مفهوم التحليل التقابلي
لقد جرت دراسات متعددة، في الربع الأخير من القرن العشرين المنصرم، تسعى إلى التعرف على أثر اكتساب اللغة الأم، في السنوات الأولى من عمر الطفل، على محاولة تعلم اللغة الأجنبية في وقت لاحق، والمُدخلات التي يُمكن أن تحصل، والأخطاء المتواصلة التي يُمكن أن يرتكبها الدارس بسبب ذلك.
كما جرت دراسات أخرى موازية لهذه الدراسات على من يتعلم لغة ثانية؛ لمعرفة التداخل الذي قد يحدث بين اللغتين الأم والمنشودة، وكانت الطريقة الأساسية في إمكانية التنبؤ بتلك الصعوبات، أو التعامل معها بعد وقوعها، هي ما اصطلح على تسميته بالتحليل اللغوي المقارن، أو التحليل التقابلي، وعلم اللغة التقابلي ما ظهر إلا ليقارن بين لغتين أو أكثر من عائلة لغوية واحدة، أو عائلات لغوية مختلفة، بهدف تيسير المشكلات العملية التي تنشأ عند التقاء هذه اللغات، كتعليم اللغات الأجنبية، أو كالترجمة أيضًا.
ويفضل علم اللغة التطبيقي مصطلح التحليل التقابلي، بدلًا من علم اللغة التقابلي، فالمقصود هنا تحليل لغوي يجري على اللغة التي هي موضع التعليم، واللغة الأولى أو الأم للمتعلم.
ففكرة التحليل التقابلي تنبع من هذه المقولة التي تقرر أن أي متعلم للغة أجنبية ما إنما يبدأ تعلمها وهو يعرف شيئًا ما عن هذه اللغة، هذا الشيء يشبه ما يعرفه من لغته الأم؛ لذلك يجد هذا المتعلم بعض الظواهر سهلًا، وبعضها الآخر صعبًا، ظهر التحليل التقابلي ليساعد المتعلم في الوقوف على الظواهر الصعبة، التي تختلف فيما بين اللغتين الأم والأجنبية.
فالتحليل التقابلي يختص بالبحث في أوجه الاختلاف والتشابه، بين اللغة الأولى للمتعلم واللغة الأجنبية التي يتعلمها، والتشابه بين اللغتين لا يعني: سهولة التعلم، والاختلاف، لا يعني: صعوبة التعلم، فالاختلاف والتشابه مسألة لغوية، أما السهولة والصعوبة فمسألة نفسية لغوية.
وينطلق التحليل التقابلي من حقيقة تقررها كثير من العلماء، وهي أن أوجها مشتركة تجمع اللغات جميعها، وينطلق من حقيقة أخرى أيضًا، وهي أن اللغات تختلف فيما بينها من حيث البنية على المستويات اللغوية جميعًا.
أما الاختلاف فموجود في الأصوات، وفي الكلمة، وفي الجملة وفي المعجم، فالاختلاف والتحليل التقابلي لا يقابل لغة بلغة، وإنما يقارن مستوى بمستوى، أو نظامًا بنظام أو فصيلة بفصيلة.
ويجري التقابل على كل ما ذكرنا، فالتقابل الصوتي مهم جدًّا في تعليم اللغة، وكذلك التقابل الصرفي والنحوي والمعجمي.
ويتم التقابل وفق أي مدرسة لغوية، من المدارس التي عرفتك بها سابقًا، وإن كان هناك بعض العلماء يفضلون استخدام المنهج التحويلي، في التحليل التقابلي على وجه الخصوص؛ لأنه يعين على اختصار الاختلافات بإرجاعها إلى بنية عميقة متشابهة بين اللغتين، كما أنه يُبرز الأوجه المشتركة بين اللغات، ويظهر قيمتها في تعليم اللغة.
فالتحليل التقابلي يأخذ على عاتقه فحص أوجه الاختلاف والتشابه بين اللغات، كما يأخذ على عاتقه التنبؤ بالمشكلات التي تنشأ عند تعليم لغة أجنبية، ومحاولة تفسير هذه المشكلات، كما أنه يأخذ على عاتقه أيضًا الإسهام في تطوير مواد دراسية، لتعليم اللغة الأجنبية.
