Top
Image Alt

مفهوم الصراع اللغوي، وأسبابه، ونتائجه

  /  مفهوم الصراع اللغوي، وأسبابه، ونتائجه

مفهوم الصراع اللغوي، وأسبابه، ونتائجه

قد يحدث بين اللغات ما يحدث بين أفراد الكائنات الحية وجماعاتها، من احتكاك وتنازع على البقاء، وسعي وراء السيطرة، هذا الاحتكاك والتنازع والرغبة في الغلبة والسيطرة إذا كان بين اللغات فهو ما يسمى بصراعها، وتختلف نتائج هذا الصراع اللغوي باختلاف الأحوال، فتارة تكون كفة، فتارة يقوى أحد المتنازعين فيسارع إلى القضاء على الآخر، مستخدمًا في ذلك وسائل القسوة والعنف ويتعقب فلوله، فلا يكاد يبقي على أثر من آثاره، وأحيانًا يقوى أحد المتنازعين أيضًا، ولكنه يمهل الآخر، وينتقص من قوته ونفوذه تدريجيًّا حتى يتم له النصر.

وأحيانًا تتساوى القوتان أو تكاد، فتظل الحرب بينهما سجالًا، ويظل كل منهما في أثنائها محتفظًا بشخصيته ومميزاته.

هذا الصراع اللغوي، ينشأ من عوامل متعددة، نذكر منها خمسة، وأهم الخمسة اثنان:

الأول: نزوح عناصر أجنبية إلى بلد ما.

الثاني: تجاور شعبين مختلفي اللغة.

وسوف نفصل القول فيهما، ثم نذكر العوامل الثلاثة الأخرى.

العامل الأول: نزوح عناصر أجنبية إلى بلد ما.

قد يحدث هذا على إثر فتح أو استعمار أو حرب أو هجرة، فينزح إلى البلد عنصر أجنبي، ينطق بلغة غير لغة أهله، فتشتبك اللغتان في صراع ينتهي إلى إحدى نتيجتين:

الأولى: أن تتغلب إحدى اللغتين على الأخرى، فتصبح لغة جميع السكان، قديمهم وحديثهم، أصيلهم ودخيلهم.

الثانية: ألَّا تقوى واحدة منهما على الأخرى، فتعيشان معًا جنبًا بجنب.

فما سبب تغلب إحدى اللغتين على الأخرى؟

تتغلب إحدى اللغتين على الأخرى، بسبب الزيادة العددية لأحد الشعبين الهمجيين، أو يرجع هذا التغلب إلى رقي الشعب الغالب ودوامه وقوته.

إذا كان كلا الشعبين همجيًّا، أي: قليل الحضارة ضعيف الثقافة، ولكن عدد أفراد أحدهما يزيد عن أفراد الآخر زيادة كبيرة، ففي هذه الحالة تتغلب لغة أكثرهما عددًا، سواء أكانت لغة الغالب أم المغلوب، لغة الأصيل أم الدخيل، ولكن هذه النتيجة لا تحدث، إلا إذا كانت اللغتان المتصارعتان، من شعبة لغوية واحدة أو من شعبتين متقاربتين.

ونضرب أمثلة على هذا، الإنجليز السكسونيون حينما نزحوا من أواسط أوربا إلى إنجلترا، تغلبت لغتهم على اللغات السلتية، التي كان يتكلم بها السكان الأصليون، نظرًا لقلة عدد السلتيين.

وكلا الشعبين ضعيف الحضارة قليل الثقافة، واللغتان تنتميان إلى فصيلة واحدة هي اللغات الهندية الأوربية، ومن النادر أن تتغلب لغة على أخرى من غير فصيلتها.

