Top
Image Alt

مقاصد الشريعة

  /  مقاصد الشريعة

مقاصد الشريعة

الشرائع كلها من لدن شريعة آدم إلى شريعة نبينا صلى الله عليه  وسلم جاءت لتحقق للناس المصالح وتدرأ عنهم المفاسد، وهذا الأمر هو الذي أفرد له الشاطبي -رحمه الله- جزءًا من كتابه (الموافقات) فتكلم عن مقاصد الشريعة الإسلامية، وعن أقسام هذه المقاصد، فنحن نمهد ونقدم ونوطئ لكلامنا عن المصلحة المرسلة أو الاستصلاح بمقصود الشارع الحكيم في تشريع الأحكام، ما مقصود الشارع في تشريعه للأحكام؟ وما أقسام هذا المقصود؟ وما الذي يعرف به مقصود الشارع؟

1. مقصود الشارع في تشريع الأحكام:

كل من يستقرئ ويتتبع أحكام الشريعة الإسلامية يجد أنها قد أقامت أحكامها على رعاية مصالح الناس, ودرء المفاسد عنهم، فأحكام الشريعة الإسلامية, بل أحكام كل الشرائع: شريعة آدم، وشريعة نوح, وشريعة إبراهيم، وشريعة موسى، وشريعة عيسى، وشريعة نبينا محمد صلى الله عليه  وسلم أحكام تلك الشرائع قامت على رعاية مصالح الناس, ودرء المفاسد عنهم, وتحقيق أقصى الخير لهم في الدنيا والآخرة.

فكأنَّه لا خلاف بين علماء المسلمين الذين يعتد بآرائهم في أن المقصود بأحكام الشريعة الإسلامية حفظ مقاصدها في الخلق، ومقاصد الشريعة في الخلق هي مصالحهم, وليست هذه المصالح مقصورة على الدنيا, بل تشمل مصالح الآخرة أيضًا, كما قرر ذلك الشاطبي والآمدي -رحمهما الله.

والله سبحانه وتعالى قد جعل رسالة النبي محمد صلى الله عليه  وسلم رحمة للناس كافة، وهذا أكبر دليل على أنَّ شريعة الإسلام شريعة تحقق المصالح وتدرأ المفاسد, فهذا معنى الرحمة في شريعة النبي صلى الله عليه  وسلم قال تعالى: {وَمَآ أَرْسَلْنَاكَ إِلاّ رَحْمَةً لّلْعَالَمِينَ} [الأنبياء: 107] ومقتضى هذه الآية الكريمة أن تكون أحكام الله تعالى مبنية على المصلحة, قائمة على رعايتها, وإلا كانت الرسالة نقمة لا رحمة، لكن منطوق الآية كما تسمعون: {وَمَآ أَرْسَلْنَاكَ إِلاّ رَحْمَةً لّلْعَالَمِينَ} كما أودع الله تعالى في كتابه هذه الشريعة, وهو القرآن الكريم الشفاء والهدى والرحمة لكل من آمن به واتبعه, كما قال تعالى يخاطب الناس كافة: {يَأَيّهَا النّاسُ قَدْ جَآءَتْكُمْ مّوْعِظَةٌ مّن رّبّكُمْ وَشِفَآءٌ لّمَا فِي الصّدُورِ وَهُدًى وَرَحْمَةٌ لّلْمُؤْمِنِينَ} [يونس: 57].

ومن استقرأ أحكام هذه الشريعة المحمدية، وتأمل ما عُلِّلت به في القرآن الكريم, والسنة النبوية, تبين له بجلاء ووضوح أنها قصدت إلى إقامة مصلحة الخلق في كل ما شرعته, حتى العبادات نفسها روعيت فيها مصلحة المكلفين؛ إذ إنَّ الله تعالى غني عن عبادة خلقه لا تنفعه طاعتهم وشكرهم, ولا تضره معصيتهم وكفرهم، وإنما يعود ذلك إليهم أنفسهم، قال تعالى: {وَمَن شَكَرَ فَإِنّمَا يَشْكُرُ لِنَفْسِهِ وَمَن كَفَرَ فَإِنّ رَبّي غَنِيّ كَرِيمٌ} [النمل: 40] وقد اقتضت حكمة الله تعالى, ورحمته, وجوده, وإحسانه, أن يتعبد خلقه بما فيه صلاحهم وفلاحهم في العاجلة وفي الآجلة؛ ولهذا نقرأ في كتاب الله تعالى مثل هذه التعليلات للعبادات الشعائرية الكبرى في الإسلام، مثل الوضوء والصلاة، والصيام، والحج، والزكاة.

2. كلام العلماء في مقاصد الشريعة:

أكد المحققون من علماء الأمة أنَّ الشريعة الإسلامية إنما وُضعت لإقامة مصالح العباد في المعاش والمعاد، أو في العاجل والآجل، أو في الدنيا والآخرة:

يقول الشاطبي -رحمه الله- وهو من أفضل العلماء الذين تكلموا عن المصالح, ومقاصد الشريعة الإسلامية, وتقسيم هذه المقاصد يقول -رحمه الله: إن وضع الشرائع إنما هو لمصالح العباد في الآجل والعاجل. وتأمل إلى كلام الشاطبي: “إن وضع الشرائع”، ولم يقل الشريعة الإسلامية؛ ليعلمنا أن الشرائع كلها بدءًا من شريعة آدم, وانتهاء بشريعة خاتم الأنبياء والمرسلين, إنما وُضعت لمصالح العباد في الآجل وفي العاجل.

والبيضاوي -رحمه الله- وهو من الشافعية, يذكر نحو كلام الشاطبي عند الكلام على أن المناسبة علة وطريق مثبِت للتعليل، من ضمن طرق التعليل في باب القياس ما يُعرف بالمناسبة، فعند كلام البيضاوي عن المناسبة قال -رحمه الله:

لأن الاستقراء -يعني تتبع أحوال الأحكام الشرعية- دل على أن الله سبحانه شرع أحكامه لمصالح العباد تفضلًا وإحسانًا، فالله تعالى شرع الأحكام لتحقيق مصالح العباد في الدنيا والآخرة, ودفع المفاسد عنهم.

وهذا الإسناوي -رحمه الله- شارح (منهاج الوصول إلى علم الأصول) للقاضي ناصر الدين البيضاوي يقول أيضًا عند الكلام على المناسبة: إن الله تعالى شرع أحكامه لرعاية مصالح عباده.

