مفهوم التعزير، ومشروعيته، والفرق بينه وبين الحد
التعزير في عرف أهل الشرع: عقوبة يفوض التقدير فيها إلى الحاكم، شرعت حقًّا لله تعالى أو للآدمي، وسميت هذه العقوبة باسم التعزير؛ أخذًا من معناها اللغوي، الذي هو: المنع، والنصرة؛ لأن الشأن في هذه العقوبة أن تمنع من وقوع الجريمة، ومن منع شخصًا عن جنايته فقد نصره؛ ولذلك لما قيل لرسول اللهصلى الله عليه وسلم: ((كيف ننصر الظالم؟ قال: أن تمنعه من ظلمه؛ فإن منعته عن ظلمه فقد نصرته))؛ يعني: نصرته على نفسه، بقهره إياها ومنعها من اتباع هواها، والسقوط بها في مهاوي الرذيلة.
ومن هذا نعلم أن نوع العقوبة في التعزير، وكذا مقدارها موكول إلى تقدير الحاكم، ومن ثم فهي تختلف باختلاف الأحوال والأشخاص، كما يجوز للإمام الزيادة في مقدارها، أو النقص منه، وقد تسقط إذا رأى الإمام المصلحة في ذلك؛ امتثالًا لقول رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((أقيلوا ذوي الهيئات عثراتهم)) وقد فسر العلماء، ذوي الهيئات: بأنهم أهل الصلاح والتقوى الذين لا يعرفون الشر، ولكن قد يقع منهم فلتة فيعفى عنهم؛ لقيمتهم الدينية بين الناس، ومراعاةً لحسن نياتهم، وعدم اعتيادهم الرذيلة.
أما كون العقوبة تعزيرية تجب حقًا لله تعالى، فذلك في الجرائم التي تتعلق بالاعتداء على الدِّين، وتعتبر تعديًا على حقوق المجتمع بما لا يوجب الحد؛ كما في سب الأديان غير الإسلام، أو إلقاء القاذورات في الطريق العام، أو إغراء الناس بالفساد؛ فهذا من حقوق الله التي يجب فيها التعزير، كما تجب في كل حد سقط لشبهة، أو منع من استيفائه مانع؛ كما لو تمت السرقة فيما دون النصاب، أو من غير حرز، أو في حالة ما إذا قَتل الأب ابنه؛ فهنا لم يقم عليه الحد، وأما إن تعلقت بحق شخص بعينه، فقد صارت من حقوق العباد؛ وحينئذ فإن طلب العبد استيفاء حقه وجب الأخذ له بحقه، وإن عفى جاز للإمام العفو وعدمه.
إذن فحكم التعزير قد يكون الوجوب، كما في حق العبد إذا طلب استيفاء حقه، إلا في حق القاضي، أو الحاكم إذا اعتدي عليه، فإن له ترك التعزير وإقامته؛ وحينئذ يكون حكم التعزير الجواز.
هذا فيما يتعلق بمقدمة من خلالها ننتقل إلى التعزير، ونبين معناه في اللغة والاصطلاح، فنقول: التعزير في اللغة من أسماء الأضداد؛ لأنه يطلق على التفخيم والتعظيم، ومنه قول الله تعالى:{ فَالَّذِينَ آَمَنُوا بِهِ وَعَزَّرُوهُ وَنَصَرُوهُ وَاتَّبَعُوا النُّورَ الَّذِي أُنْزِلَ مَعَهُ أُولَئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ} [الأعراف: 157]، ويطلق أيضًا على التأديب، وهو التعزير، ويراد به في اللغة: الرد، والمنع، تقول: عزَّرت فلانًا، أي: أدبته، أو فعلت به ما يردعه عن القبيح.
أما عن التعزير في الشرع، فمعناه: التأديب والزجر من قبل الإمام، أو نائب الإمام عن ذنوب لا حدَّ فيها.
يتبين لنا من هذا التعريف المجمل، أن التعزير في مفهوم الشرع ينبسط على عامة العقوبات الرادعة، التي يقصد بها التأديب والزجر عن اقتراف المعاصي والخطايا، مما ليس فيه حدٌّ مقدر في الشرع؛ وبذلك فإن التعزير يعتبر مجالًا فسيحًا، وامتدادًا رحيبًا يلج في حومته الممتدة كل صور العقوبات من دون الحد، بما يردع الخاطئين والمتجاوزين، وبما يحمل من تسوِّل له نفسه مقارفة المعاصي، أن يمسك عن فعل الشر، وبهذا الشمول والامتداد، فإن نظام العقوبة في الإسلام، يأتي مكتملًا تمام الاكتمال، ويتسق في إطاره الشامل؛ ليشمل أركان العقاب الثلاثة؛ القصاص، والحدود، والتعزير.