وقد يحدث أن تتغلب إحدى اللغتين على الأخرى؛ لرقي الشعب الغالب، ودوامه في الرقي وقوته، فالشعب الغالب قد يكون أرقى من الشعب المغلوب، حضاريًّا وثقافيًّا وأدبيًّا، وأقوى منه وأوسع نفوذًا، في هذه الحالة يكتب النصر للغته، فتصبح لغة جميع السكان، وإن قل عدد أفراده عن أفراد الشعب المغلوب، شريطة أن تدوم غلبته وقوته مدة كافية، وشريطة أن تكون اللغتان، من شعبة لغوية واحدة أو من شعبتين متقاربتين، ونذكر بعض الأمثلة:

لقد نجم عن فتوح الرومان في وسط أوربا وشرقيها، أن تغلبت لغتهم اللاتينية على اللغات الأصلية، لإيطاليا وإسبانيا وفرنسا وما إليها، مع أن الرومان المغيرين كانوا في هذه البلاد، أقلية بالنسبة لسكانها الأصليين.

مثال آخر: نجم عن فتوح العرب في آسيا وأفريقيا، أن تغلبت لغتهم على كثير من اللغات السامية الأخرى، وعلى اللغات القبطية والبربرية والكشتية، فأصبحت العربية لغة الحديث والكتابة، في معظم مناطق شبه الجزيرة العربية.

وفي مصر والسودان وشمال إفريقيا، وفي جزء كبير من قسمها الشرقي المتاخم لبلاد الحبشة، مع أن الجالية العربية في هذه البلاد، كان عددها أقل كثيرًا من عدد السكان الأصليين.

ويختلف مبلغ هذا التأثر باختلاف الأحوال، فتكثر مظاهره كلما طال أمد احتكاك اللغتين، وكان النزاع بينهما عنيفًا، والمقاومة قوية من جانب اللغة المقهورة، وتقل مظاهره كلما قصرت مدة الصراع، أو كانت المقاومة ضعيفة من جانب اللغة المغلوبة.

أما النتيجة الأخرى المترتبة على نزوح عناصر أجنبية إلى بلد ما، بسبب فتح أو استعمار أو حرب أو هجرة، فهي عدم تغلب إحدى اللغتين على الأخرى، وبقاؤهما معًا جنبًا لجنب؛ حيث لا زيادة عددية لأحد الشعبين الهمجيين، ولا رقي للشعب الغالب.

فاللغة اللاتينية لم تقو على التغلب على اللغة الإغريقية، مع أن اللاتينية كانت لغة الشعب الغالب؛ وذلك لأن الإغريق مع خضوعهم للرومان، كانوا أعرق منهم حضارة، وأوسع ثقافة وأرقى لغة، وقد سبق أن قلنا: أن إنهزام لغة الشعب المغلوب أمام لغة الشعب الغالب، لا يحدث إلا إذا كان الشعب الثاني، أرقى من الشعب الأول في جميع هذه الأمور.

مثال آخر: اللغة العربية لم تقو على الانتصار على اللغة الفارسية، على الرغم من فتح العرب لبلاد فارس، وبقائها تحت سلطانهم أمدًا طويلًا، ويرجع ذلك إلى أمور، منها قلة عدد الجالية العربية بفارس، وضعف امتزاجها بالسكان، وأيضًا انتماء اللغتين إلى فصيلتين مختلفتين، فالعربية من الفصيلة السامية، والفارسية من الفصيلة الهندية الأوربية، كما لم تقو العربية على الانتصار على اللغات الإسبانية، على الرغم من فتح العرب للأندلس، وبقائها تحت سلطانهم ، نحو سبعة قرون، لأسباب منها: انتماء العربية إلى فصيلة غير فصيلة اللغات الإسبانية، وأيضًا عدم امتزاج الشعوب القوطية بالشعب العربي.

ومن الأمثلة أيضًا: اللغة الفرنسية، لم تتغلب على العربية في الجزائر تغلبًا كاملًا، على الرغم من بقاء الجزائر، تحت الاستعمار الفرنسي البغيض نحو مائة وثلاثين سنة، وعلى الرغم مما بذلته فرنسا من جهود جبارة؛ ليتم للغتها التغلب؛ وذلك لاختلاف اللغتين في الفصيلة.