ويقرر العز بن عبد السلام سلطان العلماء هذا المعنى فيقول: إنَّ الله أرسل الرسل وأنزل الكتب لإقامة مصالح الدنيا والآخرة ودفع مفاسدهما.

هذه شريعة الإسلام السمحة التي مبناها على رعاية مصالح الدنيا والآخرة، ودفع المفاسد لكل الناس ولكل الخلق، بل تعدت هذه المصلحة من الإنسان إلى الحيوان في الشريعة الإسلامية، فشريعتنا هي الشريعة التي تأمر بالرفق بالحيوان, والتي تكافئ على ذلك -الله أكبر على هذه الشريعة, ما أجملها من شريعة.

ويقول أيضًا العز بن عبد السلام في موضع آخر: ما أمر الله تعالى بشيء إلا وفيه مصلحة عاجلة أو آجلة, أوكلاهما, عني: قد تكون المصلحة عاجلة و آجلة, أو تكون عاجلة الآن فقط, أو تكون آجلة, وما نهى الشارع الحكيم عن شيء إلا وفيه مفسدة عاجلة, أو آجلة, أو كلاهما، وما أباح شيئًا إلا وفيه مصلحة عاجلة، فالأشياء التي أباحها الشارع الحكيم وما أكثرَها، وأوسع دائرة في التكليف هي دائرة المباح، أوامر الشريعة محصورة ومحدودة, ونواهي الشريعة محصورة ومحدودة, أما الأمور المباحة في الشريعة فغير محصورة وغير محدودة، وهذه الأمور المباحة لما أباحها الشارع كان قصده منها تحقيق المصالح للناس, ودفع المفاسد عنهم.

بهذا نصل إلى نتيجة مؤكدة, وهي أن مقصود الشارع الحكيم من تشريع الأحكام هو تحقيق المصالح والمنافع للناس, ودرء المفاسد عن الناس، وأن هذه المقاصد خمسة يسميها العلماء: المقاصد الضرورية, حفظ الدين، وحفظ النفس، وحفظ العقل، وحفظ النسل, وحفظ المال.

3. أقسام مقصود الشريعة:

وهذا تقسيم الإمام الشاطبي -رحمه الله- ومن وافقه؛ ولهذا يقول الشاطبي في (الموافقات):

تكاليف الشريعة ترجع إلى حفظ مقاصدها في الخلق، وهذه المقاصد لا تعدو ثلاثة أقسام:

القسم الأول: المقاصد الضرورية:

معناها: أنها لا بد منها في قيام مصالح الدين والدنيا, بحيث إذا فُقدت هذه المصالح الضرورية لم تجر مصالح الدنيا على استقامة أبدًا، بل على فساد وتهارج وفوت حياة، وفي الآخرة فوت النجاة والنعيم, والرجوع بالخسران المبين، فهب أننا لا نحافظ على الدين لا تستقيم حياتنا هذا في الدنيا، وفي الآخرة نستوجب العقاب الأليم، وهب أننا لا نحافظ على نفوسنا فهذا يؤدي إلى إهلاك النفس, وإلى إتلاف النفس, وإلى انتشار القتل, وإلى الإضرار بالنفس, هذا في الدنيا، وفي الآخرة عقوبة شديدة، وهب أننا لا نحافظ على عقولنا فهذا يؤدي إلى تضييع العقول؛ لأنَّ العقل إذا لم نحافظ عليه سنعطيه مسكرات ومفترات, فتكون حياتنا على غير استقامة, وفي الآخرة أيضًا خسران مبين، وهب أننا لا نحافظ على نسلنا فهذا يؤدي إلى اختلاط الأنساب, وفي الآخرة عقاب أيضًا على ذلك، وهب أننا لا نحافظ على أموالنا, فهذا يؤدي إلى أكل أموال الناس بالباطل، وإلى السرقة، وإلى الغصب، وإلى الرشوة، وإلى كذا, وإلى كذا, وفي الآخرة خسران مبين.

ومجموع المقاصد أو المصالح الضرورية هي الخمسة التي ذكرناها.

المحافظة على هذه الضروريات يكون بأمرين:

أحدهما: ما يقيم أركانها ويثبت قواعدها، فلا بد أن نقيم أركان هذه المقاصد الضرورية الخمسة، وأن نثبت قواعدها، وذلك يكون عبارة عن مراعاتها من جانب الوجود.

الثاني: ما يدرأ عنها الاختلال الواقع أو المتوقع، وذلك عبارة عن مراعاتها من جانب العدم.

إذن المقاصد الضرورية نريد أن نحافظ عليها من جانبين: جانب الوجود وجانب العدم.

من الضروريات الخمس: حفظ الدين:

نريد أن نحافظ عليه من جانب الوجود, من جانب تثبيت أركانه وقواعده, الله تعالى شرع العبادات التي من شأنها أن تثبت هذا الدين وتقيم أركانه وتقوي قواعده، فإنسان بدون عبادات معناه أنه لا دين له، لكن الله تعالى لما كلفني بشريعة الإسلام أمرني بمجموعة من العبادات من شأن المحافظة عليها أن تقيم وتثبت هذا الدين الإسلامي الحنيف، فأمرني بالوضوء، وأمرني بالصلاة، وأمرني بالصيام، وأمرني بالزكاة، وأمرني بالحج، وأمرني بكذا, وأمرني بكذا, هذه الأمور تحافظ على الدين من جانب الوجود.

ومن جانب العدم قال: لا بد أن ندرأ وندفع كل شيء من شأنه أن يعود على الدين بالهدم، فشرع الجهاد في سبيل الله: {وَقَاتِلُوهُمْ حَتّىَ لاَ تَكُونَ فِتْنَةٌ وَيَكُونَ الدّينُ كُلّهُ لله} [الأنفال: 39] وحرَّم الردة، وفي الحديث: ((من بدل دينه فاقتلوه)) وحرَّم الاستهانة والاستهزاء بالدين الإسلامي, أو بالقرآن الكريم, أو بالرسول العظيم صلى الله عليه  وسلم أو بأصحابه، فكل ما من شأنه أن يعود على الدين بالهدم أو بالضرر, الشريعةُ الإسلامية تدرؤه؛ ولذلك يقول أهل العلم: فمن أجل المحافظة على الدين من جانب الوجود شرع الشارع أصول العبادات كالإيمان، والنطق بالشهادتين، والصلاة، والصيام، والزكاة، والحج وغير ذلك.

