Top
Image Alt

معنى كون القياس ناسخًا، وآراء العلماء في النسخ بالقياس

  /  معنى كون القياس ناسخًا، وآراء العلماء في النسخ بالقياس

معنى كون القياس ناسخًا، وآراء العلماء في النسخ بالقياس

اختلف أهل العلم: هل يكون القياس منسوخًا؟ يعني: يرد على القياس ما ينسخه ويبطل حكمه أو لا؟
اختلف العلماء في ذلك على مذاهب:
المذهب الأول:
قال: إن كانت علة القياس منصوصًا عليها من الشارع، فيجوز أن يكون الحكم الثابت بالقياس منسوخًا؛ لأنه في معنى النص وهذا يجوز نسخه بنص أو بقياس في معناه، وعلى ذلك فالحكم الثابت بالقياس إما أن يكون منصوصًا على علته أو لا، فإن كان الشارع قد نص على علته كان ذلك القياس كالنص فيكون ناسخًا ومنسوخًا كما أن النص كذلك يكون ناسخًا ومنسوخًا؛ لأن القياس لا بد وأن يستند إلى نص، فإذا كانت علة القياس منصوصًا عليها في ذلك صار حكم القياس منصوصًا عليه بواسطة القياس فيكون نصًّا يصح أن يكون ناسخًا ومنسوخًا.
ومعنى العلة المنصوصة هي العلة التي نص الشارع عليها كقول الله تعالى: { مِنْ أَجْلِ ذَلِكَ كَتَبْنَا عَلَى بَنِي إِسْرَائِيلَ أَنَّهُ مَنْ قَتَلَ نَفْسًا بِغَيْرِ نَفْسٍ أَوْ فَسَادٍ فِي الْأَرْضِ فَكَأَنَّمَا قَتَلَ النَّاسَ جَمِيعًا وَمَنْ أَحْيَاهَا فَكَأَنَّمَا أَحْيَا النَّاسَ جَمِيعًا} [المائدة: 32]، ومثل قول النبي صلى الله عليه وسلم ((إنما جعل الاستئذان من أجل البصر)) إلى غير ذلك من الأمثلة.
فالقياس حينئذٍ يجوز أن ينسخ وأن ينسخ به لأنه كالنص تمامًا بتمام، بقي لنا أن نمثل لكم لهذا القياس المنصوص على علته، في الحقيقة أن العلماء ذكروا أمثلة افتراضية، ولعلنا نذكر لكم مثالًا شرعيًّا قريبًا يبين المعنى.
أما المثال الافتراضي الأول لو قال الشارع مثلًا: حرمت الخمر المتخذ من العنب لكونه مسكرًا فلا شك أن هذا فيه نصًّا على العلة لقوله: كونه مسكرًا؛ فإذا قسنا عليه نبيذ التمر المسكر في التحريم كان تحريم هذا النبيذ حكمًا منصوصًا على علته؛ لأن الشارع قال في البداية: لكونه مسكرًا؛ هذا نصًّا على العلة، حتى كأنه قال: حرمت نبيذ التمر المسكر، فإذا قسنا على نبيذ العنب نبيذ التمر المسكر في التحريم كان تحريم النبيذ حكمًا منصوصًا على علته، وحينئذٍ يكون نبيذ التمر مقيسًا على نبيذ العنب.
