مقدمة في علم العلل وكتاب (العلل المتناهية) لابن الجوزي
فن علل الحديث، وأهميته، واعتناء العلماء به:
فن العلل من أدق فنون علوم الحديث، لا يقوى على الكلام فيه إلا أصحاب العلم الواسع، والاطلاع الغزير، علم مهم يكشف صحيح الحديث من سقيمه؛ ولذلك تعددت كلمات العلماء في بيان أهميته، وخطورته، يقول الحافظ ابن حجر -رحمه الله- عن فن العلل: وهذا الفن أغمض أنواع الحديث، وأدقها مسلكًا، ولا يقوم به إلا من منحه الله تعالى فهمًا رئيسًا، واطلاعًا حاويًا، وإدراكًا لمراتب الرواة، ومعرفة ثاقبة؛ ولهذا لم يتكلم فيه إلا أفراد أئمة هذا الشأن، وحذاقهم، وإليهم المرجع في ذلك؛ لما جعل الله فيهم من معرفة ذلك، والاطلاع على غوامضه دون غيرهم ممن لم يمارس هذا؛ هذا كلام ابن حجر -رحمه الله تعالى- في (النكت على مقدمة الصلاح) أثناء حديثه عن العلل.
قال السيوطي -رحمه الله- في (التدريب): وهذا النوع -يقصد: نوع العلل- من أجلِّها، أي: من أجل أنواع علوم الحديث، وأشرفها، وأدقها، وإنما يتمكن منه أهل الحفظ والخبرة، والفهم السابق؛ ولهذ لم يتكلم فيه إلا القليل.
أيضًا قال العلامة ابن كثير -رحمه الله تعالى- في (اختصار علوم الحديث): وإنما يهتدي إلى تحقيق هذا الفن الجهابذة، والنقاد منهم، أو الجهابذة النقاد منهم، يميزون بين صحيح الحديث وسقيمه، ومعوجه ومستقيمه، كما يميز الصيرفي البصير بصناعته بين الجيود والزيوف، أي: بين الجيد والزيف من أنواع العمولات المختلفة، والدنانير، والفلوس، أي: الدنانير الخالصة من الذهب، والفلوس من غيرها؛ هذا نص كلام ابن كثير في (اختصار علوم الحديث).
ويقول الشيخ أحمد شاكر -رحمه الله- أيضًا عن هذا الفن: هذا الفن من أدق فنون الحديث وأعوصه؛ بل هو رأس علومه وأشرفها، ولا يتمكن منه إلا أهل الحفظ والخبرة والفهم الثاقب؛ ولهذا لم يتكلم فيه إلا القليل، نعم، لم يتكلم فيه إلا القليل الذين سنذكر أسماءهم فيما بعد.
هذه بعض أقوال العلماء في بيان أهمية العلة، وعلم العلل، وأنه لا يتكلم فيه إلا الجهابذة الكبار من علماء الحديث، الذين أحاطوا بطرق الأحاديث، ومعرفة صحيحها من سقيمها، ومعرفة الطرق المعلولة من غيرها، ودانت لهم الدراية الكاملة بالرجال، وبأحوالهم، إلى آخرها؛ فهو فن صعب عويص، ليس بمعنى أنه لا يُفهم، إنما يحتاج إلى علوم كبيرة تكاد تكون عبارة عن إحاطة بالمكتبة الحديثية كلها، بمعرفة المتون، ومعرفة الرجال، ومعرفة الأسانيد، إلى آخرها.
تعريف العلة:
العلة: تعددت تعبيرات العلماء في تعريفها، نكتفي بأن نشير إلى تعريف، لعله يجمع أقوالهم في ذلك، يقولون:
هو سبب خفي غامض، يقدح في صحة الحديث، مع أن الظاهر السلامة؛ قبل أن نشرع في شرح التعريف، أو في الإشارة إليه بإيجاز، نبين أن العلة في اللغة: أطلقت على معانٍ متعددة؛ منها: المرض -شفى الله الجميع- يقال: عَلَّ، واعتل، وأعله الله، فهو مُعلٌّ، وعليل، يقصدون: المرض؛ ومنها: علله بالشيء، إذا ألهاه، وشغله به؛ ومنه: تعليل الصبي بالطعام، أو باللعب، يعني: عللت الصبي بالطعام، أي: شغلته به، كان يبكي مثلًا فوضعت أمامه الطعام، فتعلل به، أي: تشاغل به، أو وضعت في يده لعبة تلهيه فعللته بها؛ ويقولون أيضًا: علَّه بالشراب، إذا سقاه مرة ثانية منه؛ أقرب المعاني من حيث اللغة هي مقصود معنى المرض؛ لأن الحديث المعل فيه عيب، أو فيه مرض، منعه من الصحة، ومن ثم منعه من العمل به، ومن قبوله أصلًا، وقد يقال أيضًا بمعنى شغله، على معنى أن العلة شغلت الحديث، فلم يعد صالحًا للعمل، لكن الأقرب هو المرض الإعاقة.