وأما حفظ الدين من جانب العدم, فقد شُرعت العقوبات الرادعة لكل جريمة تُعد اعتداءً على الدين الذي تؤمن به الجماعة, وتعتبره ضرورة من ضروريات الحياة, لا تقل عن الحياة نفسها، فبعد أن قرر الشارع الحكيم حرية الاعتقاد, وأنَّه لا إكراه في الدين, أوجب بعد ذلك قتل وقتال كل من يحاول هدم هذا الدين أو النيل منه؛ قال تعالى: {وَقَاتِلُوهُمْ حَتّىَ لاَ تَكُونَ فِتْنَةٌ وَيَكُونَ الدّينُ كُلّهُ لله فَإِنِ انْتَهَوْاْ فَإِنّ اللّهَ بِمَا يَعْمَلُونَ بَصِيرٌ} [الأنفال: 39] كما أمر الشارع الحكيم بقتل كل من يحاول هدم الدين, بالردة عنه قال صلى الله عليه  وسلم: ((من بدل دينه فاقتلوه)) فطالما أنك اخترت الدين ودخلت في الدين طواعية وباختيارك دون إكراه, فليس لك أن تخرج منه ولا أن ترتد عنه، وأنت قبل أن تدخل الدين عرفت أن من بدل دينه عقوبته القتل، وإن اختلف الفقهاء في تطبيق عقوبة الردة هل تكون على الفور, أو تكون بعد استتابة هذا المرتد؟ حتى في فقه الحنفية يُحبس إلى أن ينصلح حاله، فليس حظ الإسلام أن يُقتِّل أبدًا, حظ الإسلام أن يراجع الإنسان نفسه مرة ومرة قبل أن يقدم على جريمة تستوجب عقوبة من العقوبات.

هذا بالنسبة للدين وهو المقصود الأول, والمقصود الأعظم من المقاصد الضرورية.

من الضروريات الخمس: حفظ النفس:

فمن أجل المحافظة على النفس البشرية من جانب الوجود, فكيف أحافظ على نفسي من جانب الوجود؟ الشارع الحكيم أباح لك المأكولات, والمشروبات, والملبوسات, والمسكونات, إلى غير ذلك مما يعرف عند علماء الأصول بقسم العادات, والمعاملات، فالشريعة أباحت لي أكل الطيبات, وشرب الطيبات، وأباحت لي الملبوسات, والمسكونات؛ لأن الإنسان إن لم يأكل, أو يشرب, أو يلبس, أو يسكن؛ يهلك؛ فلذلك الشريعة حفاظًا على النفس من جانب الوجود أباحت له هذه الأشياء.

وأما حفظ النفس من جانب العدم, فقد تكفلت به شريعة القصاص, والديات, باب كبير في الفقه الإسلامي يعرف بالقصاص, والديات، والقصاص, والديات في الفقه الإسلامي تكون في النفس وفي الأطراف، فالشريعة الآن تريد أن تحافظ على النفس من جانب العدم، فيقول الله تعالى: {وَلَكُمْ فِي الْقِصَاصِ حَيَاةٌ يَأُولِي الألْبَابِ} [البقرة: 179] وهذا معنى قول العرب قبل نزول الآية: “القتل أنفى للقتل” يعني تشريع القصاص من شأنه أن يحافظ, ويُبقي مهج الناس, ويحافظ على الناس؛ لأن من يعرف أنه إذا قتل عمدًا قُتل راجع نفسه ألف مرة قبل أن يُقدم على هذه الجريمة؛ ولذلك يقول تعالى: {وَلَكُمْ فِي الْقِصَاصِ حَيَاةٌ يَأُولِي الألْبَابِ}.

من الضروريات الخمس: حفظ النسل:

فمن أجل المحافظة على النسل من جانب الوجود شرع الله تعالى الزواج؛ فالنسل لا يكون إلا عن زواج صحيح، وبذلك يُعلم حرمة الزنا, وحرمة العقود الباطلة, نكاح المتعة, ونحو ذلك، فالله تعالى حفاظًا على النسل من جانب الوجود شرع لنا الزواج حتى لا تكون المرأة كلأً مباحًا لكل راتع، بل لا يتحقق الزواج إلا بإيجاب وقبول بين الزوج وولي الزوجة، ومنع الشرع الاعتداء على الحياة الزوجية والاعتداء على الأعراض, سواء أكان بفعل الفاحشة, أم بالقذف، فالله تعالى حرم الزنا, وحرم القذف؛ لأنَّ كل ذلك فيه اعتداء على النسل.

وأما حفظ النسل من جانب العدم فقد شرع الله تعالى حد الزنا، وجعل عقوبة للقاذف، وجعل عقوبات تعزيرية وُضعت لحماية النسل.

أيُّ دين هذا ؟! ما أجمل هذا الدين الذي يحافظ على الدين، ويحافظ على النفس، ويحافظ على النسل، ويحافظ على العقل، ويحافظ على المال، ولنا أن نتصور مجتمعًا يحقق هذه المقاصد الضرورية الخمسة، كيف يكون حاله! وكيف يكون شأنه!

من الضروريات الخمس: حفظ المال:

ومن أجل المحافظة على المال من جانب الوجود شُرعت المعاملات التي تنظم التعامل بين الناس على أساس العدل والتراضي لتنمية المال، المال في الشريعة الإسلامية لا بد أن ينمو ولا بد أن يؤدي دوره ليحقق للناس المصالح، فنماء هذا المال لا بد أن يكون عن طريق معاملات مَرْضِيَّة ومشروعة من الشارع الحكيم، فالله تعالى نظم لنا هذه المعاملات, وبينها لنا رسول اللهصلى الله عليه  وسلم وبَيَّن أنواع المعاملات من بيع, وشراء, وإجارة, ورهن, ومزارعة, ومساقاة, ونحو ذلك من المعاملات المعروفة.

وحافظ على المال من جانب العدم بتشريعه حد القطع في السرقة, هذا المال إذا سُرق وأُخذ خفية لا بد أن تقطع يد هذا السارق؛ حفاظًا على هذا المال، ومنع الاعتداء عليه بالنصب, أو الرشوة, أو الربا, كل هذه أمور من شأنها أن تعود على المال بالهدم، فالشريعة الإسلامية تدخلت وأوجبت عقوبات رادعة.

