مقارنة افتراءات المستشرقين بافتراءات المشركين
هذه فقط نماذج من بعض المستشرقين أيضًا من القرآن من ناحية مصدره، ومن النبي صلى الله عليه وسلم فالقرآن عندهم ليس إلهيًّا ولا ربانيًّا ولا وحيًا نزل من السماء، وإنما هو صناعة بشرية قام بها محمد صلى الله عليه وسلم وأنه أخذ هذا القرآن من مصادر متعدّدة، كان من أهمّ هذه المصادر عندهم: التوراة والإنجيل. ومعلوم لدى كل مسلم: أنَّ الإيمان بالقرآن الكريم وأنه كلام الله تعالى منه بدأ وإليه يعود: أصلٌ من أصول الاعتقاد. ولا ريب في ذلك لدى كل مسلم، وأنه بلفظه ومعناه من الله تعالى. نزل به الروح الأمين على قلب النبي صلى الله عليه وسلم حسب الحوادث، وحسب ما تحتاجه من حلول المشكلات التي تظهر أمام الرسول. وسوف نتناول هذه الدعاوى بالرد عليها -إن شاء الله تعالى- تفصيلًا؛ لكنَّ الذي أودّ أن ألفت النظر إليه: أنَّ ما ردَّده المستشرقون في كتاباتهم وفي مؤلفاتهم، نحن -باعتبارنا مسلمين أو كمتخصِّصين في الدراسات الإسلامية- لم نقرأ فيه شيئًا جديدًا عمّا كان عليه مشركو مكة في عصر النبوّة. ولا نجد فيه جديدًا عمّا قاله المشركون قديمًا عن النبيّ وعن القرآن. ولا نجد فيه إلّا تكرارًا لما ادَّعاه المشركون، وللاتِّهامات التي وجَّهها المشركون إلى القرآن وإلى الرسول، والرسول ما زال على قيد الحياة؛ ولذلك لا نجد كبير عناء في الرد على هذه الدعاوى -إن شاء الله تعالى.
وأحبّ أن ألفت نظر طلاب الدراسات الإسلامية بصفة خاصة: أن يتعوّدوا ويتمرّسوا على قراءة القرآن الكريم؛ لأن قراءة القرآن الكريم، والتمرس على قراءته وحفظه -وإن شاء الله تعالى تكونون جميعًا من حفّاظ القرآن الكريم- وكثرة التعامل مع آيات القرآن الكريم تبيّن لنا بوضوح: أنّ دعاوى المستشرقين ليس فيها شيء جديد أبدًا عمّا قاله المشركون قديمًا. ولذلك نجد أن دعوى المستشرقين أنّ القرآن بشريُّ المصدر، من يقارن بين هذه التهمة وبين ما حكاه القرآن الكريم عن مشركي مكة قديمًا، وعن موقفهم من الرسول صلى الله عليه وسلم يجد أنَّ هذه الدعاوى قد سبق إليها المشركون بأكثر من ألْف وأربعمائة عام. سبق إليها مشركو مكة، ردَّدوها وقالوها، تهمة تهمة؛ بحيث لا نجد في كتابات المستشرقين أبدًا شيئًا جديدًا. وأهل الكتاب في المدينة ردّدوا نفس الدعاوى، خاصةً اليهود؛ بل قد بلغ حرص النصارى على هذه الاتهامات، وعلى تكرارها من جيل إلى جيل، حتى إن بعضهم قد أفردها بمؤلّفات مستقلة، كما فعل يوحنّا الدمشقي، وبولس الأنطاكي في رسائله عن النصرانية والإسلام.