فلو فرض أن الشرع قال: أبحت نبيذ الذرة المسكر، يعني: لو أن الناس اتخذوا من الذرة نبيذًا فسار مسكرًا فلو فرض أن الشرع قال: أبحت نبيذ الذرة المسكر جاز أن يكون النبيذ التمر المسكر. هذا إذا كانت علة القياس منصوصًا عليها من قبل الشارع، وأما إذا لم يكن الحكم الثابت بالقياس منصوصًا على علته لم يجز أن يكون ناسخًا ولا منسوخًا؛ لأن العلة إذا لم تكن منصوصة فهي ماذا؟ فهي مستنبطة واستنباطها يكون باجتهاد المجتهد واجتهاد المجتهد عرضة للخطأ فلا يقوى حينئذ على رفع الحكم الشرعي، بخلاف النص على العلة؛ فإنه بحكم الشارع المعصوم من الخطأ فهو يقوى على ذلك؛ فإذا قسنا مثلًا الذرة على البر والشعير في تحريم التفاضل بجامع الكيل بناءً على أنه العلة فيهما من المعلوم أنه يحرم التفاضل في الأصناف الأربعة التي ذكرها النبي صلى الله عليه وسلم: ((البر بالبر والشعير بالشعير والتمر بالتمر والملح بالملح)).
فكأن البر أي القمح والشعير منصوص على حرمة التفاضل فيهما، فلو قسنا الذرة على البر أو على الشعير في حرمة التفاضل، ما هي العلة؟
المجتهد الآن سيجتهد ليتوصل إلى علة جامعة بين الأمرين، فلو قال: العلة بين الذرة وبين البر هي الكيل، ثم قال الشارع: مثلًا أبحت التفاضل في السمسم لم يجز لنا أن نجعل الإباحة في السمسم ناسخة للتحريم في الذرة نحن توصلنا من قياس الذرة على البر بحرمة التفاضل في الذرة، فلو فرضنا أن الشارع قال: أبحت التفاضل في السمسم، فصار عندي إباحة للتفاضل في السمسم وحرمة للتفاضل في الذرة التي ثبتت في القياس والقياسان الآن متضادان.
فهل أحدهما ينسخ الآخر أو لا؟ على هذا المذهب الأول، قال: لم يجز لنا أن نجعل الإباحة في السمسم ناسخة للتحريم في الذرة ولا التحريم في الذرة ناسخًا للإباحة في السمسم لماذا؟ لأن النسخ لا بد فيه من تضاد الناسخ والمنسوخ ونحن لا نعلم أن إباحة التفاضل في السمسم وتحريمها في الذرة متضادان لجواز عدم اختلاف العلة فيهما، المجتهد قال: العلة هي الكيل يجوز أن تكون العلة غير الكيل، تكون الوزن أو تكون الادخار أو تكون الاقتيات أو تكون الطعم أو تكون أي شيء غير الكيل، أو كون الحكم في أحدهما أو في البر غير معلق فحينئذٍ ينتفي التضاد وبنفي التضاد ينتفي النسخ.
هذا حاصل المذهب الأول في المسألة وهو أن العلة إن كانت منصوصًا عليها صح نسخ القياس والنسخ به، وإن كانت مستنبطة فلا يصح نسخ القياس ولا النسخ به، ولنذكر الآن مثالًا شرعيًّا قد يكون قريبًا من الموضوع عن أبي هريرة رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((من نسي وهو صائم فأكل أو شرب فليتم صومه فإنما أطعمه الله وسقاه)) حديث متفق عليه، وفي رواية عن الحاكم ((من أفطر في رمضان ناسيًا فلا قضاء عليه ولا كفارة)).
فالحديث دل على أن الصائم إذا أكل أو شرب ناسيًا فإنه لا يفطر ولا يقضي وهذا قول أكثر أهل العلم، وقال بعض العلماء: إنه يفطر ويقضي وما دليل هذا الرأي الثاني؟ قالوا: قياسًا تأمل إلى المثال، قالوا: قياسًا على من نسى ركنًا من أركان الصلاة فإنه يجب عليه الإعادة ولو كان ناسيًا هب أنك نسيت ركنًا من أركان الصلاة فما حكم الصلاة؟ الصلاة في هذه الحالة يجب إعادتها ولو كنت ناسيًا.
