أن نقول: إنَّ إخراجهم من مناطق كثيرة في الجزيرة العربية ما كان إلا لنقضهم لعهودهم، كما حدث مع بني قريظة وبني النضير وبني قينقاع… إلى آخره.

ومن هذا المنطلق ومن خلال هذا التعريف أقول: كان من الواجب أن نتبين ذلك ونحن نعقد الاتفاقات مع اليهود في عصورنا الحديثة.

وما قام به الإخوة الفلسطينيين من عقد اتفاقات معهم يتبين لنا: أنَّ هذه الاتفاقات لم يحاول اليهود -على الإطلاق- أن يوفوا بها أو أن يقوموا عليها، أو أن يلتزموا بما ورد فيها. ومن ثم فإنَّ معطيات التأريخ لو استطعنا أن ننتفع بها لكان علينا أن نأخذ هذه القاعدة الذهبية من معرفتنا من أحداث الماضي، كما نقول: “معرفة الماضي الآن” و”تفسير الحاضر” و”إنارة الطريق إلى المستقبل”، لو أننا من خلال معرفة الماضي: ماضي اليهود وعلاقاتهم برسول الله صلى الله عليه  وسلم، ونقضهم لعهودهم واتفاقاتهم وما جرى لهم من خلال ذلك، وقمنا بتفسير ذلك في ضوء الحاضر الذي نعيشه، ونظرنا نظرة مستقبلية؛ لكان لنا موقفٌ آخر في تلك الاتفاقات والعهود التي نرتبط بها مع اليهود.

error: النص محمي !!