قديمًا قال المشركون عن القرآن الكريم: {فَقَالَ إِنْ هَـَذَآ إِلاّ سِحْرٌ يُؤْثَرُ}(24) {إِنْ هَـَذَآ إِلاّ قَوْلُ الْبَشَرِ}(25) [المدثر: 24، 25] أليست هذه الدعوى هي ما قاله المستشرقون في عصرنا الحاضر؟ وقال القدماء عن القرآن الكريم، قال المشركون في مكة: {وَقَالُوَاْ أَسَاطِيرُ الأوّلِينَ اكْتَتَبَهَا} [الفرقان: 5] أي: محمد صلى الله عليه وسلم {فَهِيَ تُمْلَىَ عَلَيْهِ بُكْرَةً وَأَصِيلاً}( [الفرقان: 5]. أساطير الأولين: نفس الدعوى التي ردّدها المستشرقون لمّا قالوا إنه أخذها من الكتب السابقة. وقال المشركون في مكة عن الرسول قالوا: {إِنّمَا يُعَلّمُهُ بَشَرٌ} [النحل: 103] لما ادَّعَوا إن بحيرى الراهب قالوا: إنه أخذ القرآن عنه. وبعضهم نسب هذه الدعوى إلى بعض رجال الفُرس في شمال الجزيرة العربية، ولذلك تجدون القرآن في سورة “النحل” الآية: مائة وثلاثة، عندما يذكر هذه القصة يفنّدها بمنتهى العقلانية، ببرهان لا يقبل النقيض؛ حيث قال تعالى: لّسَانُ الّذِي يُلْحِدُونَ إِلَيْهِ أَعْجَمِيّ وَهَـَذَا لِسَانٌ عَرَبِيّ مّبِينٌ} [النحل: 103]: بمعنى: أن الشخص الذي يدّعون أن محمدًا صلى الله عليه وسلم تعلّم عنه القرآن لا يعرف العربية، وإنما كانت لغته الفارسية، ومحمد صلى الله عليه وسلم لا يعرف الفارسية، وإنما كانت لغته العربية، فكيف يأخذ هذا عن ذاك؟ اقرءوا هذه الآيات.
وفي القرآن الكريم حكايةً عن المشركين أيضًا: {وَقَالُواْ يَأَيّهَا الّذِي نُزّلَ عَلَيْهِ الذّكْرُ إِنّكَ لَمَجْنُونٌ} [الحجر: 6]. أليست هذه هي نفس الدعوى التي ردّدها المستشرقون. وقالوا قديمًا للرسول صلى الله عليه وسلم :{ لَسْتَ مُرْسَلاً }[الرعد: 43]. وقالوا غير ذلك عن القرآن وعن الرسول صلى الله عليه وسلم ولذلك أرجو من طلبة العلم خاصةً المهتمِّين بالدراسات الإسلامية: أن يقرءوا القرآن المكي بصفة خاصة؛ لأنه ذكَر هذه الدعاوى وفنّدها قضيةً قضية.
القرآن المكي هو الذي ذكَر لنا موقف المشركين في مكة من القرآن، ومن الرسول صلى الله عليه وسلم . اتّهام الرسول بأنه ساحر، وأن القرآن سحر. اتّهامه بأنه ليس نبيًّا، وأنه تعلّم القرآن من غيره، وأن القرآن أساطير الأوّلين اكتتبها، وأن القرآن نفسه ليس وحيًا من الله، وإنما هو من عند الرسول. كلّ هذا بيّنه القرآن فيما نُسمِّيه نحن: “القرآن المكي”. وتولى القرآن بنفسه الرد عليه قضية قضية.
وكذلك لا نجد غرابة في اتهام المستشرقين للرسول بأنه عبقري؛ فإن المشركين قديمًا وجّهوا إليه هذا الاتهام، وخاطبوا الرسول في هذه القضية أمام عمّه أبي طالب. فنحن نقرأ في تاريخ السيرة النبوية: أنّ وفدًا من قريش ذهب إلى عم الرسول صلى الله عليه وسلم في بداية أمر الدعوة، وأخذوا يحاورونه في أمر محمد، وقالوا له: “يا أبا طالب، إنّ ابن أخيك قد سبّ آلهتنا، وسفَّه أحلامنا. فإن كان يريد من هذا الأمر مالًا جمعنا له من أموالنا حتى يكون أكثرنا مالًا. وإن كان يريد رياسة وزعامة أعطيناه هذه الرئاسة والزعامة. وإن كان الذي يأتيه رئيًا من الجن -اقرأ معي يا أخي هذه العبارة مرةً ثانية- إن كان الذي يأتيه هوس جنون عالجناه”. فقضية دعوى الزعامة ودعوى أنه عبقري، وأنه يريد الرياسة، ليست جديدة أيضًا على الرسول؛ وإنما هي نفس القضايا التي ردّدها المشركون قديمًا أمام الرسول صلى الله عليه وسلم وفي العهد المكي.