وأهل الرأي الثاني تأولوا الحديث بتأويلات مذكورة في كتب شروح الحديث، فنحن إذا تأملنا هذا المثال عرفنا أنه اشتمل على نصٍ وقياس، انظر إلى التضاد والتعارض الذي من أجله نقول: بأن القياس ناسخ أو ليس ناسخًا، فإذا تأملت هذا المثال عرفت أنه اشتمل على نص وقياس، أما النص فقد دل على ما ذكرناه في المثال وهو أن من أكل أو شرب ناسيًا فليتم صومه، ولا شيء عليه، وأما القياس قياس الصوم على الصلاة، فمثل: لو نسيت ركنًا من الصلاة يجب الإعادة؛ أو نسيت في الصوم وأكلت وشربت يجب إعادة الصوم فصار عندي نص وقياس وكلاهما متصادمان أو متضادان، فهل يكون القياس منسوخًا أو ناسخًا؟
هذا مثال لعله يكون قريب من توضيح مسألتنا هذه، والله تعالى أعلم بهذا أو بصحة هذا التمثيل، لكنه مثال تقريبي حتى لا نقف عند افتراضات العلماء، وعلينا أن نربط الكلام بالنصوص الشرعية، إذًا ما هو المذهب الثاني في مسألتنا؟
المذهب الثاني: أنه إذا كان القياس موجودًا في زمن النبي صلى الله عليه وسلم فيجوز نسخه، حيث إن زمن النبي صلى الله عليه وسلم هو زمن نزول النصوص، وهو في هذه الحالة لم ينته يعني نزول النصوص لم تنته، فكأن المذهب الثاني فرق بين نسخ القياس في زمن النبي صلى الله عليه وسلم ونسخ القياس بعد وفاة النبي صلى الله عليه وسلم، فقال: إن كان القياس موجودًا في زمن النبي، فيجوز نسخه حيث إن زمن نزول النصوص لم ينته؛ لأن الوحي يتنزل على الرسول صلى الله عليه وسلم في حياته وإن كان القياس موجودًا بعد وفاته صلى الله عليه وسلم فما الحكم؟
قالوا: لا يصح نسخه؛ لأنه لا يجوز أن يتجدد بعد وفاة النبي صلى الله عليه وسلم نص من كتاب أو سنة فيقاس عليها ولا علة، فإن بان نص كان قد خفي أو علة خفيت هي أولى من القياس بان أن القياس لم يكن صحيحًا ولا يسمى ذلك نسخًا وهذا المذهب ذكره أبو الخطاب الحنبلي في كتابه (التمهيد).
فكأن المذهب الثاني فرق بين زمن النبي صلى الله عليه وسلم وبعد زمن النبي صلى الله عليه وسلم فقال: القياس الموجود في زمن النبي يجوز نسخه؛ لأن الوحي لا زال يتنزل، وإن كان بعد وفاة النبي صلى الله عليه وسلم لا يصح نسخه ولا يجوز؛ لأنه لا يجوز أن يتجدد بعد وفاة النبي صلى الله عليه وسلم نصٌّ من كتاب أو سنة.
أما المذهب الثالث في المسألة: فقال أصحابه: القياس إنما ينسخ بقياس أجلى منه قياس أجلى، وقد بينت لكم القياس الأجلى، وهو نوع من أنواع القياس القطعي قياس أجلى يعني العلة في الفرع واضحة وجلية وضوحًا تامًّا عنه في الأصل.
مثل: ضرب الوالدين، لو سألتك: ما حكم ضرب الوالدين؟ لا شك أنك ستقول: حرام قطعًا، أقول لك: وما الدليل؟ تقول: قياس ضرب الوالدين على تأفيفهما والشارع الحكيم قد نهى عن تأفيف الوالدين فقال: { فَلَا تَقُلْ لَهُمَا أُفٍّ} [الإسراء: 23] فضرب الوالدين يكون حرام قياسًا على التأفيف بعلة الإيذاء، وعلة الإيذاء موجودة في الضرب بدرجة أشد منها في التأفيف.