إذن المعاني اللغوية ثلاثة؛ وهناك معان أخرى، لكن نقول أبرزها الذي له صلة بالمعنى، بمعنى العلة وهي: المرض، وبمعنى: ألهاه وشغله، وبمعنى: سقاه مرة ثانية، أعله بالماء أو بالشراب، أي: سقاه منه مرة ثانية؛ الحديث الذي توجد فيه علة يقال عنه: معل، ويقال أيضًا: معلل، وكثير من المحدثين يستعملون كلمة معلول للحديث الذي توجد فيه العلة؛ منهم البخاري، والترمذي، والدارقطني، والحاكم، وغيرهم.
وهناك بعض العلماء الذي استنكر كلمة معلول؛ ابن الصلاح في (معرفة علوم الحديث) يقول: والمعلول مرذول عند أهل العربية والنحو، والنووي أيضًا يذهب هذا المذهب فيقول: إنه لحن، أي: كلمة معلول على وزن مفعول، لحن، هذا كلام النووي في (التقريب مع التدريب)؛ رد عليهم بأنه ذُكر في بعض كتب اللغة هذا، وأيضًا استعمله بعض المحدثين وهو اصطلاح على كل حال، لا مشاحة فيه؛ العراقي في (التقييد والإيضاح) أشار إلى جواز استعمال المعلول، و(سنن الترمذي) وفي (التتبع والأزمات) للدارقطني، و(معرفة علوم الحديث) للحاكم، كلها قد استعمل فيها لفظ الحديث المعلول، كما استعمله ابن عبد البر في (التمهيد)، واستعمله البيهقي في (السنن)، وفي (النكت) لابن الصلاح، واستعمله السخاوي أيضًا في (فتح المغيث).
إذن هو اشتقاق، اعتمده أهل الحديث، وسيأتي حينما نتكلم عن الكتب المؤلفة في فن العلة، أن ابن حجر- رحمه الله تعالى- له كتاب في ذلك اسمه (الزهر المطلول في الخبر المعلول) يعني: ابن حجر استعمله في تسمية كتابه، الذي وضعه في فن العلل.
نعود إلى التعريف الاصطلاحي، فقلنا هو: عبارة عن سبب خفي غامض، يقدح في صحة الحديث، مع أن الأصل السلامة من هذه العلة، هذا التعريف ذهب إليه ابن الصلاح في (المقدمة)، وعند حديثه في صـ 90، وابن الملقن في (المقنع)، والنووي في (التقريب مع التدريب)، والعراقي في ألفيته، وفي (التقييد والإيضاح) وابن حجر في (النكت)، والسخاوي، وغيرهم، حاموا حول هذا التعريف، وداروا حوله، عبارة عن سبب خفي غامض يقدح في صحة الحديث، مع أن الأصل السلامة منه، وقد يجمعون ذلك السبب فيكون: عبارة عن أسباب خفية غامضة، بدل قولهم: عبارة عن سبب خفي، جمعوها فقالوا: أسباب خفية غامضة، وتعبيراتهم -كما قلت- قريبة، تدور حول أن العلة عبارة عن سبب خفي غامض يقدح في صحة الحديث، مع أن الأصل هي السلامة.