من الضروريات الخمس: حفظ العقل:

فالشريعة حافظت على العقل من جانب الوجود بكل ما يعود على النفس بالحفظ من جانب الوجود؛ لأنَّ العقل جزء من النفس, فأباحت له المأكولات, والمشروبات, والملبوسات, والمسكونات, وأباحت له شرب الطيبات، فهذا يحقق الحفاظ على العقل من جانب الوجود.

وأما من جانب العدم فقد شرعت عقوبة توقَّع على الشخص الذي يتناول شيئًا يُفسد عقله من شرب الخمر، أو أي نوع من أنواع المسكرات، أو المفترات، أو هذه الأمور التي تعود على العقل بالخسران، وقد روى الشيخان عن أنس رضي الله  عنه قال: ((جَلد النبي صلى الله عليه  وسلم في الخمر بالجريد والنعال، وجَلد أبو بكر رضي الله  عنه أربعين)) فهذه عقوبة شرعها الإسلام لمن يعتدي على عقله.

وبالجملة فدفع كل ما يترتب عليه فوت أصل من الأصول الخمسة المذكورة يعد ضروريًّا.

الخلاصة:

المقاصد الضرورية:

المقاصد الضرورية خمسة هي حفظ الدين، وحفظ النفس، وحفظ العقل، وحفظ النسل، وحفظ المال، وأن هذه المقاصد الضرورية لا بد من مراعاتها من جهتين: من جهة الوجود, ومن جهة العدم، ومن جهة الوجود معنى ذلك أن نحافظ على تثبيت قواعدها وإقامة أركانها، وأن هذه المقاصد الضرورية مرتبة ترتيبًا تنازليًا, فأعلاها حفظ الدين، ثم النفس، ثم العقل، ثم النسل، ثم المال.

وهل هذه الضروريات محافَظ عليها في شريعة الإسلام فقط, أم في كل الشرائع؟

نقول: في كل الشرائع، فهي مراعاة في كل ملة من الملل.

هل المقاصد في الشريعة الإسلامية ضرورية فقط؟

لا, المقاصد في الشريعة ثلاثة أقسام: مقاصد ضرورية، مقاصد حاجية، مقاصد تحسينية.

لكن أعلى المقاصد هي المقاصد الضرورية، ومن أجل الحفاظ على المقاصد الضرورية تُرتكب المحظورات، وهذا معنى قول العلماء: “الضرورات تبيح المحظورات” وكثير من الناس يفهم هذه العبارة خطأ، فالضرورات يعني: الأمر الضروري الذي لو لم يرتكب المحظور من أجله لهلك الإنسان في واحد من الخمسة التي ذكرناها، يهلك في دينه، أو في نفسه، أو في عقله، أو في نسله، أو في ماله.

فالشريعة الإسلامية مثلًا من أجل الحفاظ على الدين شرعت الجهاد وقتال من يقاتل المسلمين, أليس في القتال وفي الجهاد قتل للمُهَج وللأنفس؟ فمع اعتقاده بأنه قد يموت في الجهاد, لكنه يحافظ على مقصود أعظم.

والشريعة الإسلامية من أجل الحفاظ على النفس أباحت لنا المحظور, فأباحت لنا أكل الميتة حال الاضطرار, هب أن إنسانًا اضطر إلى أن يأكل الميتة, وإن لم يأكل الميتة هلك ومات بالفعل, نقول: الضرورات تبيح المحظورات.

قد بيّنت أن المقاصد الحَاجِيّة تأتي بعد المقاصد الضرورية، وشرحت معنى قول العلماء: “الضَّرُورَاتُ تُبِيحُ الْمَحْظُورَاتِ” وليس الحاجيات هي التي تبيح المحظورات، ومعنى اضطر يعني: وصل إلى حدّ الهلاك في أمر من الأمور الخمسة، أما الأمور الحَاجِيّة فلا يصح معها ارتكاب المحظور.

القسم الثاني: المقاصد الحاجية:

عرّف العلماء المقاصد الحَاجِيّة بأنَّها ما افتقر إليها من حيث التوسعة، ورفع الضيق المؤدي في الغالب إلى الحرج والمشقة اللاحقة بفوت المطلوب.

إذن المقاصد الحَاجِيّة يُحْتَاج إليها من جانب التوسعة ورفع الضيق، هب أن هذه المقاصد غير موجودة: هل يهلك الإنسان؟ لا يهلك، لكنه يعيش مع ضيق ومع نوع من المشقة، لكنه يعيش ولن يهلك في واحد من الخمسة؛ ولذلك قال أهل العلم: إذا لم تُرَاعَ المقاصد الحَاجِيّة دخل على المكلَّفِين على الجملة الحرج والمشقة، ولكنه لا يبلغ مبلغ الفساد العادي المتوقع في المصالح العامة.

ومعنى هذا أنَّ الشارع الحكيم إذا لم يشرع من الأحكام ما يحفظ المصالح الحَاجِيّة، فلن يفوت دين، ولا نفس، ولا عقل، ولا نسل، ولا مال، بل تبقى أصول هذه المصالح محفوظةً، ولكن هذا الحفظ لا يكون أكمل وأتمَّ إلا إذا رُوعيت هذه المصالح.

وعلى ذلك لو سألنا: هل الضرورات تبيح المحظورات؟ تكون الإجابة: نعم. ولو سألنا: هل الحاجيات تبيح المحظورات؟ تكون الإجابة: لا.

لماذا أباح في الضرورات المحظورات؟ لأنه لو لم تُرَاعَ المقاصد الضرورية يفوت الدين، أو النفس، أو النسل، أو العقل، أو المال. أما لو لم تُرَاعَ المسائل الحَاجِيّة فلن تفوت نفس، ولا نسل، ولا عقل، ولا مال، ولا دين.

غاية الأمر أنَّ هذه المصالح لا تكون على الوجه الأكمل ولا على الوجه الأتم، وبعبارة أخرى: إنَّ الأحكام التي شُرِعَت لحماية مثل هذه المصالح ليست ضرورية للحفاظ على أصول المصالح الكُلِّيّة، وأنت الآن جدير بأن تقول: المصالح الكلية هي الخمسة، فيسميها العلماء “الضروريات” أو “المقاصد الضرورية” أو “الكليات الخمسة” كما يسمها البعض، وإنَّما هي مكملة لهذا الحفظ ومحتاج إليها فيه.