فالقياس الجلي عند أصحاب المذهب الثالث ينسخ القياس الخفي، وهذا المذهب اختاره الشيخ ناصر الدين البيضاوي من علماء الشافعية وله كتاب (منهاج الوصول إلى علم الأصول) في أصول الفقه، ووافق عليه الشيخ الإسناوي وهو من شراح كتاب (منهاج البيضاوي) وبيان هذا المذهب أن القياس ينسخ بالقياس الأجلى فقط، ولا ينسخ بالنص ولا بالإجماع ولا بالقياس الأخفى، ولا بالقياس المساوي، وقد بينتُ أن القياس قد يكون قياس مساو، وقد يكون قياس أدنى، وقد يكون قياس أجلى.
فأصحاب المذهب الثالث يرون أن القياس يصح نسخه بقياس أجلى أما نسخه بالنص فلا، وأما نسخه بالإجماع فلا، وأما نسخه بقياس أخفى منه فلا، وأما نسخه بقياس مساو له فلا، قلنا: فسروا لنا هذا الكلام فقالوا: أما كونه لا ينسخ بالنص ولا بالإجماع؛ فذلك لأن شرط العمل بالقياس ألا يوجد ما يخالفه من نص أو إجماع، وهذا من الأمور المقررة أن القياس لا يعمل به ولا يلجأ إليه إذا كان متضاربًا أو متعارضًا أو متضادًّا مع نص أو إجماع، لذلك يقولون: لا اجتهاد مع النص، يعني: لا قياس مع النص، أي الذي دلالته واضحة دلالة قطعية، فقالوا: لا ينسخ بالنص ولا بالإجماع؛ لأن شرط العمل بالقياس ألا يوجد ما يخالفه من نص أو إجماع.
أما كونه يعني: القياس لا ينسخ بالقياس المساوي؛ فلأن ذلك يؤدي إلى ترجيح أحد المتساويين يعني على الآخر بدون مرجح وهو باطل، هذه من الأمور المقررة والبدهية أن الترجيح بدون مرجح أمرٌ باطل، فعندي قياس وهما في درجة واحدة قياس مساو لقياس آخر، فلو نسخت أحد القياسين بالآخر يعترض عليك ما الذي دعاك أن ترجح أو تقدم هذا القياس على الآخر ولماذا لم تقدم الآخر على هذا؟ هذا ما يسميه أهل العلم الترجيح بدون مرجح والترجيح بدون مرجح باطل.
إذا ثبت الآن أن القياس لا ينسخ بنص ولا بإجماع لأن شرط العمل بالقياس ألا يوجد ما يخالفه من نص ولا إجماع، وثبت كذلك أن القياس لا ينسخ بقياس مساو؛ لأن ذلك يؤدي إلى ترجيح أحد المتساويين على الآخر بدون مرجح وهو باطل، أما كونه لا ينسخ بالقياس الأخفى قياس خفي؛ يعني القياس إما جلي أو خفي، أما كون القياس لا ينسخ بقياس أخفى قالوا: لأن ذلك يؤدي إلى العمل بالمرجوح وترك الراجح وهو أيضًا باطل، فترجيح الترجيح بدون مرجح باطل.
والعمل بالمرجوح وترك الراجح كذلك باطل، فعند تقديم القياس الأخفى، وعند تقديم القياس المساوي تقديمًا أو ترجيحيًّا بدون مرجح وهو كذلك باطل، فثبت من كل هذا أن القياس ينسخ بالقياس الأجلى فقط، وقد مثلت لكم للقياس الأجلى بعدة أمثلة، هذا حاصل المذهب الثالث في المسألة: وهو اختيار الشيخ البيضاوي وتبعه عليه الإسناوي وحاصله أن القياس ينسخ بالقياس الأجلى ولا ينسخ بالنص ولا بالإجماع ولا بالقياس المساوي ولا بالقياس الأخفى.