سبب خفي غامض؛ الخفاء أمر نسبي، قد يخفى على البعض ما لا يخفى على الآخرين، وجهابذة هذا العلم هم الذين يتصدون لذلك، وقلما تخفى عليهم بفضل الله عز وجل علة لأي حديث معلول؛ سبب خفي غامض يقدح في صحة الحديث: أي: يقدح في صحة هذا الإسناد، أو هذا المتن الذي روي بهذا الإسناد نقول ذلك؛ لأن الحديث قد يأتي من طرق أخرى غير معلولة، فنقول: يقدح في صحة هذا الوجه الذي فيه العلة، الذي ثبت أن فيه علة، بصرف النظر عن كون الحديث ورد صحيحًا من طريق آخر، أو محفوظًا من طريق آخر؛ سبب خفي غامض يقدح: أي: يعيب الحديث، ويجعلنا نرده، أو نعتمد على الطريق الصحيحة التي وردت لهذا الحديث؛ أما هذه الطريق المعلولة، فنحن نرده.
ومع أن الظاهر لغير المتعمقين السلامة من هذه العلة حينما يقرءون الإسناد والمتن، فتبدوا أمامهم السلامة، ولكن المتخصصين المتعمقين -كما قلت- حين يقرءون بخبرتهم الثاقبة يعرفون العلة، ويشيرون إليها؛ هناك من العلماء من توسع في مدلول العلة فجعلها تشمل كل عيب في الإسناد؛ فيطلقونها على الشاذ، وعلى المنكر، وقد ذهب إلى ذلك جماعة من أهل العلم، لكن بعضهم لم يقبل هذا؛ منهم الحاكم، والدارقطني، وابن صاعد، وبعض المتقدمين، يفرقون بين الشاذ والمعلول، ويرون أن المعلول لا يطلق على كل حديث ثبت عندهم أنه خطأ؛ حتى يتبين نوع الخطأ فيه، بوصل مرسل مثلًا، أو بحديث رُفع وهو موقوف، أو العكس، أو بدخول حديث في حديث آخر، وغير ذلك من أوجه الخطأ.
أما الفرد الذي هو المنكر الذي انفر به ضعيف، أو الذي خالف فيه الضعيف من هم أوثق منه، وكذلك الشاذ الذي خالف فيه الثقة من هم أوثق منه، أو من هم مثله في التوثيق، هذا الشاذ والمنكر له اصطلاح خاص، لكل واحد منهما تعريف عند أهل الحديث، فلا يدخل في الحديث المعل.
على كل حال هذه اختلافات يسيرة، لا تؤثر في جوهر التعريف، وهو أن العلة: عبارة عن سبب خفي غامض يقدح في صحة الحديث، مع أن الظاهر السلامة منه، ومن ثم فإن الحديث المعلول هو الحديث الذي اطلع فيه على علة خفية غامضة؛ قدحت في صحته، وجعلتنا نتوقف في قبوله، يعني: الحديث الذي طبق عليه تعريف العلة، بأنه الحديث الذي اطلع فيه على علة قدحت في صحته، فجعلت العلماء يتوقفون في قبوله؛ إما مطلقًا إذا كان لم يرد إلا من هذا الطريق المعلول، أو أن كل طرقه معلولة، أو من هذا الطريق فقط، إذا كانت له طرق أخرى صحيحة قبلوه منها.
بم تعرف العلة:
العلة تعرف بجمع طرق الحديث، وتعرف بالنظر في اختلاف رواتهم، وفي ضبطهم، وفي إتقانهم؛ ولذلك قلنا: إن الوقوف على العلل، أو إن معرفة العلل يقتضي معارف كثيرة، لا يتيسر لكل واحد أن يتكلم فيها؛ ولذلك -كما قلنا- لم يتكلم فيها إلا أهل الشأن الكبار؛ كابن المديني، وابن حنبل، وابن معين، وأبي حاتم، وأبي زُرعة، والبخاري، ومسلم، والنسائي، والترمذي، ومن المتأخرين؛ كابن حجر، والذهبي، والسيوطي، هؤلاء الذين حذقوا هذا الفن، وأحاطوا به تقريبًا، فمن ثم تكونت لديهم الملكة، التي يميزون بها بين صحيح الحديث ومعلوله.
إذن العلة لا يهتدى إليها إلا بجمع طرق الحديث، وبالنظر في اختلاف رواته، وفي ضبطهم، وإتقانهم، ومعرفة اتصالهم بالشيوخ، وسماعهم منه، وهذا وثيق الصلة بشيخه، وهذا لم يسمع إلا في سن متأخرة، وهكذا أمور كثيرة يدرسونها، يتوصلون بها إلى معرفة العلل؛ ولذلك لم يتكلم فيه -كما قلنا- إلا الجهابذة الكبار من العلماء.