ولكن عدم تغلب إحدى اللغتين، لا يحول دون تأثر كل منهما بالأخرى، فقد تأثرت اللاتينية بالإغريقية في أساليبها وآدابها، واقتبست منها طائفة كبيرة من مفرداتها، كما تركت اللغة العربية آثارًا قوية في الإسبانية والبرتغالية، والصراع بين العربية والفارسية، قد ترك في كل من اللغتين آثارًا واضحة في الأخرى، وخاصة في ناحية المفردات، والصراع بين الفرنسية والعربية في الجزائر، ترك في العربية آثارًا قوية من اللغة الفرنسية؛ بل كاد ينتهي إلى انقراض اللغة العربية من ألسنة كثير من الجزائريين ولكن الله سلم.

هذا بالنسبة للعامل الأول.

العامل الثاني: فهو تجاور شعبين مختلفي اللغة.

فقد يتيح تجاور شعبين مختلفي اللغة، فرصًا كثيرة لاحتكاك لغتيهما، فتشتبكان في صراع ينتهي إلى واحدة من النتيجتين، نفسيهما اللتين ينتهي إليهما، الصراع في العامل الأول وهو النزوح، فأحيانًا تنتصر إحدى اللغتين على الأخرى، فتصبح لغة مشتركة بين الشعبين، إما للزيادة العددية لأحد الشعبين، مع تفوقه في الرقي أو تساويه مع دوامه، وإما لتغلغل نفوذ أحد الشعبين، مع تفوقه في الرقي أو تساويه أيضًا ودوامه.

الحالات التي يحدث فيها تغلب إحدى اللغتين:

الحالةالأولى: إذا كانت نسبة النمو في أحد الشعبين كبيرة، لدرجة يتكاثف فيها ساكنوه، وتضيق مساحته بهم ذرعًا، فيشتد ضغطه على حدود الشعب المجاور له، وتكثر الهجرات المؤقتة، وانتقالات العمال الصناعيين والزراعيين في مواسم معينة، وتكثر تبعًا لذلك عوامل الاحتكاك والتنازع بين اللغتين، في هذه الحالة تتغلب لغة الشعب الكثيف السكان، على لغة المناطق المجاورة له، بشرط ألا يقل عن أهلها في حضارته وثقافته وآداب لغته، ويتأكد انتصاره إذا كان أرقى من أهلها في هذه الأمور.

من الأمثلة على ذلك اللغة الألمانية، حين طغت على مساحة واسعة، من المناطق المجاورة لألمانيا بأوربا الوسطى، سويسرا وتشيكوسلوفاكيا والنمسا إلى غير ذلك.

الحالة الثانية: إذا تغلغل نفوذ أحد الشعبين في الشعب المجاور له، فتتغلب لغة الشعب القوي النفوذ، بشرط ألا يقل عن الآخر أيضًا حضاريًّا وثقافيًّا وأدبيًّا، والأمثلة على ذلك: اللغة الفرنسية، التي تغلبت على لهجات المناطق المجاورة لها ببلجيكا وسويسرا، فأصبحت الآن لغة الحديث والكتابة، لجميع السكان ببلجيكا، ولقدر كبير من سكان سويسرا، وهذا يذكرنا بتغلب لغة القرشيين على اللغات المضرية الأخرى؛ لما كانت ما تتمتع به، من سلطان أدبي وديني وسياسي.

هذا بالنسبة للنتيجة الأولى، حين تتغلب إحدى اللغتين بسبب تجاور الشعبين، على النحو الذي ذكرنا.