المذهب الرابع: أنه لا يجوز نسخ القياس مطلقًا، ومعنى مطلقًا سواء كان جليًّا أو خفيًّا، وهذا المذهب اختاره القاضي أبو يعلى في كتابه (العدة) وقال أصحاب هذا المذهب: في تعليل أن القياس لا يجوز نسخه مطلقًا يعني لا بنص ولا بإجماع، ولا بقياس أخفى ولا بقياس مساو، ولا بقياس أجلى ولا غيره قالوا: لأن القياس يستنبط من أصل فلا يصح نسخه مع بقاء الأصل المستنبط منه.
والأصل باق، فكان القياس باق ببقائه حيث لا يتصور رفع حكمه مع بقاء أصله، مرة ثانية: مذهب بالقاضي أبي يعلى يرى القاضي أبو يعلى أنه لا يجوز نسخ القياس مطلقًا لا بقياس جلي، ولا بقياس خفي؛ لأن القياس مستنبط من أصل، أي قياس لا بد له من أصل والأصل هذا ثبت حكمه بماذا؟ بالنص قالوا: فإذا كان القياس يستنبط من أصل فلا يصح نسخ هذا القياس مع بقاء الأصل المستنبط منه؛ لأن الأصلَ موجود لا زال والأصل باق فكان القياس باق ببقائه حيث لا يتصور رفع حكمه مع بقاء أصله.
آراء العلماء في النسخ بالقياس:
يعني: هل يكون القياس ناسخًا؟ أو هل حكم القياس ينسخ غيره أو لا ؟ نقول:
اختلف أهل العلم في النسخ بالقياس على مذاهب:
المذهب الأول: قال أصحابه: لا يجوز أن يكون القياس ناسخًا لغيره مطلقًا، يعني: لا يصلح أن يكون ناسخًا لدليل غيره، سواء كان هذا الدليل نصًّا أو إجماعًا، وسواء كان القياس هذا الذي نريده أن يكون ناسخًا قياسًا جليًّا، أو قياسًا خفيًّا، وهذا المذهب قول جمهور العلماء، لذلك قال الغزالي -رحمه الله- في كتابه (المستصفى): “لا يجوز نسخ النص القاطع المتواتر بالقياس المعلوم بالظن، والاجتهاد على اختلاف مراتبه جليًّا كان أو خفيًّا هذا ما قطع به الجمهور”. انتهى كلام الغزالي.
المذهب الثاني: يرى أصحابه أنه يجوز أن يكون القياس ناسخًا لغيره مطلقًا جليًّا كان أو خفيًّا، فالمذهب الثاني على النقيض تمامًا من المذهب الأول، المذهب الأول يرى أن القياس لا يكون ناسخًا لغيره، المذهب الثاني قال: القياس يكون ناسخًا لغيره مطلقًا جليًّا كان أو خفيًّا.
المذهب الثالث في المسألة: وعليه اقتصر الآمدي في الإحكام فرق بين القياس الجلي وبين القياس الخفي، فإن القياس إن كان خفيًّا لا يجوز أن يكون ناسخًا لغيره وإن كان القياس جليًّا يعني واضحًا أو في معنى النص جاز أن يكون ناسخًا للنص أو لقياس آخر، ولذلك المختار عند الآمدي أنه إن كانت العلة الجامعة في القياس منصوصة فهي في معنى النص فيصح النسخ به.