سئل أبو زرعة: ما الحجة في تعليلكم الحديث؟ فقال: الحجة أن تسألني عن حديث له علة فأذكر علته، ثم تقصد ابن وارى -يعني: محمد بن مسلم بن وارى- فتسأله عنه، فيذكر علته، ثم تقصد أبا حاتم فيعلله، ثم تميز كلامنا على ذلك الحديث، فإن وجدت بيننا خلافًا فاعلم أن كلًّا منا تكلم على مراده؛ وإن وجدت الكلمة متفقة فاعلم حقيقة هذا العلم، ففعل الرجل، فاتفقت كلمتهم، فقال: أشهد أن هذا العلم إلهام؛ إذن، ويقول ابن معين، وغيره، وعلي بن المديني: الحديث إذا لم تجمع طرقه لم يتبين خطؤه، ويقولون: كنا نجمع طرق الحديث من ثلاثين طريقًا، وبعضهم يقول: نجمعها من ستين طريقًا؛ إذن المعرفة أو الطريق إلى معرفة العلة أن تجمع طرق الحديث، وينظر في رواياته، ورواته.
قال ابن الصلاح: ويستعان على إدراكها بتفرد الراوي، وبمخالفة غيره له، مع قرائن تنضم إلى ذلك، تُنبه العارف بهذا الشأن على إرسال في الموصول، أو وقف في المرفوع، أو دخول حديث في حديث، أو وهم واهم، إلى آخره، وكل ذلك مانع من الحكم بصحة ما وجد في ذلك فيه، ولا يمكن معرفة تفرد الراوي ومخالفته لغيره إلا إذا جمعت طرق الحديث؛ وينظر في اختلاف رواته، وضبطهم، وإتقانهم، كما قال ابن المديني: الباب إذا لم تجمع طرقه لم يتبين خطؤه، وقال الخطيب: السبيل إلى معرفة علة الحديث أن يجمع بين طرقه، وينظر في اختلاف رواته، ويعتبر بمكانهم من الحفظ، ومنزلتهم في الإتقان والضبط.
إذن جُمعت طرقه، قورن بين رواياته، وبين رواته أيضًا، فوقفوا على العلل التي تقدح في صحة الحديث.
أجناس العلل:
العلل التي تقدح في صحة الحديث أنواع وأجناس، تكلم فيها كثير من العلماء، نشير إلى بعضها بإيجاز.
الحاكم أول من تكلم في هذا -في معرفة علوم الحديث- عند كلامه عن الحديث المعل، أو المعلول، وقال: العلة عندنا على عشرة أجناس، وجاء السيوطي في (التدريب)، ولخص كلام الحاكم ونظمه، والشيخ شاكر في (الباعث الحثيث) أيضًا نقل عنهما، ونسق الكلام، ونظمه، وضرب له بعض الأمثلة إلى آخره.
نوجز بسرعة هذه الأجناس أو هذه الأنواع؛ حتى يتبين لنا بعض أنواع العلل التي يتكلم فيها العلماء؛ من ذلك: أن يكون السند ظاهره الصحة، وفيه من لا يعرف بالسماع ممن روى عنه، ظاهره الصحة: يعني: ننظر جميعًا فنرى السند متصلًا، لكن فيه راوي لم يعرف بالسماع ممن روى عنه، مثل حديث موسى بن عقبة، عن سهيل بن أبي صالح، عن أبيه، عن أبي هريرة، عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: ((من جلس مجلسًا كثر فيه لغطه، فقال قبل أن يقوم: سبحانك اللهم وبحمدك، لا إله إلا أنت، أستغفرك، وأتوب إليك، إلا غفر له ما كان في مجلسه ذلك)) روي أن مسلمًا جاء إلى البخاري، وسأله عنه فقال: هذا حديث مليح، ولا أعلم في الدنيا في هذا الباب غير هذا الحديث، إلا أنه معلول، حدثنا به موسى بن إسماعيل، حدثنا وهيب، حدثنا سهيل، عن عون بن عبد الله ويقول البخاري: هذا أولى؛ لأنه لا يذكر لموسى بن عقبة سماع من سهيل.