الحالات التي لا تقوى فيها إحدى اللغتين على التغلب:

أما الحالات التي لا تقوى فيها إحدى اللغتين على التغلب، فتشمل معظم العلاقات بين اللغات المتجاورة في العصر الحاضر، فالجوار مثلًا بين فرنسا وانجلترا وألمانيا وإيطاليا وإسبانيا والبرتغال، لم يؤد إلى تغلب لغة شعب منها على لغة شعب آخر؛ لأن احتكاك لغاتها لا ينطبق عليه، ما قلناه في النتيجة الأولى، وكذلك الأمر نفسه بالنسبة للغات الفارسية، والعراقية، والتركية، والأفغانية، فلم يؤد الجوار بينها، إلى تغلب لغة منها على الأخرى، وكذلك الحال بالنسبة للغة الإنجليزية في الولايات المتحدة بأمريكا الشمالية، مع اللغة الإسبانية المجاورة لها في المكسيك.

وأيضًا شأن اللغة البرتغالية، التي يتكلم بها في البرازيل مع اللغة الإسبانية، التي يُتحدث بها في الجمهوريات المتاخمة للبرازيل بأمريكا الجنوبية، كالأرجنتين وبوليفيا وغيرهم، وكذلك شأن الحبشية مع الصومالية.

ولكن عدم تغلب إحدى اللغتين، لا يمنع دون تأثر كل منهما بالأخرى، فالإنجليزية الحديثة بإنجلترا والفرنسية الحديثة بفرنسا تتقارضان المفردات، منذ أن أتيح للشعبين المتجاورين فرصًا للاحتكاك، وتبادل المنافع، وكذلك تفعل الفرنسية بفرنسا مع الألمانية بألمانيا، ومع أخواتها المجاورة لها في الجنوب الشرقي والغربي بإيطاليا وإسبانيا والبرتغال، وكذلك الحال بالنسبة لتجاور اللغتين التركية والفارسية، فقد أثرت الفارسية في التركية والعكس صحيح أيضًا، وتجاور الفارسية في العربية العراقية في العصر الحاضر، وإن لم ينته إلى التغلب اللغوي، لكنه لم يسلم الحال من تأثر كل من اللغتين بالأخرى، في المفردات أحيانًا وفي القواعد أيضًا والأساليب.

هذان هما العاملان الرئيسان في الصراع اللغوي، نزوح عناصر أجنبية إلى بلد ما، بسبب فتح أو استعمار أو حرب أو هجرة، وتجاور شعبين مختلفي اللغة، على النحو الذي فصَّلناه.

من عوامل الاحتكاك اللغوي:

وهناك عوامل أخرى للاحتكاك اللغوي، ولكنها أضعف من هذين أثرًا، منها:

أ. اشتباك شعبين مختلفي اللغة، في حرب طويلة الأمد، فاحتكاك الألمانية والفرنسية والإنجليزية في الحرب العالمية الأولى، قد نقل إلى كل لغة منها، مفردات إلى اللغتين الأخريين، لكن هذا الاشتباك لم يقض قضاءً مبرمًا على واحدة منها.

ب. توثق العلاقات التجارية بين شعبين مختلفي اللغة، وذلك أن منتجات كل شعب تحمل معها أسماءها الأصلية، فلا تلبث أن تنتشر بين أفراد الشعب الآخر، وتمتزج بمتن اللغة، وكثرة الاحتكاك التجاري بين أفراد الشعبين، ينقل إلى لغة كل منهما آثارًا من اللغة الأخرى.                   

ج. توثق العلاقات الثقافية بين شعبين مختلفي اللغة، يؤدي إلى احتكاك لغوي، فاللغة العربية في العصر العباسي، وخاصة لغة الكتابة، قد انتقل إليها عن هذا الطريق، كثير من آثار اللغتين الفارسية واليونانية، ولغة الكتابة ببعض الأقطار العربية، في عصرنا الحاضر كمصر وغيرها، قد انتقل إليها عن هذا الطريق، كثير من آثار اللغات الأوربية، وخاصة الإنجليزية والفرنسية، وهذا واضح في لغة العلوم والآداب والصحافة.

