مفهوم الأدب الأندلسي، وأهمية دراسته
مفهوم الأدب الأندلسي:
الأدب الأندلسي هو: ما أبدعه العرب الذين سكنوا الأندلس من شعرٍ ورسائل وقصص ومناظرة وموشحات وأزجال، وما دار حول هذا الأدب شعره ونثره من دراسة وتحليل ونقد؛ كل هذا هو الأدب الأندلسي، والحقيقة أن الحديث عن الأندلس يستثير الأشجان، ويستدعي ذكريات عزيزة على كل مسلم، ويجعل الإنسان المسلم يستحضر هذا الزمن الجميل؛ حيث كانت رايات الإسلامِ عاليةً على أكثر مدن العالم، وكانت هذه المدنُ تمثل منارات تهدي الناس، وتعلمهم وترشدهم، وكان الأوروبيون في عصور ظلماتِهِم يأْتُونَ إلى هذه المدن يقبسون منها العلم والنور.
نحن في هذا الزمن الذي تخلّفت فيه بلاد المسلمين عن ركب الحضارة والتقدم عندما نتحدث عن الأدب الأندلسي، وعن حياةِ المسلمين في الأندلسِ وحضارةِ المسلمين في الأندلس؛ فإننا نستدعي هذا الزمن الماضي المجيد؛ لعلنا نستطيع أن نستخلص من التاريخ دروسه، وأن نستفيد من الماضي ما ينفعنا في حاضرنا، وما ينفعنا في مستقبلنا.
أهمية دراسة الأدب الأندلسي:
إن الاهتمام بدراسة الأدب الأندلسي ظهر في مؤلفاتٍ قديمةٍ، ألَّفَهَا المغاربة والأندلسيون، ولكن قرونًا من الزمن فَصَلَتْ بين هذه المؤلفات والعصر الحديث، وكان كثيرٌ من الدارسين لا يهتم بالأدب الأندلسي، ويراه نوعًا من التقليد للأدب المشرقي “الأدب العباسي”، فمرت مدةٌ طويلةٌ كانت دراسةُ الأدبِ الأندلسي فيها مهمَلة إلى أن تنبَّهَ الدارسون لأهمية هذا الأدب، ورأوا المستشرقين ينشرون بعض نصوصه، ويتحدثون عنه؛ فنشطت همم الدارسين العرب وابتُعث من طلاب الدراسات العليا في الجامعات المصرية عددٌ إلى بلاد أسبانيا والبرتغال؛ لدراسة البيئة التي نشأ فيها الأدب الأندلسي، ودراسة عيون هذا الأدب، والبحث عن مخطوطاته وكنوزه، وتعددت المؤلفات التي اهتمت بهذا الأدب شعره ونثره، وكذلك المؤلفات التي اهتمت بحضارة المسلمين في الأندلس، وتاريخهم وفلسفاتهم، وكل ما يتعلق بالآثار الإسلامية في هذه البلاد.
ومن المؤلفات المهمة في هذا المجال ما كتبه الدكتور مصطفى الشكعة بعنوان (الأدب الأندلسي موضوعاته وفنونه)، وما كتبه الدكتور إبراهيم أبو الخشب -عليه رحمة الله- (تاريخ الأدب العربي في الأندلس)، وما كتبه الدكتور أحمد هيكل (الأدب الأندلسي من الفتح إلى سقوط الخلافة)، وما كتبه الدكتور الطاهر مكي، وما كتبه الدكتور محمد عبد المنعم خفاجي، وما كتبه كذلك غير هؤلاء من الدارسين والباحثين.
وكل الذين يكتبون في الأدب الأندلسي تحرّكهم هذه الدوافع وتثيرهم هذه الكوامن حيث كان للمسلمين حضارة باذخة وثقافة عالية، استمرت حوالي ثمانية قرون في بلاد الأندلس، إلى أن عملت سنةُ الله في خلقه عملها بعد أن تخلى الأمراءُ والملوكُ عن واجبهم نحو دينهم، ونحو وطنهم ونحو رعاياهم، واستبدت بهم المصالح الشخصية والشهوات والنزوات، وبدأ كل واحد منهم يكيد لأخيه، ويستعين بالمسيحيين الذين كانوا يدبرون ويكيدون للإسلام والمسلمين في هذه البلاد؛ أخذ الواحد منهم يستعين بهم على أخيه فسقطوا الواحد تلو الآخر حتى غربت شمس الإسلام عن تلك البلاد.