إذن علة الحديث أن موسى بن عقبة روى الحديث عن سهيل بن أبي صالح، ولا يعرف له رواية عنه، وذكره البخاري على الوجه الصحيح: حدثنا وهيب، حدثنا سهيل؛ العراقي في الحقيقة نقل هذه العلة عن الحاكم في (التقييد والإيضاح) عند الكلام على العلة، وعقب عليها بقوله: هكذا أعل الحاكم في علومه هذا الحديث بهذه الحكاية، والغالب على الظن عدم صحته، وأنا أتهم بها أحمد بن حمدون القصار راويها عن مسلم، فقد تكلم فيه، وهذا الحديث قد صححه الترمذي، وابن حبان، والحاكم، ويبعد أن البخاري يقول: إنه لا يعلم في الدنيا في هذا الباب غير هذا الحديث، مع أنه قد ورد من حديث جماعة من الصحابة، غير أبي هريرة، وهم؛ أبو برزة الأسلمي، ورافع بن خديج، وجبير بن مطعم، والزبير بن العوام، وعبد الله بن مسعود، وعبد الله بن عمرو، وأنس بن مالك، والسائب بن يزيد، وعائشة، يقول: وقد بينت هذه الطرق كلها في تخريج أحاديث الإحياء للغزالي؛ هو يستبعد أن يكون البخاري على جلالة قدره لم يعرف لهذا الحديث إلا هذا الطريق؛ مع أنه قد ورد عن جملة من الصحابة.
على كل حال هذا ذكره العلماء مثالًا للحديث الذي فيه علة، فحواها أو خلاصتها أن ظاهر السند السلامة، لكن فيه من لا يعرف بالسماع ممن روى عنه، وضربوا له مثالًا بذلك، وإن كان الحديث قد ورد من طرق أخرى صحيحة على ما ذهب إليه العراقي.
ثانيًا: أن يكون الحديث مرسلًا من وجه رواه الثقات الحفاظ، وروي مرفوعًا من وجهٍ ظاهره الصحة، كحديث قبيصة بن عقبة، عن سفيان، عن خالد الحذاء، وعاصم، عن أبي قلابة، عن أنس مرفوعًا: “أرحم أمتي: أبو بكر، وأشدهم في دين الله: عمر، وأصدقهم حياء: عثمان، وأقرؤهم: أبي بن كعب، وأعلمهم بالحلال والحرام: معاذ بن جبل، وإن لكل أمة أمينًا، وإن أمين هذه الأمة: أبو عبيدة” قال الحاكم: هذا الحديث رواه الحفاظ مرسلًا، وجاء مرفوعًا، يعني: متصلًا مسندًا من وجه آخر، أبو قلابة رواه عن أنس مرفوعًا كله؛ الحاكم يقول: لو صح إسناده لأخرج في الصحيحين؛ لأن أصحاب الصحيحين، أو صاحب الصحيحين أخرج الفقرة الخاصة بأبي عبيدة موصولة: ((وإن لكل أمة أمينًا، وإن أمين هذه الأمة: أبو عبيدة)) فلو كان الحديث كله متصلًا لرووه على الوجه الذي ذكر به بالاتصال؛ لكن عدم روايتهم له خصوصًا أنهم أخرجوا الجزء الخاص بأبي عبيدة؛ لأنه فعلًا ورد موصولًا؛ ولذلك يقول الحاكم: فلو صح إسناده لأخرج في الصحيحين، إنما روى خالد الحذاء، عن أبي قلابة مرسلًا، وأسند ووصل، يعني: وصل في رواية أخرى: ((إن لكل أمة أمينًا، وأبو عبيدة أمين هذه الأمة)) هكذا رواه البصريون الحفاظ عن خالد الحذاء، وعاصم جميعًا، وأسقط المرسل من الحديث، وخرج المتصل بذكر أبي عبيدة في الصحيحين.