 هذا الصراع الذي اختلفت ضروبه وظروفه، لا يحقق نتائجه من انتصار اللغة الغالبة على اللغة المقهورة مرة واحدة، فقد يستغرق في بعض الحالات قرونًا طويلة، في حالة انتماء اللغتين إلى فصيلة واحدة، والأمر أعسر من ذلك بكثير في حالة اختلافهما، وإلى جانب العنصر الزمني، وأهميته في الصراع اللغوي، نجد عنصر الحضارة ذا تأثير حاسم في مصيره، إذ أنه إلى جانب هذا العنصر، تهون قيمة التفوق العددي، كما أنه في حالة انعدام الحضارة لدى الجماعة اللغوية الغازية، لا يمكن أن يؤتي الصراع نتيجته المرجوة، إلا إذا تشابه المغلوبون مع الغالبين في عدم الحضارة، وبذلك يكون النصر للأكثرين عددًا.

ومن هنا نعلم أن أهم عوامل النصر في الصراع اللغوي “الحضارة”، وأهم شرط لتحقيق هذا النصر هو “الزمن”، ويأتي التفوق العددي من حيث قيمته التأثيرية في المرحلة الأخيرة، إذا علمنا هذا؛ فما المراحل التي يتم بها انتصار لغة على أخرى؟

إن هذا الانتصار يمر بمراحل ثلاث:

الأولى: تقذف فيها اللغة الغالبة اللغة المغلوبة، بطائفة كبيرة من مفرداتها، وهي الكلمات التي تمثل الجانب الحضاري خاصة، الذي لم يألفه المغلوبون، ولا ارتقوا إلى مستواه، ويشمل ذلك أسماء المخترعات والآلات، كما يشمل العادات المخالفة، والتقاليد الرسمية والشعبية، ومصطلحات العلوم وألفاظ الحضارة، وبذلك يضعف المتن الأصلي للغة المغلوبة، ويتجرد من كثير من مقوماته.

ولكن اللغة المغلوبة تظل طوال هذه المرحلة، محتفظة بقواعدها، ومخارج حروفها، وأساليبها في نطق الكلمات، فينطقون بألفاظهم الأصيلة، وما انتقل إليهم من ألفاظ دخيلة، طبقًا لأسلوبهم الصوتي، ومخارج حروفهم، حتى إنهم ليستبدلون في الكلمات الدخيلة، بالحروف التي لا يوجد لها نظير لديهم، حروفًا قريبة منها من حروف لغتهم.

الثانية: تتسرب إلى اللغة المغلوبة أصوات اللغة الغالبة، ومخارج حروفها وأساليبها في نطق الكلمات، فينطق أهل اللغة المغلوبة بألفاظهم الأصيلة، وما انتقل إليهم من ألفاظ دخيلة من المخارج نفسها، وبالطريقة نفسها التي يسير عليها النطق في اللغة الغالبة، وهذه المرحلة لا تأتي إلا بعد الإلف الطويل، والمخالطة الدائمة بين المتكلمين باللغتين، فيزداد بذلك تشبع الناس بالتقاليد النطقية الجديدة، ويزداد تمثلهم لألفاظ اللغة الغالبة، فيأتون بها على وجهها الصحيح أو قريبًا منه.

ومن هنا يزداد أيضًا ابتعادهم عن تقاليدهم النطقية الأصيلة، وينحل النظام الصوتي؛ ليحل محله بالتدريج تلك النظم الدخيلة، وتحاول اللغة المغلوبة في هذه المرحلة مقاومة الغزو اللغوي المتزايد، فيتشبث أهلها بقواعد تصريفهم للكلمات، وقواعد تركيبهم للجمل، وبما امتازت به لغتهم من عبارات مأثورة وأمثلة محفوظة، تحمل في نظرهم خلاصة تجارب القرون، فيظلون يتمثلونها في مواقفهم، ولكن ذلك لا يمنع طغيان التيار الغازي، وتدفق موجاته العارمة، في محاولة للقضاء على هذه المقاومة.