الدليل على مشروعية التعزير:
يمكن الاستدلال على مشروعية التعزير، بجملة من الأدلة التي وردت في السنة النبوية؛ منها ما أخرجه البخاري، ومسلم أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: ((لا يجلد أحد فوق عشرة أسواط إلا في حد من حدود الله)).
وأخرج البيهقي، أن النبي صلى الله عليه وسلم قال في حديث عبد الله بن أبي بكر: ((لا يحل لرجل يؤمن بالله واليوم الآخر أن يجلد فوق عشرة أسواط إلا في حد))، كذلك أخرج البيهقي، أن عمر بن عبد العزيز كتب: ألا يبلغ في التعزير أدنى الحدود أربعون سوطًا، كذلك ورد عن عبد الرحمن بن جابر، عمن سمع النبي صلى الله عليه وسلم قال: ((لا عقوبة فوق عشر ضربات إلا في حد من حدود الله)).
أكثر التعزير وأقله:
بعد أن اتضح لنا مشروعية التعزير، نستطيع أن نقف على أكثر التعزير وأقله، والفقهاء في بيان ذلك، يرون أنه لا حد لأقل التعزير، وهو إنما يكون تبعًا لحال الخاطئ من الشرف، أو من المروءة والسفه، وكذلك تبعًا لمستوى الخطيئة المقترفة؛ وعلى هذا، ليس من حد معين لأقل التعزير، بل هو منوط باجتهاد الحاكم، ليقدر ويقرر من العقاب ما هو مناسب، كما لو عزر مثلًا بالتنبيه، أو بالتأنيب، أو بالتوبيخ، أو بالزجر صياحًا، أو الضرب، أو الحبس، أو نحو ذلك.
هذا فيما يتعلق بأقل التعزير، ولكن مع ذلك وجدنا لفقهاء الحنفية كلامًا في أقل التعزير، حيث قالوا: أقله ثلاث جلدات.
وماذا عن أكثر العقوبة؟
لا شك أن أكثر العقوبة موضع خلاف بين العلماء، حيث ذهب الإمام أبو حنيفة، والشافعي في الظاهر من مذهبه، وأحمد في الراجح من قوليه، إلى أن أكثره من حيث الضرب تسعة وثلاثون سوطًا في الحُرِّ، والأصل في ذلك أنه لا ينبغي أن يتجاوز بالتعزير أدنى حد مشروع، وهو حد الشرب، وهو ثمانون جلدة باتفاق العلماء، إلا ما ذكره الشافعي من جواز الزيادة في حد الشرب إلى ثمانين، وإن كان الأصل فيه أربعين، ودليلهم في ذلك، ما أخرجه البيهقي، أن عمر بن عبد العزيز كتب: ألا يبلغ في التعزير أدنى الحدود أربعون سوطًا، وما أخرجه البيهقي، عن النعمان بن بشير، قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((من ضرب حدًّا في غير حد فهو من المعتدين)).
إذًا يستفاد من ذلك، عدم مجاوزة التعزير لأدنى حد، وهو أربعون جلدة، وبهذا يكون أقصى التعزير، هو تسع وثلاثون جلدة، مع مراعاة مذهب الحنفية هنا؛ وهو المساواة في مقدار التعزير بين الحر والعبد، خلافًا لمذهب الجمهور في ذلك، حيث يرى الجمهور: أن عقوبة العبد تعزيرًا على النصف من عقوبة الحُرّ.
وفي الرواية الثانية، عن الإمام أحمد: أن التعزير لا يزاد على عشر جلدات؛ لحديث أبي بريدة الأنصاري، أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: ((لا يجلد أحد فوق عشرة أسواط إلا في حد من حدود الله)).