ثالثًا: أن يكون الحديث محفوظًا عن صحابي، ويروى عن غيره؛ لاختلاف بلاد رواته؛ كرواية المدنيين عن الكوفيين، مثل حديث موسى بن عقبة، عن أبي إسحاق، عن أبي بردة، عن أبيه مرفوعًا: ((إني لأستغفر الله، وأتوب إليه في اليوم مائة مرة)) قال: هذا إسناد لا ينظر فيه حديثيٌّ إلا ظن أنه من شرط الصحيح؛ والمدنيون إذا رووا عن الكوفيين زلقوا، ثم رواه الحاكم بإسناده إلى حماد بن زيد، عن ثابت البناني قال: سمعت أبي بردة يحدث عن الأغر المزني، هنا في الرواية الأولى: رواه أبو بردة عن أبيه، وأبو بردة له رواية عن أبيه في الصحيحين وفي غيرهما؛ لكنه في هذا الحديث لم يروه عن أبيه، قال الحاكم بإسناد حماد بن زيد، عن ثابت البناني قال: سمعت أبا بردة يحدث عن الأغر المزني، وكانت له صحبة، قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((إن ليغان على قلبي، فأستغفر الله في اليوم مائة مرة)) ثم ذكر الحاكم أنه رواه مسلم كتاب التوبة، والاستغفار، والذكر، وقال: وهو الصحيح المحفوظ.
رابعًا: أن يكون محفوظًا عن صحابي، ويُروى عن تابعي، مثل حديث زهير بن محمد، عن عثمان بن سليمان، عن أبيه: ((أنه سمع رسول الله صلى الله عليه وسلم يقرأ في المغرب بالطور)) هذه الرواية خرجها العسكري، وغيره، ويقول الحاكم: هو معلول من ثلاثة أوجه؛ أحدها: أن عثمان هو ابن أبي سليمان، ليس غيره، العلة الأخرى: أن عثمان إنما رواه عن نافع بن جبير بن مطعم، عن أبيه، والثالث: قوله سمع النبي صلى الله عليه وسلم وأبو سليمان لم يسمع من النبي صلى الله عليه وسلم ولا رآه.
خامسًا: أن يكون روي بالعنعنة، وسقط منه رجل دل عليه طرق أخرى محفوظة، كحديث يونس، عن ابن شهاب، عن علي بن الحسين، عن رجال من الأنصار: “أنهم كانوا مع رسول الله- صلى الله عليه وسلم ذات ليلة فرمي بنجم فاستنار…” إلى آخره، قال الحاكم: علة هذ الحديث أن يونس عَلَى حِفظه، وجلالة محله قصر به، وإنما هو عن ابن عباس، قال: حدثني رجل من الأنصار، وهكذا رواه، أو حدثني رجال من الأنصار، هكذا رواه ابن عيينة، وشعيب، وصالح، والأوزاعي، وغيرهم، عن الزهري؛ إذن الزهري الصحيح، عن الزهري عن ابن حسين، عن ابن عباس، لكن يونس جعله عن علي بن الحسين، عن رجال من الأنصار، فأسقط منه الصحابي، هذا السقط عرف بجمع طرق الحديث، يعني: لما جمعت طرقه وضح هذا السقط في طريق آخر؛ فقيست هذه الطريق المعلولة على الطرق الأخرى، فتبين الخطأ فيها.
سادسًا: أن يكون الراوي روى عن شخص أدركه، وسمع منه، لكنه لم يسمع منه أحاديث معينة، فإذا رواها عنه بلا واسطة فَعِلَّتُها أنه لم يسمعها منه، كحديث يحيى بن أبي كثير، عن أنس: “إن النبي صلى الله عليه وسلم كان إذا أفطر عند أهل بيت قال: أفطر عندكم الصائمون” قال الحاكم: قد ثبت عندنا من غير وجه رواية يحيى بن أبي كثير، عن أنس بن مالك، إلا أنه لم يسمع منه هذا الحديث، بدليل أنه في بعض الطرق الأخرى قال: حدثت عن أنس، وكما قلنا قبل ذلك: عرفت هذه العلة بجمع الطرق؛ طريق صرح فيه بالرواية عن أنس، وطريق أخرى قال فيها: حدثت عن أنس، فعرفنا أنه لم يسمع هذا الحديث منه، وربما يقال سمعه منه مرة، وسمعه منه بواسطة مرة أخرى.
هذه أهم أجناس العلل، ذكرنا معظمها، الحاكم قسمها إلى عشرة أجناس -كما قلنا- ونقلها العلماء، وأضافوا لها، وحذفوا منها، ونسقوها، وبالرجوع إلى كتب المصطلح؛ مثل (تدريب الراوي) و(النكت على ابن الصلاح) وغيرها، سنجد تقسيمات متعددة للعلل، وأعتقد أن في مادة المصطلح ستدرس العلل بالتفصيل.