الثالثة: وهي التي تنهار فيها مقاومة اللغة انهيارًا تامًّا، فتستسلم للصراع، وتسقط معاقلها المتبقية، إلى أن يسقط معقل القواعد النحوية، فتفرض اللغة المنتصرة نفسها فرضًا، وتنسحب اللغة المنهزمة من مجال الاستعمال، وبذلك تكون ماتت على ألسنة أصحابها، وانقرضت انقراضًا يكاد يكون كاملًا، ومع ذلك فإن اللغة المغلوبة هذه بوضعها هذا، لابد أن تؤثر أيضًا في اللغة الغالبة، وأن تترك فيها بعض بصماتها، فتظهر صورة جديدة تعد بمثابة، تطور في اللغة الغالبة على ألسنة المغلوبين.

هذا بالنسبة للصراع اللغوي، مفهومه وأسبابه ونتائجه، وقبل أن أتركه للعنصر الآخر، أود أن أقول: إن العامل السياسي قد يكون له أثر كبير، في حسم نتيجة هذا الصراع اللغوي، حتى بين اللغتين غير المتكافئتين.

وقد برز هذا العامل في العصر الحديث، حين وجدنا كثير من الشعوب المحتلة والمتخلفة، تعمد إلى إحياء لغتها لبعث شخصيتها، وإذكاء روح الكفاح بين أفرادها في مواجهة المحتلين، وقد قفز هذا الوعي بأهمية اللغة، في الصراع من أجل الحرية قفزة عظيمة.

ومن الأمثلة على ذلك، حالة الجزائر، التي سيطر عليها الاحتلال الفرنسي، مائة وثلاثين عامًا، حاول خلالها أن يدمر كل رابطة تربطها بالإسلام والعربية، وقد كان لدى الفرنسيين تخطيط شامل لهذا التغيير، يبدأ بالطفل الجزائري إلى أن يصبح رجلًا كبيرًا، متعاملًا مع المحتلين بلغتهم وبأسلوبهم، يؤازرهم في ذلك تفوق في المفهوم الحضاري، وهجرة هائلة غطت التراب الجزائري كله، وسياسة تقضي على كل أمل في تدارك الخطر، حتى لقد سادت الفرنسية كل مستويات النشاط الثقافي، فكان المفكرون والصحافيون والأدباء يتكلمون، ويستعملون الفرنسية رسميًّا وشعبيًّا، ويجهلون العربية إلا بضع كليمات.

غير أن بعض المصلحين الجزائريين، أدركوا أن المعركة من أجل الحرية، يجب أن تبدأ باستعادة اللسان العربي، فأنشأوا جمعية العلماء، التي ضمت الكتاتيب في المساجد والزوايا، لتعليم اللغة العربية، وتحفيظ القرآن الكريم، وأقبل الناس عليها، مضحين بكل الميزات التي ضمنها المستعمر لرواد مدارسه.

وقد نجحت هذه المحاولات الإصلاحية، وها نحن نشاهد معركة التعريب، في هذا البلد العربي على قدم وساق، تحاول أن تضع اللمسات الأخيرة، لرسم وجه الجزائر العربي المسلم.

ومثال آخر: الصومال؛ حيث كانت تسيطر إيطاليا وفرنسا عليه، وحاولت هاتان الدولتان فرض لغة كل منهما على أبناء هذا البلد، فإذا بهم وقد نالوا حريتهم، يحاولون بعث اللغة الصومالية، التي لم تكن إلى عهد قريب لغة مكتوبة.

وحاولوا وضع نظام كتابي لها؛ لتصبح لغة الدولة الصومالية، وهذه المحاولة بلا شك فشلت؛ لأنها وضعت نظامًا كتابيًّا للغة الصومالية، على أساس الرموز اللاتينية، ولم يتمكنوا من وضع نظام عربي لكتابة هذه اللغة، لأسباب لعب فيها الاحتلال دوره.

هذه هي المظاهر العامة للصراع اللغوي، الذي يبدأ بغزو يعتمد على القوة المسلحة، ثم تحدث من بعده هجرات ذات طابع معين، فهذه هي القواعد التي تحكم ذلك الصراع.

error: النص محمي !!