والمؤسف في خروج المسلمين من هذه البلاد أنهم لما خرجوا منها خرج الإسلام معهم، وهذا يُعَدُّ استثناءً في تاريخ الإسلام؛ لأن العرب الذين وصلوا بالإسلام إلى مشارق الأرض ومغاربها قد لا يتمكنون في بعض الأحيان من البقاء في بعض البلاد التي ذهبوا إليها، ولكنهم عندما خرجوا من بعض هذه البلاد بقي الإسلام بعدهم.
نحن نلاحظ أن بعض الأمم وبعض الأجناس التي دخلت في الإسلام، والتي فَتَحَ المسلمون الأوائل -الذين جاءوا من جزيرة العرب- بلادهم نلاحظ أن بعض هذه الأجناس رجعت إلى قوميتها الأولى، ولكنها لم ترتد عن الإسلام.
فالأندلس -كما يقول الدكتور مصطفى الشكعة: “بلاد عزيزة على العرب والمسلمين، وهي في تصور العقلاء ممن يفقهون أحداث التاريخ تُشَكِّلُ واحدةً من النكبات الكبرى التي حَلَّتْ بالإسلام والمسلمين”.
ويقول أيضا الدكتور مصطفى الشكعة: “بل هي في نظرنا أكبر نكبة حلّت بالإسلام في التاريخ الوسيط، ولا يكاد يقف معها أهميةً وألمًا من حيث ضراوة الكوارث التي حلَّتْ بنا إلا استباحة فلسطين واغتصابها، وطرد سكانها من عربٍ ومسلمين من ديارهم”.
ويلاحظ الدكتور مصطفى الشكعة أن هناك فرقًا بين ما حدث في فلسطين وما حدث في بلاد الأندلس، يقول: ولكن مشكلة الأندلس تبقى أعمق جِراحًا بالقياس إلى فلسطين؛ ذلك أن فلسطين يُمكن استردادها إذا اتَّحَدَ العربُ وصدقت نياتهم؛ فضلاً عن أن بقاءها تحت الحكم اليهودي أمرٌ موقوتٌ غيرُ دائم. ولا شك أن مغتصبيها أنفسهم يعلمون ذلك؛ إذ إنه مما يتنافى مع طبائع الأشياء أن تعيش مجموعةٌ وافدةٌ مغتصبةٌ لفترةٍ طويلةٍ، وهي محاطةٌ ببحر من الكراهية والغضب وطلب الثأر، واسترداد الحق.
ولكني أضيف إلى ما قاله الدكتور مصطفى الشكعة: أن قضية فلسطين هي قضية المسلمين جميعًا وليست قضية العرب وحدهم، وينبغي أن يتعاون المسلمون جميعًا، وأن يتحدوا لاسترجاع هذا الجزء الغالي من بلاد المسلمين، وما يحويه من مقدساتٍ يأتي على رأسها المسجد الأقصى مسرى الرسول صلى الله عليه وسلم وأولى القبلتين وثلاث الحرمين.
لكن الأندلس تختلف عن فلسطين؛ لأنَّ المسلمينَ يعتبرون الأندلس حلمًا انتهى وضاع؛ بسبب أن بلادَ الأندلس ملاصقةٌ ومجاورةٌ للعالم المسيحي المتعصب ضد المسلمين، وقد سَاعَدَ ظهور ما يسمى بالفرنجة الذين كانوا من بَقَايَا المسيحيين في الأندلس- ظهورهم بالعداء للمسلمين في بلاد الأندلس؛ كان عاملاً من عوامل خروج الإسلام والمسلمين من تلك البلاد.
يقول الدكتور مصطفى الشكعة أيضًا: مما يشعر بالكارثة في الأندلس أن الإسلام ما دخل أرضًا وخرج منها، لقد دخل العرب كمسلمين بلادًا وأخرجوا منها، كما هو الحال في فارس وطبرستان والهند، وما وراء النهر، ولكنهم حين خرجوا أو أخرجوا من هذه البلاد تركوا الإسلام يعيش في تلك البلاد، ولا يزال يعيش قويًّا حتى الآن رغم تغيّر الحدود، واختلاف أسماء تلك البلاد قديمًا وحديثًا، بل إن الإسلام لا يزال يعيش داخل الأقاليم التي ضمتها روسيا تحت اسم الاتحاد السوفيتي في ظل الشيوعية التي تحارب الأديان، ولا يزال اسم الله يردد عاليًا فوق مآذنِ بخارى وسمرقند، ومنابر تفليس وطشقند.