أما الإمام مالك، فإنه لا حد عنده لأكثر التعزير، ومن ثم فيجوز أن يتجاوز التعزير عنده أكثر الحدود، وفي هذا المعنى يقول ابن جزي: “يجوز في المذهب التعزير بمثل الحدود، وأقل وأكثر على حسب الاجتهاد، وعلى هذا فإن مشهور المذهب المالكي، أن يزاد في التعزير على الحد في بعض الأحوال، فقد أمر الإمام مالك بضرب رجل وجد مع صبي قد جرده وضمه إلى صدره فضربه أربعمائة جلدة، فانتفخ ومات، ولم يستعظم مالك ذلك، وقالوا كذلك في الجاسوس الذي يتجسس لحساب العدو، فإنه يحل للإمام أن يقتله؛ وبذلك فإنه يجوز أن يبلغ التعزير درجة القتل.
ومنها أيضًا، أن عمر رضي الله عنه لما وجد مع السائل طعامًا فوق كفايته، وهو يسأل، أخذ ما معه وأطعمه إبل الصدقة.
وجملة القول في مذهب الإمام مالك، أن عقوبة التعزير تختلف بحسب اختلاف الذنوب، وما يعلم من حال المعاقب من حيث صبره على يسير الجلد أو ضعفه عن ذلك، وكذلك من حيث انزجاره إذا عوقب بأقلها أو بأشدها، وما قاله المالكية في اختلاف عقوبة التعزير، يتفق مع قول الجمهور في ذلك؛ فهم مجمعون على التفاوت في حجم التعزير على الجاني تبعًا لحجم الجناية، وتبعًا لحال الجاني من القوة والضعف، أو من حيث المروءة والتبلد، أو من حيث الشرف والسفاهة، وكذلك تبعًا للزمان والمكان الذي وقعت فيه الجناية؛ فمثلًا ما كان من جناية في رمضان يستوجب تعزيرًا أشد مما لو كان فيما سواه، وما كان في مكة مثلًا يستوجب تعزيرًا أشد مما سواها من البلدان؛ على أن دليل المالكية على الزيادة في التعزير عن الحد، ما ذُكر عن عمر رضي الله عنه ضرب معن بن زياد أربعمائة جلدة.
أما الحديث: ((لا يجلد أحد فوق عشرة أسواط إلا في حد من حدود الله))، فقد تأولوه على غير ما ذهب إليه الجمهور؛ حيث قالوا: إن هذا الحديث على هذا المعنى، مقصور على زمنه صلى الله عليه وسلم لأنه كان يكفي الجاني منهم هذا القدر، وهو ما نميل إليه ونرجحه.
أوجه الاتفاق والاختلاف بين التعزير، والحدود:
إذا كنا قد تحدثنا عن أقل التعزير وعن أكثره، وتبين لنا أن هناك من الفقهاء من يرى أن يصل بالتعزير إلى الحدود، بل ربما هناك من العقوبة التعزيرية ما هو أشد من العقوبة الحدِّية؛ إذن ينبغي علينا أن نفرِّق بين التعزير والحدود، حتى يكون الأمر واضحًا بالنسبة للجميع؛ فما هي أوجه الاتفاق والاختلاف بين التعزير، والحدود؟
ولبيان ذلك نقول: “التعزير يوافق الحد من وجه واحد فقط، وهو أن كلًّا منهما يُقصد به الزجر والتأديب والاستصلاح، لكنهما يختلفان من أربعة أوجه:
الوجه الأول: أن الحد مقدر شرعًا؛ ومن ثم فلا مجال للاجتهاد فيه بالزيادة عليه، أو النقصان منه، أما التعزير، فإنه منوط تقديره باجتهاد الحاكم، أي: أن الحد مقدر من قبل الله تعالى بتقدير لا يمكن لأحد كائنًا من كان أن يتدخل فيه بزيادة، أو نقص، أما التعزير، فهو منوط إلى الإمام، يقدر فيه العقوبة التي يرى فيها المصلحة؛ وهذه العقوبة قد تتفاوت من شخص إلى شخص؛ فالأمر في ذلك راجع إلى اجتهاد الحاكم.
الوجه الثاني: أن تأديب ذي المهابة والجلال من أهل المروءة والحياء، لا جرم أن يكون في التعزير أخف منه في أهل البذاءة، والسفاهة، والتبلد؛ فمن كان ذا خلق، وحياء، وحس مرهف، فهو قمين بالانزجار بأهون وسيلة، كما لو كان ذلك لومًا مثلًا، أو تنبيهًا، أو تحذيرًا، أو نحو ذلك مما يكفي لزجره وتأديبه، لكن على العكس ذا الحس الثقيل، والشعور المتبلد، والطبع الوضيع، لا شك أنه جدير بأشد العقوبة مما يكفي بزجره ونهيه، كما لو كان ذلك بالضرب، أو الحبس، أو التشهير، ويستدل لذلك، بما أخرجه البخاري، وأحمد، عن عائشةرضي الله عنها أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: ((أقيلوا ذوي الهيئات عثراتهم إلا الحدود)).