وفي مثل هذا المقام الذي لا يتّسع لتفصيل القول في تكرار وذكْر هذه الدعاوى التي ذكرها القرآن الكريم، وردّدها المستشرقون حديثًا، ولكن أودّ فقط الإشارة إلى أمور:
لقد قال المستشرقون عن الرسول أنه “مُعَلَّم”. “مُعَلَّم” يعني: علّمه غيره. وقالوا عنه إنه: شاعر وساحر. وقالوا عن القرآن: إنه إفك افتراه. والقرآن الكريم اشتمل على هذه الاتهامات كلها وذكَرها قضية قضية.
هل لو كان القرآن الكريم من عند محمد صلى الله عليه وسلم ألم يكن من الأوْلى والأنفع لصاحب القضية أن يأتي القرآن خاليًا من ذكْر هذه الاتهامات؟ أليس في ذكْر القرآن الكريم لهذه الاتهامات بالتفصيل دليل على أن القرآن ليس من عند محمد، وأنه وحي من السماء؟ لأن القضية تتمثل في الآتي: المحامي الذي يترافع أمام القاضي يحاول أن يذكر الأدلة التي تبيِّن أنه صاحب حق، وتبيِّن ما فيه المصلحة ليكسب قضيّته. فلو كان القرآن من عند محمد، أليس من الأوْلى والأنفع أن يأتي القرآن خاليًا من هذه الاتهامات، بدل ما يعلنها الرسول: إن المشركين اتهموه بكذا وكذا وكذا؟ لا. كان يأتي القرآن بدون ذكْر هذه الاتهامات. ولكن لأنه صلى الله عليه وسلم هو النبيّ، وهو الرسول، وهو الأمين، وهو الصادق فيما بلّغ عن ربه، ذكَر القرآن على لسانه هذه الاتهامات تهمة تهمة، ليحمل القرآن بنفسه في آياته دليل صدْقه، وليحمل معه الرد العقلي والعلمي على كلّ من اتّهم محمدًا صلى الله عليه وسلم بأنه ساحر، أو أنه شاعر، أو أنه كاهن، أو أن القرآن مفترى من عند محمد؛ لأن القرآن لو كان من عند محمد لجاء خاليًا تمامًا من هذه الاتهامات. هذه قضية.
ومَن له صلة بالقرآن الكريم وبتلاوة القرآن الكريم، يدرك تمامًا سقوط هذه الدعاوى الظالمة، ويعلم يقينًا أنّ القرآن الكريم كان أمينًا في عرض هذه الاتهامات على ألْسنة المشركين، وكان أمينًا في الاحتفاظ بها تُتلى ضمن آياته، ويَتعبّد بها المسلم كما يتعبّد بتلاوة غيرها من آيات القرآن الكريم، ليكون القرآن نفسه حاملًا معه أدلّة نفي هذه الاتهامات الكاذبة، وهذه الافتراءات الظالمة، وحاملًا معه دلائل مصدره الإلهي، وأنّ مَن له حظٌّ من العقل والحكمة يعلم تمامًا أنّ هذا القرآن الكريم لو كان من عند محمد لجاء خاليًا تمامًا من ذكْر هذه الاتهامات الموجَّهة إلى شخصه، ولكان أولى به أن يأتي بشهادات تؤيّد صدْقه بدلًا من ذكْر هذه الاتهامات التي توجّه إليه وتوجّه إلى القرآن الكريم، وهو ما زال في أوّل عهده بالدعوة.
إن تسجيل القرآن الكريم لهذه الاتهامات يدل على أمور مهمّة، سوف نتناولها بالتفصيل فيما يأتي.