هذا صحيح، والدكتور مصطفى الشكعة قال هذا الكلام قبل أن يسقط ما يُسمى بالاتحاد السوفيتي، وتعود كثيرٌ من الجمهوريات التي كانت خاضعة للشيوعية تحت حكم الاتحاد السوفيتي؛ بعد أن سقط هذا الاتحاد واستقلَّتْ هذه الجمهوريات، عادت هذه الجمهوريات لتعلن أنها مسلمة، وتُحْيي الثقافة الإسلامية فيها، وتعود إليها شخصيتها الإسلامية التي حاولت الشيوعية السوفيتية محوَها وطمثها، وفعلًا بقي اسم الله يتردد -وما يزال- في هذه البلاد التي دخلها الإسلام ولم يخرج منها.
نعم، لقد خرج العرب من تلك البلاد وبقي الإسلام، وأما في الأندلس فقد طُرِدَ العرب، وأخرجوا منها وحورب الإسلام حتى لم يبقَ مسلمٌ واحدٌ على أرضها، وإذن فنكبة العرب والمسلمين في الأندلس لا تُعادلها نكبة أخرى في حياتهم التاريخية.
ويذكر الدكتور مصطفى الشكعة أن هناك كوارث أخرى ارتبطت إلى حدٍّ كبيرٍ بكارثةِ الأندلسِ، ومن ذلك خروج الإسلام من صقلية وكريت ومالطة، وكانت كلها في يومٍ ما أرضًا إسلامية، ولكنَّ المصيبةَ فيها تتضاءل أمام مصيبة الإسلام في إسبانيا، فضلاً عن أن انحسار الإسلام عنها قد ارتبط بانحساره عن الأندلس.
بلا شك أن هناك الآن جاليات مسلمة في بلاد أسبانيا وصقلية وغيرها، والله غالب على أمره ولكن أكثر الناس لا يعلمون، وما على المسلمين إلا أن يعملوا بواجبهم نحو دينهم ونحو مقدساتهم، وألا يغفلوا هذه الغفلة المعيبة، التي هم فيها في زماننا هذا، ولا حول ولا قوة إلا بالله.
إذا كانت الأندلسُ تمثل بالنسبة للمسلمين هذا الحُلم؛ فإن الأدب الأندلسي ودراسته ينبغي الاهتمام به؛ لأن الحضارة التي أنشأها المسلمون في تلك البلاد كانت كالكوكبِ اللامعِ المضيءِ في سماءٍ امتلأت بالظلمة، وغرقت في الجهالة والتخلف، كانت أوروبا في وقت ازدهار الحضارة الإسلامية العربية في الأندلس غارقة في ظلماتِ الجهلِ والتخلفِ.
كان في الأندلسِ فلاسفةٌ كبارٌ مثل: ابن رشد، وابن ماجه، وابن طفيل، ومنهم ومن مؤلفاتهم تعلم مفكرو أوروبا في القديم، وما يزال مفكرو أوروبا في هذا الزمن يتعلمون من كتبهم ومؤلفاتهم ونظرياتهم وآرائهم، وكان في الأندلس أطباء وكيميائيون، ورياضيون وفلكيون، ومهندسون، وكان في الأندلس فنانون ورسامون، وأدباء وشعراء، وعلماء لغويون، وعلماء في الفقه، وعلماء في التفسير، وعلماء في الحديث، وكل هؤلاء أسهموا في بناءِ حضارةٍ شامخةٍ يشهد المنصفون لها بالتفرد، وأنَّها كانت منارةً للأوربيين في عصرها، ولذلك جاء الأوروبيون إلى الأندلس ليتعلموا وليستفيدوا وليدرسوا، وكانت المكتبات التي ظهرت في بلادِ الأندلس قبلةَ هؤلاء المتعلمين، فاهتمام الدارسين العرب إذًا بالأدب الأندلسي، وبالحضارة الأندلسية، وبالفكر الأندلسي يرجع إلى هذه المعاني.
ملمحٌ آخر يجعل دراسة الأدب الأندلسي شيئًا مهمًّا: أن هذا الأدب صوَّرَ الحياةَ الجديدةَ للمسلمين في هذه البيئةِ الجديدةِ التي وفدوا إليها من بلاد المشرق، وأن هَذَا الأدبَ يحملُ في طياته أفكارًا راقيةً وعواطفَ صادقةً وصورًا بديعةً، وله شخصيته التي تميزه عن الأدب المشرقي وإن كان يتفقُ معه في كثيرٍ من الأصول.