وإن كانت العلة مستنبطة بنظر المجتهد، فإما أن يكون القياس قطعيًّا أو ظنيًّا، فإن كان القياس قطعيًّا وقد عرفنا لكم القياس القطعي قبل ذلك، فإنه وإن كان مانعًا من إثبات حكم دليل آخر سواء كان نصًّا أو قياسًا فلا يكون ذلك نسخًا، وإن كان في معنى النسخ لكونه ليس بخطاب، والنسخ كما هو معلوم هو الخطاب الدال على ارتفاع حكم خطاب سابق قال: وإن كان القياس ظنيًّا فيمتنع أن يكون ناسخًا، لماذا؟
قال: لأن المنسوخ حكمه إما أن يكون نصًّا أو إجماعًا أو قياسًا يعني الذي ينسخه القياس واحد من ثلاث، إما أن ينسخ نصًّا وإما أن ينسخ إجماعًا، وإما أن ينسخ قياسًا، أما نسخ النص والإجماع فمحال، وإن كان النص والإجماع خاصًّا لكون النص الخاص والإجماع الخاص مقدمًا على القياس بالاتفاق.
ولو تعارض القياس والإجماع فالمقدم هو الإجماع، وإذا كان الإجماع عامًّا قال: فلا ينسخه القياس أيضًا؛ لأن القياس ليس بخطاب شرعي والناسخ لا بد أن يكون خطابًا شرعيًّا كما تقدم.
القياس هو فعل المجتهد، فمثلًا العلماء مختلفون في حرمة التفاضل في الأصناف الأربعة البر والشعير والتمر والملح ما هي؟ فبعضهم يقول: هي الكيل، وبعضهم يقول: هي الطعم، وبعضهم يقول: الاقتيات، وبعضهم يقول: الادخار وهكذا…
إذًا في القياس في الواقع هو نفس الأمر إذا كانت علته مستنبطة فلا نستطيع أن نقول: إنه خطاب شرعي، ومعلوم أن النسخ لا يكون إلا بخطاب شرعي، قالوا: وإن كان قياسًا فلا بد وأن يكون القياس الثاني راجحًا على القياس الأول، يعني: لو كان المنسوخ قياسًا فلا بد وأن يكون القياس الثاني راجحًا على الأول حتى تنسخه، لو عندنا قياسان متعارضان فالقياس الثاني لكي يكون ناسخًا للأول لا بد وأن يكون راجحًا على الأول، لأن لو كان مساوٍ له يبقى ترجيح بدون مرجح، ولو كان أقل منه يبقى العمل بالمرجوح، والعمل بالمرجوح باطل والترجيح بدون مرجح كذلك باطل، ولذلك قالوا: وإن كان يعني المنسوخ قياسًا فلا بد وأن يكون القياس الثاني -يعني الناسخ- راجحًا على القياس الأول.
هذا حاصل ما ذكره الشيخ الآمدي -رحمه الله- في كتابه (الإحكام في أصول الأحكام).
والعلماء يمثلون للقياس القطعي بقياس الأمة على العبد بجامع الرق في كلٍّ ليثبت تقويم الأمة على من أعتق نصيبه منها، كما ثبت في العبد، وما معنى هذا المثال لو أن شخصًا أعتق نصف عبده الذي يملكه مع شخص آخر؟ فورد الحديث بأنه يقوم ثمن النصف الآخر من العبد، ويدفعه المعتق ويعتق العبد، فكأن الحديث وارد في العبد، هب أن الصورة في أمة واحد أعتق نصف أمة إذا أعتق نصف عبد فالحديث واضح فيه فلو أعتق نصف أمة، هل الأمة تأخذ حكم العبد؟
قال العلماء: تأخذ حكم العبد، وهذا يسموه القياس القطعي وكأنه يريد أن يقول: أن الأحكام التي تجري على العبيد تجري على الإماء ولا نظر ولا التفات إلى مسألة الذكورة والأنوثة في العبد والأمة هذا قياس قطعي.