من أمثلة المقاصد الحاجية في العبادات:

وقد مَثّل الأصوليون للمصالح الحاجية في العبادات بالرُّخَص المُخَفِّفة بالنسبة إلى لحوق المشقة بالمرض والسفر؛ إذن العبادات حال المرض لو لم تتدخل الشريعة بالرُّخَص يدخل عليها بعض المشقة، وبعض التعب، وبعض العنت، وبعض الألم، حال المرض أو حال السفر، فالشريعة تتدخل حال السفر وحال المرض بالرُّخَص: هل يهلك الإنسان؟ لا يهلك. ولو أتم الصلاة حال السفر ولم يقصر الصلاة في السفر: هل يموت؟ لن يموت، لكن تدخل عليه المشقة، بخلاف ما لو اضطر الإنسان إلى أكل الميتة، لا يوجد طعام أبدًا إلا الميتة، لو ترك أكل الميتة: يموت؟ تقول: نعم يموت؛ إذن أكل الميتة صار ضرورة. أما الرخص في السفر وفي المرض حاجة وليست ضرورة، فالعلماء يمثلون للمصالح الحاجية في العبادات بالرخص المخففة، بالنسبة إلى لحوق المشقة بالمرض والسفر؛ فأبيح الفطر في السفر، فالإنسان المسافر له أن يفطر، هب أنه أتمّ صيامه ولم يفطر: يهلك ويموت؟ لا يهلك ويموت، وإنَّما يكون في مشقة وفي حرج.

وكذا قصر الصلاة الرباعية، فلو لم تأت الرخص وجدت المشقة، فلوجود المشقة غالبًا فيه، بل قالوا: مجرد السفر ولو كان خاليًا من المشقة رَخَّصَ الشرعُ فيه بالفطر وبالقصر، وكذا رخَّص للمريض الفطر في رمضان، إذا كان المرض فيه تأثير على المكلَّف في نفسه، أو في تأخير الشفاء، أو زيادة المرض عليه، فالشريعة رخَّصَت له أن يفطر، ورخَّصَت له أن يصلي جالسًا إذا كان لا يقدر على القيام.

فهذه أمثلة للمقاصد الحاجية في العبادات، ولك أن تقول: باب الرخص كله في الفقه الإسلامي من باب المقاصد الحَاجِيّة التي شرعها الله تعالى؛ دفعًا للمشقة ورفعًا للحرج، فلولا وجود الرخص لدخل على الناس المشقة، والحرج، والعناء، والتعب، لكنهم لن يبلغوا مبلغ من فَقَدَ أمرًا من الأمور الضرورية.

من أمثلة المقاصد الحاجية في المعاملات:

القَرَاض:

والقَرَاض هو: توكيل مالك بجعل ماله بيد آخر؛ ليتَّجِر فيه، والرِّبح مشترك بينهما -إنسان يوكل آخر ويقول: خذ هذا المال وتاجر به، على أن يكون الرِّبح بيننا مناصفةً أو بنسبةٍ ما- فهذا القَرَاض في الواقع ونفس الأمر من باب التيسير والتخفيف؛ إذ ربّما يكون الإنسانُ غيرَ قادرٍ على أن يتاجر بنفسه، لكنْ هَبْ أنَّ هذا الإنسان لم يُشْرَعِ القراضُ في حقِّه: هل يهلك؟ لن يهلك. هل يضيع ماله؟ لن يضيع ماله؛ ولذلك قال أهل العلم: القَرَاض من المقاصد الحَاجِيّة.

المُسَاقَاة:

والمُسَاقَاة في باب المعاملات معناها: أن يعامل إنسانٌ إنسانًا على شجر؛ ليتعاهد هذا الشجرَ بالسقي والتربية، على أن ما رزقه الله تعالى من ثمر يكون بينهما، فالمُسَاقَاة الآن شرعها الشرع من باب التيسير والتخفيف، ورفع الحرج والمشقة: فمن أي أنواع المقاصد تكون؟ تكون من أنواع المقاصد الْحَاجِيّة.

تضمين الصُّنّاع:

نجعل الصناع يضمنون ما يتلف تحت أيديهم بدون بَيِّنَة منهم على أنهم لا دخل لهم في هذا التلف: فلو أعطيت مثلًا إنسانًا جهازًا ليصلحه، ثم قال لك: إن الجهاز قد سُرِقَ: فهل يضمن هذا الصانع أو المصلح للجهاز قيمة الجهاز أو لا يضمن؟ العلماء قالوا بتضمين الصناع؛ فإنه يضمن قيمة هذا الجهاز وإن كان الأصل عدم الضمان؛ لأنه في حكم الأمين، فيده على الجهاز يد أمانة وليست يد ضمان، فما الذي يجعلنا نضمِّنه؟ قال العلماء: لكنا هنا نُضَمِّنُه حفاظًا على أموال الناس ومصالحهم، وإلا لكان الصُّنّاع يدّعون تلف الأجهزة أو سرقتها وتضيع أموال الناس، حتى ورد في الخبر عن عليٍّ بن أبي طالب أنه قال: “لا يصلح الناس إلا ذلك” فالحكم بتضمين الصناع نوع من أنواع المقاصد الحاجية.

من أمثلة المقاصد الحاجية في الجنايات:

اللَّوث:

واللوث -كما يقول العلماء: هي البيِّنة الضعيفة غير الكاملة، فإذا رأى إنسان شخصًا يسرع ويريد أن يختفي، ورأى معه آلةً حادةً عليها آثار دماء، ونظر في الناحية الأخرى فوجد شخصًا غارقًا في دمائه يَلْفَظ أنفاسه؛ فإنَّه يحكم بأنَّ الذي معه الآلة هو القاتل، وهذا يسمى لَوَثًا، مع أن اللَّوثَ بَيِّنَةٌ ضعيفةٌ وغير كاملةٍ لكن الشارع جعلها بينة من باب الحَاجِيّات لا من باب الضروريات؛ لجواز أن يكون هذا الشخص بريء وليس هو القاتل.

