Top
Image Alt

مفهوم الغزو الفكري ونشأته

  /  مفهوم الغزو الفكري ونشأته

مفهوم الغزو الفكري ونشأته

مفهوم الغزو الفكري، وبداية ظهور المصطلح:

الحمد لله رب العالمين، وصلى الله وسلم وبارك على سيدنا محمد النبي الأمي، وعلى آله وصحبه وسلم أجمعين.

المفهوم اللغوي لكلمة: “الغزو الفكري”:

من المتعارف عليه: أن الغزو يرتبط بالمفهوم العسكري، بالقوات المسلّحة. يرتبط بالصاروخ، المدفع، الطيارة، الدبابة. ويكون هدفه: احتلال الأرض، وطرْد شعب من موطنه ليحتلَّ هذه الأرض شعبٌ آخَر. هذا هو مفهوم الغزو. لكننا لاحظنا في النصف الثاني من القرن العشرين ظهور مصطلح “الغزو الفكري”، بمعنى: أنَّ مواقف أعداء الإسلام تبدّلت وتغيّرت، وأرادت أن تبدأ أولًا بغزو العقول، غزو الفكر؛ لتحتل عقل الإنسان؛ ليكون ذلك مقدمةً تمهيديةً لاحتلال أرضه بعد أن يكون المستعمِر أو الغازي قد جرّد عقله من جميع المفاهيم التي تتعلق بثقافته الأصلية، بِدِينه، بتراثه، وحلّ محلّها مفاهيم أخرى لثقافة أخرى. عملية إحلال وتبديل، أو كما يسميها البعض: عملية غسيل مخ، غسيل العقول من جميع المواريث العقدية، والإسلامية، والحضارية، والثقافية، وإحلال مفاهيم أخرى محلّها أو بدلًا منها.

أدوات الغزو الفكري:

هذه المفاهيم هي مفاهيم استعمارية معادية للإسلام، ولذلك إذا كان الغزو العسكري يستخدم السِّلاح، يستخدم المدفع والطيارة والدبابة، فإنّ الغزو الفكري يستخدم الكلمة، يستخدم الفكرة، يستخدم المفاهيم العقلية أو المواريث العقلية؛ لأن خطر الكلمة في هذا اللون من المواجهة أخطر بكثير من خطر الدبابة والمدفع. لماذا؟ لأنّ الاستيلاء على العقول هو المقدّمة الطبيعية للاستيلاء على الشخص، على الإنسان. فإذا ما استطعنا أن نحتلّ عقلَ الإنسان فكريًّا وثقافيًّا وحضاريًّا، يَسْهُل علينا بعد ذلك أن نوجّه أفعال الإنسان، وأن نوجِّه سلوك الإنسان نحو ما نريد. ولذلك فإن أعداء الإسلام قد سلكوا هذا المسلك ونهجوا هذا النهج نحو الاستيلاء على العقول، ليوجِّهوا الشعوب الإسلامية -وبخاصة المشتغلين بالكلمة والمشتغلين بالثقافة- نحو اعتقاد مفاهيم معيَّنة، وثقافة معيّنة، وحضارة معيّنة، وفوقيّة لجنس معيّن، ليواجهوا بها المفاهيم الإسلامية، والعقائد الإسلامية، والسلوك الإسلامي في شتّى أنحاء العالم الإسلامي.

وهذا الأمر يستدعي منا أن نتناول قضية الغزو الفكري تناولًا تاريخيًّا لنعرف متى بدأ؟ وكيف بدأ؟ وما هي أساليبه؟ وما هي أهدافه، طيلة هذه الأحقاب عبر تاريخ الإسلام كلّه؟

هذه المقدمة بيّنا خلالها مفهوم الغزو الفكري.

نشأة الغزو الفكري:

بداية المواجهة بين الإسلام وخصومه:

إذا طرحنا سؤالًا الآن: متى بدأ الغزو الفكري؟

إن هذا المصطلح بدأ متأخِّرًا، ربما في النصف الثاني من القرن العشرين؛ لكن المواجهة بين الإسلام وبين خصومه لم تكن قاصرة على ظهور هذا المصطلح، ولا متوقِّفة على ظهوره تاريخيًّا، وإنما تمتدّ هذه المواجهة لترتبط بتاريخ الإسلام كلّه منذ أيام الرسول صلى الله عليه وسلممواجهة الإسلام بحملات تندرج تحت هذا المفهوم: “الغزو الفكري”. هذه الحملات تضمّنت أحيانًا التشكيك في نبوّة الرسول صلى الله عليه  وسلم  تضمّنت التشكيك في القرآن الكريم، وهل هو وحي سماوي؟ أم هو من عند الرسول صلى الله عليه وسلم؟ هل هو إلهيّ المصدر؟ أم بشريّ المصدر؟ تضمنّت أيضًا التشكيك في السُّنة النبوية. وتضمّنت التشكيك في جيل الصحابة رضي الله عنه وهم الذين حملوا لنا ونقلوا إلينا النص القرآني، ونصوص السُّنة النبوية المطهّرة.