أما القياس الظني الذي ذكره الفقهاء فيقولون: قياس السفرجل على البر والسفرجل نوع من أنواع المطعومات يشبه البرتقال، ونحو ذلك لو قسنا السفرجل على البر بجامع الطعم في كل ليثبت في السفرجل حرمة التفاضل فيه كما ثبتت الحرمة في البر، هذا قياس قطعي أم ظني؟ لا شك أنك ستقول: ظني لأول وهلة لماذا؟ لأننا لا نقطع بأن العلة في حرمة التفاضل في البُرِّ هي الطعم لجواز أن تكون هي الاقتيات، فلو كانت الاقتيات إذًا لا يصح أن تقيس السفرجل على البر، لذلك العلماء يقولون: هذا نوع من القياس الظني؛ لأننا لا نقطع بوجود العلة في الأصلي وفي الفرع.
ومثال نسخ القياس بالقياس: لو قسنا السفرجل مثلًا على البُرِّ بجامع الطعم في كلٍّ ليثبت حرمة التفاضل فيه كما ثبتت في البر، ثم ينص الشارع بعد ذلك على إباحة التفاضل في الموز لعلة هي التفكه به، وهذه العلة توجد في السفرجل، ويكون وجودها فيه أظهر من وجودها في الموز فيقاس السفرجل على الموز بجامع التفكه في كلٍّ ليثبت إباحة التفاضل في السفرجل كما ثبتت في الموز.
وبذلك يكون القياس الثاني مثبتًا لإباحة التفاضل في السفرجل، والقياس الأول مثبتًا لحرمته ويكون القياس الثاني ناسخًا للقياس الأول لكون القياس الثاني أقوى وأظهر من القياس الأول، يكون القياس الثاني في المسألة له دليل، ودليل المخالف استدل المثبتون لكون القياس ناسخًا لغيره بدليلين.
الدليل الأول: على أن القياس ينسخ غيره مطلقًا، قالوا: قول الله تعالى في سورة الأنفال: {الْآَنَ خَفَّفَ اللَّهُ عَنْكُمْ وَعَلِمَ أَنَّ فِيكُمْ ضَعْفًا فَإِنْ يَكُنْ مِنْكُمْ مِئَةٌ صَابِرَةٌ يَغْلِبُوا مِائَتَيْنِ وَإِنْ يَكُنْ مِنْكُمْ أَلْفٌ يَغْلِبُوا أَلْفَيْنِ بِإِذْنِ اللَّهِ} [الأنفال: 66].
وما وجه الاستدلال بهذه الآية على أن القياس ينسخ غيره؟ قالوا: ووجه الاستدلال أن ثبات الواحد للعشرة منسوخ، وإن كان ذلك غير مصرح به، وإنما نبه عليه فصح أن القياس ينسخ النص، هذا الدليل الأول لمن أثبت أن القياس يكون ناسخًا، أما دليلهم الثاني فقالوا: النسخ أحد البيانين فجاز نسخ النص بالقياس، كما جاز تخصيص النص بالقياس، يعني كما يجوز تخصيص النص بالقياس يجوز نسخ النص بالقياس، فكأنهم قاسوا النسخ على التخصيص. وقد أجاب الجمهور عن هذين الدليلين بالأجوبة التالية:
أما الجواب عن الدليل الأول فقالوا: إنه ليس في الآية المنسوخة ثبات الواحد للعشرة فيكون هذا التنبيه قد نسخ فإن كان ذلك معلومًا من قوله تعالى: {إِنْ يَكُنْ مِنْكُمْ عِشْرُونَ صَابِرُونَ يَغْلِبُوا مِائَتَيْنِ} [الأنفال: 65]، من حيث كان ذلك يفيد أن يثبت كل واحد بإزاء عشرة حتى يكون العشرون بإزاء المائتين فمفهوم أيضًا من قوله تعالى: { فَإِنْ يَكُنْ مِنْكُمْ مِئَةٌ صَابِرَةٌ} [الأنفال: 66] مفهوم من هذه الآية ثبات الواحد للاثنين؛ لأنه لا يقوم مائة بإزاء مائتين إلا بكل واحد منهم بإزاء اثنين، ويبين ذلك أنه ورد عقيب قوله تعالى: { الْآَنَ خَفَّفَ اللَّهُ عَنْكُمْ} [الأنفال: 66] وهو يفيد رفع ثبات العشرين للمائتين وإلا لم يكن التخفيف حاصلًا، وقد قيل: إن ثبات الواحد للعشرة مفهوم المنسوخة من فحوى القول.