ضرب الدِّيَة على العاقلة في القتل الخطأ:

فإنّ عاقلة الجاني -وهم عصوبته- يتحملون مع القاتل دِيَةِ القتل، والأصل أن الذي يتحمل هذه الدِّيَة هو الجاني وحده، فالعلماء جعلوا ضرب الدِّيَة على العاقلة في القتل الخطأ من باب المقاصد الحَاجِيّة؛ لأن هذه العاقلة -وهم عصوبة الجاني الذي قَتَل قتلًا خطأً- قد ترث في هذا الجاني، فجعلنا العاقلة تتحمل جزءًا من الدِّيَة مع الجاني، هذا أيضًا من باب المقاصد الحاجية.

من أمثلة المقاصد الحاجية في العادات:

إباحة الصيد:

قال تعالى: {وَإِذَا حَلَلْتُمْ فَاصْطَادُواْ} [المائدة: 2] فما حكم الصيد؟ تقول: مباح. ومن أي أنواع المقاصد: هل هو من المقاصد الضرورية؟ يعني: لو لو يصطد الناس يهلكوا في واحد من الكليات الخمسة؟ أبدًا لن يهلكوا، ولكن قد يدخل عليهم بعض المشقة إذا منعناهم من الصيد.

التمتع بالطيبات:

الأمور الطيبة التمتع بها من باب المقاصد الحَاجِيّة لا من باب المقاصد الضرورية، فالمقاصد الضرورية تتحقق بأي نوع من أنواع الطعام وإن لم يكن طيبًا؛ لأنه يحافظ حينئذٍ على النفس وعلى المُهْجَة، أما في الطيبات فهي نوع من أنواع التفكُّه، فالعلماء مثّلوا للمقاصد الحَاجِيّة في العادات بإباحة الصيد والتمتع بالطيبات، مما هو حلل: مأكلًا، ومشربًا، وملبسًا، ومسكنًا، ومركبًا، ونحو ذلك.

فالمقاصد الحاجية: هي ما افْتُقِرَ إليها من حيث التوسعة ورفع الضيق، ويشملها في باب العبادات الرخص المخففة، ومثّل لها أهل العلم بأمثلة كثيرة في أبواب الفقه المختلفة: في باب المعاملات، والجنايات، وفي باب العادات، والمعاملات… ونحو ذلك.

القسم الثالث: المقاصد التحسينة:

المقاصد التحسينية كما يقول الشاطبي في الموافقات: هي الأخذ بما يليق من محاسن العادات، وتَجَنُّب الأحوال المدنسات التي تأنفها العقول الراجحات. قال: ويجمع ذلك قسم مكارم الأخلاق.

إذن مكارم الأخلاق كلها من باب المقاصد التحسينية، أنت تأخذ بأحسن عادات للناس، وتتجنب الأحوال المدنسات، وتتحلى بمكارم الأخلاق، هذا كله من باب المقاصد التحسينية.

من أمثلة المقاصد التحسينية في الجنايات:

منع قتل الحر بالعبد:

هذا طبعًا على خلاف بين الفقهاء: هل يقتل الحر بالعبد أو لا يقتل الحر بالعبد؟

لكن هب أننا قتلنا الحر بالعبد: هل في هذا عود بالهدم على المقاصد الضرورية؟ ليس فيه، هل فيه نوع من الحرج والمشقة؟ ليس فيه. إذن هو من باب المقاصد التحسينية.

قتل النساء والصبيان والرهبان في الجهاد:

ولذلك كان من هدي النبي صلى الله عليه  وسلم أنَّه يوصي الغزاة بألّا يقتلوا النساء، ولا الصبيان، ولا الرهبان، ولا يقطعوا شجرًا، ولا كذا ولا كذا، آداب الحرب في الإسلام. فهذه الأحكام تجري مجرى التحسين والتزيين كما يقول الشاطبي -رحمه الله تعالى.

من أمثلة المقاصد التحسينية في العادات:

إزالة النجاسة، وستر العورة، وأشباه ذلك…

قالوا: هذه من محاسن العادات، ومن مكارم الأخلاق، وإن كان يترتب على تركها خلل، لكنها من باب المقاصد التحسينية.

آداب الأكل والشرب:

إذا ما تحلّى الإنسان بآداب الأكل والشرب فهو يأتي بابًا من أبواب المقاصد التحسينية، كأن يأكل بيمينه، ويأكل مما يليه، ويأكل بالطريقة التي أرشدنا إليها الرسول صلى الله عليه  وسلم فمن المقاصد التحسينية في باب العادات آداب الأكل والشرب، ومجانبة المآكل النجسات والمشارب المستخبثات. هناك أنواع من المآكل مستخبثة، كمن يأكل ما يعرف بالفسيخ، وهو السمك المملّح، فهذه الأشياء ليست حرامًا، لكنها من باب الأشياء التي قد تُنْكَر على الإنسان، من حيث إنه لا يتحلى بمكارم الأخلاق ولا محاسن العادات.

الإسراف والإقتار في المتناولات:

الإنسان الذي يسرف إسرافًا شديدًا أو يقتِّر تقتيرًا شديدًا، فهذا من الأمور العادية التي ينبغي أن يتركَها الإنسان، فلو تركها كان آتيًا لباب من أبواب المقاصد التحسينية.

من أمثلة المقاصد التحسينية في المعاملات:

المنع من بيع النجاسات -الأمور النجسة لا تباع- وبيع فضل الماء والكلأ، وسلب العبد منصب الشهادة:

فضل الماء والكلأ: يعني ما تبقى من ماء عنك أو كان زائدًا عنك، من مكارم الأخلاق ألا تبيع هذا الفضل، بل تتفضل به على غيرك أو تعطيه غيرك.

وكذا الكلأ -أنواع الحشائش التي تخرج في الأرض- فإن أخذت قدر كفايتك منها فلا تبع الزائد عنها.

هذه الأمور ترجع إلى عادات الناس وأعرافهم.

سلب العبد منصب الشهادة والإمامة: العبد إنسان، كالحر من ناحية الإنسانية، ومع ذلك ليس له أن يشهد؛ فهو مسلوب الشهادة، وليس له أن يكون إمامًا؛ فهو مسلوب الإمامة، فسلب العبد من منصب الشهادة ومنصب الإمامة هو من باب المقاصد التحسينية، لكن هب أن العبد يشهد: هل يترتب على ذلك ضرر؟ لا يترتب على ذلك ضرر. أو يتولى الإمامة؟ لا يترتب على ذلك ضرر، ولا يدخل في حرجٍ ولا مشقةٍ؛ وبالتالي فهو ليس من المقاصد الضرورية ولا من المقاصد الحَاجِيّة، وإنما هو من المقاصد التحسينية.