وكان الهدف من التشكيك في جيل الصحابة بالذات هو: محاولة التشكيك فيما نقلوه عن الرسول صلى الله عليه  وسلم  سواء كان كتابًا أو سُنّة نبوية مطهرة. فكأن قضية الغزو الفكري أو المواجهة الفكرية للإسلام، لم تقتصر على ظهور المصطلح في النصف الثاني من القرن العشرين، وإنما امتدت لتبدأ مع البدايات الأولى لتاريخ الإسلام.

نماذج التشكيك في صدر الإسلام:

وجدْنا البدايات الطبيعية للغزو الفكري تتمثّل في مواقف معيّنة، خاصّةً مع اليهود الذين واجهوا الرسول صلى الله عليه  وسلم  في المدينة المنورة. ربّما في العهد المكي لم يظهر النفاق، وإنما كانت المواجهة صريحة وواضحة مع الرسول صلى الله عليه  وسلم  ومن هنا لا تُعتبر الفترة المكية بداية لوجود ما يسمى بالغزو الفكري. إنما الفترة المدنية أو العهد المدني هو الذي شهد البدايات الأولى لظهور المواجهة الفكرية للرسول صلى الله عليه  وسلم  وللإسلام دينًا وعقيدة وشريعة.

وكان من أوائل ما ظهر في هذا العهد المدني: بعض الأسئلة طُرحت على الرسول صلى الله عليه  وسلم  لا بقصد العلم، ولكن بقصد التشكيك. سئل صلى الله عليه  وسلم  من اليهود عن الروح ما هي؟ وسئل صلى الله عليه  وسلم  عن الذات الإلهية من اليهود أيضًا. قالوا له: “صف لنا ربك! أمِن ذهبٍ هو؟ أم من فضّة؟!”.

ظهر النفاق في المدينة، وكانوا يجلسون بعضهم مع بعض، ويتآمرون حول لقاء الرسول صلى الله عليه  وسلم  هل يؤمنون ببعض الكتاب ويكفرون ببعض؟ هل يجلسون معه في الصباح يستمعون منه القرآن، ثم يجلسون في آخر النهار يكفرون بما آمنوا به أوّل النهار؟ هذه كلّها مواقف واجَه بها اليهود الرسول صلى الله عليه  وسلم  في العهد المدني.

لكن من الأمور التي يُمكن أن نحدِّد من خلالها المنطَلق التاريخي لهذه المواجهة الفكرية، نتلمّسها في موقف اليهود أيضًا على يد أحد رجال اليهود الذين ظهروا في عصر الخلفاء الراشدين وهو: عبد الله بن سبأ.

عبد الله بن سبأ هذا كان من يهود اليمن، وإن كان البعض يشكِّك في هذه الشخصية، ويرى أنها شخصية وهْمية؛ لكن التاريخ أثبت وجود هذه الشخصية، وأثبت آثارها السيئة في تاريخ الحضارة، وتاريخ الفكر الإسلامي كلِّه.

ظهر عبد الله بن سبأ وهو يحمل في ذهنه وفكره العداء للإسلام، وللقرآن الكريم، وللسُّنة النبوية المطهّرة. وبدأ يلتفّ حول الصراعات أو الخلافات التي نشأت في عصر الخلفاء الراشدين، ويستثمرها لصالحه، مثل: الخلاف الذي نشأ في عصر الخليفة الراشد عثمان بن عفان رضي الله عنه استثمر هذا الخلاف ليؤسِّس على أثره أهمّ وأخطر فرقة تبنّت المواجهة الصريحة للإسلام من خلال استغلال عواطف المسلمين نحو آل بيت النبي صلى الله عليه  وسلم  ونحو الإمام علي رضي الله عنه ونحو ولدَيْه الحسن والحسين، ونحو بنت الرسول صلى الله عليه  وسلم  السيدة فاطمة الزهراء.

نسج عبد الله بن سبأ كثيرًا من الأساطير والآراء والأفكار المزيّفة، ونسبها إلى الإمام علي رضي الله عنه ووصفه بصفات النبوّة، وأحيانًا بصفات الألوهية. وبدأ يلتفّ حوله مجموعة من يهود اليمن، وأطلقوا على أنفسهم اسم: “الشِّيعة” -أي: شيعة علي رضي الله عنه  وبدأ يلتفّ حولهم بعض السُّذّج من المسلمين، وتولّى كِبْر هذه القضية وباء بإثمها عبدُ الله بن سبأ، أحيانًا يتناول النصوص القرآنية بتأويلات وتحريفات لا أصل لها لا في اللغة ولا في التنزيل الحكيم. وتأسّس ابتداءً من هذا الرجل ما يمكن أن نسمِّيَه أحيانًا: حزبًا سياسيًّا، وأحيانًا: فرقة من فِرَق المتكلمين وهي: فرقة “الشِّيعة” التي خرج من بطنها أخطر فرقتيْن واجهتا الإسلام مواجهة فكرية: فرقة “الباطنيّة”، وفِرقة “القرامطة”.