أما الجواب عن دليلهم الثاني: فهو أنه منقوض بالإجماع وبدليل العقل وبخبر الواحد كيف ذلك؟ أما نقده بدليل العقل؛ فإن دليله يجوز التخصيص به دون النسخ كما مثلنا لكم في قول الله تعالى: {اللَّهُ خَالِقُ كُلِّ شَيْءٍ} [الرعد: 16] فالعقل يخصص ذات الله تعالى، ولا يجعله داخلًا في العموم؛ فحصل الآن تخصيص بالعقل ولا يجوز النسخ بالعقل بالاتفاق، فكأن قياسكم النسخ على التخصيص غير مسلم.
ولا يلزم من أن كل ما يجوز التخصيص به يجوز النسخ به، فيجوز التخصيص بالعقل ولا يجوز النسخ بالعقل، وكذلك الإجماع يجوز التخصيص به دون النسخ، وقد مثلنا لكم، وكذلك خبر الواحد لا يجوز أو يجوز التخصيص به ولا يجوز النسخ به كما ذكرنا قبل ذلك.
فالشاهد أن دليلهم الثاني منقوض بالإجماع وبدليل العقل وبخبر الواحد، والتخصيص بجميع ذلك جائز دون النسخ، فيجوز تخصيص النص بالقياس ولكن لا يجوز نسخ النص بالقياس، لأن الصحابة رضي الله عنهم إذا اجتهدوا في مسألة وأفتوا فيها برأيهم لعدم عثورهم على النص في أول الأمر ثم ظهر لهم بعد ذلك نصٌّ، كانوا يتركون الآراء للنصوص، ولهذا صوب النبي صلى الله عليه وسلم معاذ في رجوعه إلى الاجتهاد إذا لم يجد كتابًا ولا سنة.
وقد ورد أن النبي صلى الله عليه وسلم لما أرسل معاذًا قاضيًا إلى اليمن قال له: ((كيف تقضي إذا عرض لك القضاء؟ قال: أقضي بكتاب الله، قال: فإن لم تجد؟ قال: أقضي بسنة رسول الله، قال: فإن لم تجد؟ قال: أجتهد رأي ولا آلو؛ فصوبه النبي صلى الله عليه وسلم على ذلك وأقره))، وهذا دليلٌ على أن الصحابة كانوا إذا فقدوا النص عملوا بالآراء، فإذا وجدوا النص بعد ذلك تركوا آراءهم وانتقلوا إلى النصوص، ثم كيف يتساويان؟ يعني: التخصيص والنسخ، أي: حتى يصح أن ما جاز بأحدهما جاز بالآخر.
والتخصيص بيان، والنسخ رفعٌ، يعني: حقيقة التخصيص أنه بيان، يعني: يبين المراد باللفظ؛ فجاز بالقياس، أما النسخ فهو يرفع حكم اللفظ رأسًا، والبيان هو تقرير لبعض الأفراد، والرفع إبطال لكل الحكم. والأقرب إلى الصواب في المسألتين –يعني: مسألة نسخ القياس والنسخ به- وما ذهب إليه ابن قدامة والآمدي ومعهم الجمهور وهو أن القياس إن كان منصوصًا على علته؛ فهو كالنص ينسخ وينسخ به، وإن لم يكن منصوصًا على علته فلا ينسخ، ولا ينسخ به سواء أكان جليًّا أو خفيًّا.
على أن الآمدي -رحمه الله- فصلَ في النسخ بالقياس بين القياس القطعي والقياس الظني، لكن النتيجة واحدة.

error: النص محمي !!