قالوا: وكذا سلب المرأة منصب الإمامة، يعني الإمامة العظمى، لا تكون المرأة إمامًا أعظم للمسلمين، وسلب المرأة كذلك إنكاحها لنفسها، يعني ما ينبغي أن تتولى المرأة عقد نكاحها بنفسها، بل الأليق بالمرأة أن تتستر وأن يتولى وليها أمر نكاحها، لكن هب أنها تولت أمر نكاحها: يترتب على ذلك هلاك لها في نفسها؟ أبدًا. ولا حرج ولا مشقة؟ ولا حرج ولا مشقة، وإنَّما هي تركت مقصدًا من المقاصد التحسينية.

وبذلك عرفنا مقصود الشارع وهو تحقيق المصالح للناس ودفع المفاسد عنهم، وأن هذا المقصود واحد من ثلاثة: مقاصد ضرورية، ومقاصد حاجية، ومقاصد تحسينية، وقد عرفنا كل نوع ومثلنا له -والحمد لله.

4. ما يُعْرَفُ بِهِ مَقْصُودُ الشَّارِعِ:

قررنا أن مقصود الشارع في تشريع الأحكام هو مراعاة مصالح الناس في الدنيا والآخرة، ومقصود الشارع في تشريع الأحكام يُعرف من جهات أربع:

الجهة الأولى: مجرد الأمر والنهي الابتدائي التصريحي:

يعني: إذا أمرنا الشارع بشيء أو نهانا عن شيء أمرًَا ابتدائيًّا -يعني خرج بدون سبب- وأمرًا صريحًا؛ فإنّ الأمر معلوم أنه إنما كان أمرًا لاقتضائه الفعل، يعني لماذا يأمرنا الشارع؟ لنفعل، فإذا أمر الشارع بشيء كان إيقاع ذلك الشيء والإتيان به مقصودًا للشارع، إذن أنت تعرف مقصود الشارع من مجرد الأمر والنهي الصريح، الشارع إذا أمرني بشيء فمعناه: أن هذا الشيء مقصود للشارع أن أفعله، وكذلك النهي؛ فإنه معلوم أن مقتضى النهي الكف عن الفعل، فإذا ما نهى الشارع عن شيء كان عدم فعله مقصودًا للشارع، كما أن فعله مخالف لمقصود الشارع.

إذن الجهة الأولى من جهات معرفة مقصود الشارع الأمر والنهي الصريح المجرد، فمتى ما مررت على أمر أو نهي في نصوص الشريعة فاعلم أن المأمور مقصود لله، وأن المنهي مقصود لله -يعني: مقصود الكف عنه والترك.

ويتضح ذلك في قول الله تعالى: {إِنّ اللّهَ يَأْمُرُ بِالْعَدْلِ وَالإحْسَانِ وَإِيتَآءِ ذِي الْقُرْبَىَ وَيَنْهَىَ عَنِ الْفَحْشَاءِ وَالْمُنْكَرِ وَالْبَغْيِ يَعِظُكُمْ لَعَلّكُمْ تَذَكّرُونَ} [النحل: 90].

فإيقاع المأمور به في هذه الآية الكريمة، وهو العدل، والإحسان، وصلة الأقارب، مقصود للشارع الحكيم، وعدم إيقاعه مخالف لمقصوده، وكذلك عدم إيقاع المنهي عنه في الآية، وهو الفحشاء، والمنكر، والبغي، مقصود للشارع، وإيقاعه مخالف لمقصوده.

وهذا وجه ظاهر وعام لمن اعتبر مجرد الأمر والنهي من غير نظر إلى عِلّة، ولمن اعتبرَ العلل والمصالح، وهو الأصل الشرعي؛ ولذلك يقول الشاطبي: وإنَّما قُيِّدَ -أي: الأمر والنهي- بالابتداء؛ تحرُّزًا من الأمر أو النهي الذي قُصد به غيره، أي: إنه مقصود لغيره لا لذاته، كقوله تعالى: {يَأَيّهَا الّذِينَ آمَنُوَاْ إِذَا نُودِيَ لِلصّلاَةِ مِن يَوْمِ الْجُمُعَةِ فَاسْعَوْاْ إِلَىَ ذِكْرِ اللّهِ وَذَرُواْ الْبَيْعَ} [الجمعة: 9] فإن النهي عن البيع ليس نهيًا مبتدأً، بل هو تأكيد للأمر بالسعي؛ لأنَّ البيع في حد ذاته مشروع ومباح، ولكن لمّا قال الله تعالى: {وَذَرُواْ الْبَيْعَ} فهذا الأمر حاصله تأكيد الأمر بالسعي إلى الصلاة، فهو من النهي المقصود بالقصد الثاني، فالبيع ليس منهيًّا عنه بالقصد الأول كما نهي عن الربا والزنا مثلًا، بل لأجل تعطيل السعي عند الانشغال به، وما شأنه هذا ففي قصد الشارع من مجرّده نظر واختلاف، كما يقول الشاطبي: “منشأه من أصل المسألة المترجمة بالصلاة في الدار المغصوبة” وقد ذكرتها عند الكلام عن تقسيم الحرام إلى حرام لذاته وحرام لغيره، فالصلاة في الدار المغصوبة: هل تكون صحيحة أو لا تكون صحيحة؟ إذا نظرنا إلى الصلاة مجردة نجدها مشروعة ومأمور بها، وإذا نظرنا إلى الغصب مجرّدًا وجدناه منهيًّا عنه، فإنسانٌ غَصَبَ أرضًا وصلى فيها: فهل نرجح جانب الأمر -وهو الأمر بالصلاة- على جانب النهي -وهو النهي عن الغصب- أو نعكس المسألة؟ فمن غلب جانب الأمر قال: الصلاة صحيحة مع الإثم؛ لأنه غاصب، فهو يستوجب الإثم على الغصب، لكن يُحْكَم بصحة صلاته.