ولكن قبل أن أتكلمَ عن فرقتَي: الباطنية والقرامطة، من المهمّ: أن نبيِّن أيضًا أنّ اليهود لم يكونوا وحْدهم الموجودين في الساحة لمحاربة الإسلام محاربةً فكرية، ولكن كان هناك أيضًا الطرف الآخر الذين نسمِّيهم: أهل الكتاب من النصارى.

إذا كان اليهود تجسّدتْ مؤامراتهم في عبد الله بن سبأ، وما نشأ عنه من فِرَق مغالية محرِّفة للكتاب والسُّنة، فإنّ النصارى تبنَّوا أيضًا المواجهة الفكرية للإسلام من خلال التشكيك في أهمّ أصول الاعتقاد وهي: قضيّة القرآن الكريم، وقضيّة التوحيد، تبنَّى هذه القضية في العصر الأموي رجل من رجال الكنيسة القبطية كان يعمل في بلاط بني أميّة يُسمّى: يوحنّا الدمشقي.

هذا الرجل بعد أن انتشر الإسلام شرقًا وغربًا، وبسط سلطانه على كثير من أنحاء المعمورة أيقن تمامًا أنه لا سبيل إلى المواجهة المباشرة لمحاربة الإسلام، وإنما فضّل أو آثر أن يواجه الإسلام بإثارة كثير من الشكوك والشبهات حول العقيدة الإسلامية؛ فوضع رسالةً هي من أوائل ما وصل إلينا من أسلوب المواجهة الثقافية بين الإسلام وخصومه -خاصةً النصارى- في هذا اللون من المواجهة بالذات.

هذه الرسالة وضعها يوحنّا الدمشقي على شكل حوار بين مسلم ونصراني، وأخذ فيها بمنهج: إذا سألك مسلم عن كذا فأجبه بكذا وكذا، وإذا واجهك مسلم فاسأله عن كذا وكذا. وكان ممّا أثاره في هذه الرسالة: قضية خلْق القرآن. هذه المشكلة ظهرت من خلال محوريْن: هذا المحور الذي نتحدَّث عنه الآن، والمحور الثاني ربما أرجَعَه بعض المؤرخين إلى الجعد بن درهم، أو إلى غيره من اليهود الذين تكلّموا في الصفات الإلهية، وتناولوا من خلالها الحديث عن كلام الله، أو عن القرآن الكريم. لكن الذي يهمّنا هنا هو: مواجهة يوحنّا الدمشقي للقرآن الكريم بإثارة الشكوك حول كلام الله: هل هو قديم، أم حادث؟ تناول هذه القضية في شكل حوار بين مسلم ومسيحي.

تقول الرسالة على لسان نصراني: عليك أن تسأل المسلم: أليس يؤمن بأنّ عيسى كلمة الله ألقاها إلى مريم؟ فيقول المسلم: بلى؛ لأن القرآن الكريم يقرر أن عيسى كلمة الله ألقاها إلى مريم. أليس يؤمن المسلم بأنّ القرآن كلام الله؟ فيقول المسلم: نعم القرآن كلام الله. إذا كنتم تؤمنون بأن عيسى كلمة الله، ولا تقولون بأن عيسى إله، وإنما تقولون: هو بشر ومخلوق وهو كلمة الله؛ فيكون كلام الله مخلوقًا. ووضع هذه القضية في شكل قياس منطقي: عيسى كلمة الله وهو مخلوق، والقرآن كلام الله؛ إذًا يكون القرآن -كلام الله- مخلوقًا! وحاول أن يثير هذه الفتنة بين المسلمين. وقد أفلح إلى حد كبير في إثارة هذه القضية التي فرّقت كلمة المسلمين، وامتُحن بسببها الإمام أحمد بن حنبل في العصر العباسي، وما زال المسلمون يكتوون بنار هذه الفتنة إلى الآن.

إذًا قضية إثارة الشبهات والشكوك، ومحاولة غزو المسلمين أو غزو الإسلام من الداخل، بدأت منذ التاريخ المبكِّر، كما وجدنا الآن في عصر الخلفاء الراشدين عبد الله بن سبأ، وفي العصر الأموي يوحنّا الدمشقي.

error: النص محمي !!