وينبغي أن تفرق بين هذه المقارنة التي تجري بين لغتين أو أكثر، وهي المطلوبة في تعليم اللغة لغير أبنائها، والمسماة بالتحليل التقابلي، وبين تلك المقارنة التي تجري داخل اللغة الواحدة، من أجل اختيار الأنواع اللغوية التي تقدم في التعليم، فهذه المقارنة التي تحدث داخل اللغة ذاتها هي مقارنة جوهرية في تعليم اللغة لأبنائها ولغير أبنائها على السواء، فالمقارنة الداخلية أعم من المقارنة الخارجية.
ولكي يتضح الفرق بين المقارنتين، أعني: بين التحليل التقابلي الخارجي وبين التحليل الداخلي، أعني المقارنة الداخلية، فإني أطلعك على تفصيل في هذه المقارنة، التي تحدث داخل اللغة ذاتها.
إنه لا توجد لغة إنسانية تجري على مستوًى واحد، فاللغة الواحدة مستويات وأنواع، ولكي نختار مادة لتعليم اللغة لأبنائها أو لغير أبنائها، فإنه لا بد من الاختيار بين مستويات أو أنواع اللغة الواحدة، فهناك لهجة الفرد التي تُميز نطقه، وتتميز بخصائص صوتية تفرقه عن غيره.
وهناك اللهجات الإقليمية الجغرافية التي تتميز لهجة السهول فيها من لهجة الجبال، ولهجة الصحراء من لهجة الحواضر، ولهجة المناطق الزراعية من لهجة السواحل.
وهناك اللهجات الاجتماعية التي تشتمل على فروق بين لهجة الطبقة العاملة مثلًا، ولهجة الطبقة الوسطى ولهجة الطبقات الغنية إلى غير ذلك.
وهناك اللهجات الخاصة التي تميز مهنة من المهن، كلهجة الأطباء، والنجارين، والحدادين، والصيادين، واللصوص، إلى غير ذلك.
وهناك عاميات تجري على مستويات، وهناك اللغة الفصيحة، التي تنطوي أيضًا على مستويات متنوعة.
فحين نخطط لتعليم لغة ما، فإننا نبدأ بالمقارنة بين هذه المستويات، ثم نختار منها مستوًى أو نوعًا وفقًا لمعايير تتوافق مع محتوى المقررات الدراسية.
والنموذج الذي يجب اختياره من لغة ما ينبغي أن يمتاز بالعمومية والشمول، بأن يكون أوسع انتشارًا، وأكثر استعمالًا، وأقل تقعيدًا، وأقل تقيدًا، وأن تكون له جذور تاريخية وامتداد ثقافي.
وهذا يستعان به عن طريق الإحصاء اللغوي؛ لنصل إلى ما يُعرف بالشيوع في اللغة، حتى يكون له جدوى في تعليم اللغة، فلا يمكن تصور محتوًى تعليمي دون أن تسبقه دراسة مثل دراسة الشيوع في الألفاظ، التي لا غنى عنها كما قلت في تعليم اللغة؛ لأنه يقدم مقياسًا موضوعيًّا، لما يُعرف بالتحكم في المفردات.
وما ينطبق على الشيوع في الألفاظ ينطبق على الظواهر الأخرى المتعلقة بالصرف والنحو، كنسبة شيوع التصغير وبعض جموع التكسير، وبعض المصادر، وبعض الصيغ الفعلية، ونسبة شيوع الأفعال الناسخة أو الحروف الناسخة، إلى غير ذلك.
إنه لا بد من اختيار موضوعي، يقوم على مقارنة موضوعية داخل اللغة أولًا، وهذا المبدأ مهم في تعليم اللغة لأبنائها ولغير الناطقين بها على السواء كما قلت، هذا هو الفارق بين هذه المقارنة الداخلية.
وبين المقارنة الخارجية بين لغتين أو أكثر؛ للوقوف على أوجه الاختلاف والتشابه بين اللغة الأم واللغة المنشودة، أي: الأجنبية التي يُراد تعلمها، وهو ما يعرف بالتحليل التقابلي.