الجهة الثانية: اعتبار علل الأمر والنهي:

إذا كانت الجهة الأولى هي مجرد الأمر والنهي، فإن الجهة الثانية: أن أعرف العلة التي من أجلها أمر الشارع بهذا الفعل، والعلة التي من أجلها نهى الشارع عن هذا الفعل:

فإذا كانت العلل والحكم معلومة عُلِمَ أن مقصود الشارع ما اقتضته تلك العلل من الفعل أو عدمه، وذلك كالنكاح لمصلحة التناسل، الشارع أمرنا بالنكاح: {وَأَنْكِحُواْ الأيَامَىَ مِنْكُمْ} [النور: 32] {فَانكِحُواْ مَا طَابَ لَكُمْ مّنَ النّسَآءِ مَثْنَىَ وَثُلاَثَ وَرُبَاعَ} [النساء: 3] ((يا معشر الشباب، من استطاع الباءة فليتزوج)) ((تناكحوا تناسلوا تكاثروا؛ فإني مباهٍ بكم الأمم)) أو كما قال صلى الله عليه  وسلم.

إذن لو سألتك: ما العلة من الأمر بالنكاح؟ تقول: هي التناسل. والحفاظ على النسل، هل هذا مقصود للشارع أو ليس مقصودًا؟ مقصود.

إذن معرفة العلل والحكم التي من أجلها أمر الشارع أو نهى- طريق من طرق معرفة مقصود الشارع الحكيم، فالنكاح لمصلحة التناسل مقصود للشارع لحكيم، والبيع لمصلحة الانتفاع بالمعقود عليه، {وَأَحَلّ اللّهُ الْبَيْعَ وَحَرّمَ الرّبَا}؟ [البقرة: 275] فالشارع أباح البيع حتى أنتفع أنا المشتري بالسلعة، وتنتفع أنت البائع بالثمن، فعلمي بالعلة التي من أجلها شَرَع الشارعُ البيعَ، هذه جهة وطريق أعرف بها مقصود الشارع.

وكذلك الحدود لمصلحة الازدجار:

لماذا شرع الله الحدود؟ ليزدجر الناس، وليرتدعوا، وليحجموا عن فعل ما يستوجب الحد.

والعلة في باب القياس على ما سيأتي -إن شاء الله- لها مسالك كثيرة تُعرف بها، فالعلة تُعْرَف بالنصِّ، وتُعْرَف بالإجماع، وتُعْرَف بما يُعْرَف بالإيماء والتنبيه، وتُعْرَف بفعل النبي صلى الله عليه  وسلم وتُعْرَف بالمناسبة، وتُعْرَف بالسبر والتقسيم، وتُعْرَف بالشبه، وتُعْرَف بالطّرد والدوران، وتُعْرَف بما يُعْرَف بتنقيح المناط، وتُعْرَف بما يُعْرَف بتحقيق المناط… إلى غير ذلك من المسالك التي نصّ عليها العلماء في معرفة العلة.

إذن الجهة الثانية التي يعرف بها مقصود الشارع هي اعتبار علل الأمر والنهي، ولماذا أمر الله تعالى بهذا الفعل ونهى عن هذا الآخر.

الجهة الثالثة: أن للشارع في شرع الأحكام العادية والعبادية مقاصد أصلية ومقاصد تابعة:

النكاح: المقصد الأصلي منه التناسل، والمقصد التابع طلب السكن والمودة والرحمة، والتعاون على المصالح الدنيوية والأخروية، فأنت حينما تتزوج هناك مقصد أصلي للشارع الحكيم، وهو التناسل، هذا المقصد الأصلي يتبعه مقاصد، وإنَّ لم تحضر في ذهنك عند العقد، منها طلب السكن، وطلب المودة، وطلب الرحمة، ومنها التعاون على المصالح الدنيوية والأخروية، ومنها الاستمتاع بالحلال، والنظر إلى ما خلق الله من المحاسن في النساء، والتحفّظ من الوقوع في المحظور من شهوة الفرج ونظر العين، والازدياد من الشكر بمزيد النعم من الله على العبد، وما أشبه ذلك، فجميع هذه المقاصد التابعة هي مقصودة للشارع من شرع النكاح؛ لأنها مثْبِتَة للمقصد الأصلي، ومقوية لحكمته، ومقتضية للدوام فيه، يعني لو كانت المسألة مسألة تناسل فقط ما يستقيم الزواج على هذا الأمر، تناسل وفقط! لكن تناسل معه سكن، ومعه مودة، ومعه رحمة، ومعه تعاون، ومعه استمتاع، ومعه كذا ومعه كذا، فهذه المقاصد التابعة مثبِّتة ومقوِّية للمقاصد الأصلية؛ ولهذا يقول الشاطبي -رحمه الله: فاستدللنا بذلك على أنّ كل ما لم يُنصّ عليه مما شأنه ذلك مقصود للشارع أيضًا، كما رُوِيَ من فعل عمر بن الخطاب رضي الله  عنه في نكاح أم كلثوم بنت علي بن أبي طالب رضي الله  عنه طلبًا لشرف النسب؛ ومواصلة أرفع البيوت، وما أشبه ذلك، فلا شك أن النكاح لمثل هذه المقاصد سائغ، وأنّ قَصْدَ التسبب له حسن. هذا ما ذكره الشاطبي -رحمه الله.

الجهة الرابعة: السكوت عن شرع التسبب:

أي: في الأعمال العادية كتضمين الصناع مثلًا، فالسكوت عن شرع التسبب أو عن شرعية العمل مع قيام المعنى المقتضي له، طريق وجهة من جهات معرفة مقصود الشارع، وبيان ذلك أن سكوت الشارع عن الحكم على ضربين:

الأول: أن يسكت عنه؛ لأنه لا داعية له تقتضيه، ولا موجب يقدَّر لأجله، كالنوازل التي حدثت بعد رسول الله صلى الله عليه  وسلم فإنها لم تكن موجودةً ثم سكت عنها مع وجودها، وإنما حدثت بعد ذلك، فاحتاج أهل الشريعة إلى النظر فيها، وإجرائها على ما تقرّر في كلياتها، وكذا ما أحدثه السلف الصالح راجع إلى هذا القسم، كجمع المصحف، وتدوين العلم، وتضمين الصُّنّاع… وما أشبه ذلك مما لم يجرِ له ذكر في زمن رسول الله صلى الله عليه  وسلم ولم تكن من نوازل زمانه، ولا عُرِضَ للعمل بها موجب يقتضيه، فهذا القسم جارية فروعُه على أصوله المقرّرة.

الثاني: أن يسكت عنه وموجبه المقتضي له قائم، فلم يُقَرّر فيه حكم عند نزوله زائد على ما كان في ذلك الزمان.

error: النص محمي !!