وقد قال الماوردي -رحمه الله- تعليقًا على هذا الحديث العظيم، بما يفيد التدرج في الناس على حسب منازلهم عند إقامة العقوبة، فإن تساووا في الحدود المقدرة، فيكون تعزير مَن جلَّ قدره بالإعراض عنه، وتعزير من دونه بالتعنيف له، وتعزير من دونه بزواجر الكلام، وغاية الاستخفاف الذي لا قذف فيه ولا سب، ثم ينتقل بمن دون ذلك، إلى الحبس الذي يحبسون فيه على حسب ذنبهم، وبحسب هفواتهم؛ فمنهم من يحبس يومًا، ومنهم من يحبس أكثر من ذلك إلى غاية مقدرة.
الوجه الثالث في التفريق بين الحد والتعزير: أن الحد لا يجوز فيه العفو، أو الشفاعة إذا بلغ الأمر السلطان، أما التعزير، فيجوز فيه العفو، وكذلك فإن للشفاعة فيه مجال، والأمر في ذلك مرهون بجهة الحق الذي تعلق به التعزير؛ فإن كان التعزير متعلقًا بحق السلطان، وهو مما يراد به التقويم وليس للآدمي فيه حق، فقد جاز للحاكم، أو ولي الأمر أن يراعي الأصلح في العفو، أو التعزير، وجاز كذلك أن يشفع فيه أحد الناس، أو بعضهم فيشفعوا، ويستدل لذلك، بما أخرجه البخاري، ومسلم، عن أبي موسى، أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: ((اشفعوا تؤجروا، ويقضي الله على لسان نبيه ما شاء)).
أما لو تعلق بالتقدير حق لآدمي كالشتم، أو الضرب، أو نحو ذلك كان في ذلك حقَّان؛ حق للسلطان من أجل التقويم والتأديب، وحق للمعتدَى عليه بالشتم، أو الضرب، ومن ثم فلا يجوز للحاكم أن يسقط حق المعتدَى عليه بعفو منه، أو شفاعة؛ بل عليه إيفاء المعتدَى عليه حقه من تعزير الجاني بشتمه مثلما شتم، أو ضربه مثلما ضَرب، فإذا عفا المشتوم، أو المضروب كان للحاكم الخيار في فعل الأصلح؛ فإما أن يعزره على سبيل التقويم، وإما أن يصفح عنه، كأن الفقهاء هنا يفرقون بين ما إذا كان الحق لآدمي، أو لله -تبارك وتعالى- فقالوا: إذا كان الحق لآدمي كان من حق السلطان أن يوفِّي المعتدَى عليه حقه من تعزير الجاني بالعقوبة التي يراها، أو يرى فيها أنها زاجرة وكافية لمثل هذا الجاني.
الوجه الرابع: أن ما يتمخض عن الحد من التلف فهو هدر، أما التعزير فإنه يستوجب ضمان ما حدث عنه من تلف، وهو ما ذهبت إليه الشافعية.
وقال فقهاء المالكية في ذلك: “إذا لم يكن يظن السلامة وجب عليه الضمان، أما إذا ظن السلامة، فلا ضمان عليه، ودليل الشافعية في هذا، ما أخرجه مسلم، عن علي رضي الله عنه قال: ما كنت أقيم على أحد حدًا فيموت فيه، فأجد منه في نفسي إلا صاحب الخمر؛ لأنه إن مات وديته؛ لأن رسول الله صلى الله عليه وسلم لم يسنه، وكذلك ما روي عن عمر رضي الله عنه أنه أرهب امرأة كانت تذكر بسوء إذ أرسل إليها، فأسقطت جنينها ميتًا، فشاور عليها عليًّا، فأشار عليه بدية الجنين، وقد خالفهم في ذلك الحنفية، والحنابلة إذ قالوا: “إن التلف الناشئ عن التعزير هدر، فلا ضمان عليه، ووجه ذلك: أن التعزير يعتبر عقوبة مشروعة من أجل الردع والزجر، فلا ينبغي فيه الضمان”.