أنبه إلى أمر أن العلة قد تقدح في الإسناد وحده، أو بمعنى آخر: لا تؤثر في صحة الحديث، يعني: هي علة، أشار إليها العلماء؛ لأنه لا تفوتهم بفضل الله عز وجل فائتة في هذا الأمر، يشيرون إلى العلة، وإن كانت غير قادحة في صحة الحديث؛ من ذلك مثلًا الحديث الذي رواه مالك -رحمه الله- في (الموطأ) مرسلًا، أو بالبلاغات، هو في (الموطأ) عن مالك قال: بلغنا، عن أبي هريرة، عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: ((للمملوك طعامه وشرابه، ولا يكلف من العمل ما لا يطيق)) لكن الحديث في الصحيحين بفضل الله عز وجل من طرق صحيحة، إذن هنا علة هي الإرسال، أن الإمام مالك رواه عن أبي هريرة بلاغًا فيه انقطاع في الإسناد، ليس بمعنى سقوط الصحابي، فيه انقطاع في الإسناد بين مالك وأبي هريرة رضي الله عنه لكن الحديث ورد موصولًا في المصارد الصحيحة، فهذه علة، لكنها لا تؤثر في صحة الحديث.
وأيضًا مثال آخر؛ الحديث الذي رواه يعلى بن عبيد الطنافسي وهو أحد الثقات، عن سفيان الثوري، عن عمرو بن دينار، عن ابن عمر، عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: ((البيعان بالخيار)) هذا الحديث متصل بنقل العدل الضابط عن العدل الضابط، إسناده معلول، لكن متنه صحيح، لماذا؟ لأن يعلى بن عبيد غلط فيه على سفيان بن عيينة، وجه الغلط: أنه قال: سفيان، عن عمرو بن دينار، وصوابه: عبد الله بن دينار، هكذا رواه الأئمة من أصحاب سفيان؛ كأبي نعيم، والفضل بن دكين، ومحمد بن يوسف الفريابي، ومخلد بن يزيد، وغيرهم، كلهم رووه عن سفيان، عن عبد الله بن دينار، وليس عن عمرو بن دينار، ولكن رغم وجود هذه العلة فالمتن صحيح؛ ولذلك قد تكون العلل غير مؤثرة في صحة المتن في كثير من الأحيان.
أهم المؤلفات في العلل:
نشير الآن إلى أهم المؤلفات في العلل، هناك مؤلفات كثيرة في علم العلل؛ منها: كتاب (علل الحديث ومعرفة الرجال والتاريخ) لعلي بن المديني -رحمه الله تعالى- المتوفى سنة 234 هـ، طبع جزء من هذا الكتاب بتحقيق الدكتور محمد مصطفى الأعظمي سنة 1392 هـ، وطبع سنة 1423 بالكويت بتحقيق حسام محمد إلى آخره، وأيضًا نال مجموعة من الباحثين رسائل في تخصص الماجستير، وغيرها، في هذا الكتاب.
أيضًا كتاب (العلل ومعرفة الرجال) للإمام أحمد بن حنبل -رحمه الله تعالى- المتوفى سنة 241هـ برواية ابنه عبد الله بن أحمد عنه، عبد الله المتوفى سنة 290، هذا الكتاب حققه الدكتور وصي الدين بن محمد بن عباس، وطبعته الدار السلفية بالهند سنة 1408، وطبع أيضًا بتحقيقه في ثلاثة مجلدات بالمكتب الإسلامي في بيروت سنة 1408.
وهناك كتاب (العلل) لأبي عيسى محمد بن عيسى الترمذي، المتوفى سنة 279 له (العلل الكبير) أو له العلل مطلقا، وله (العلل الصغير) طبع (العلل) سنة 1409، بتحقيق الأساتذة؛ الأستاذ صبحي السامرائي، والأستاذ محمود خليل الصعيدي، والأستاذ أبو المعاطي نوري في مطبعة عالم الكتب ببيروت، و(العلل الصغير) طبع طبعات كثيرة بالهند، وغيرها، وطبع أيضًا مع آخر (سنن الترمذي)، وطبع مع شرحه لابن رجب الحنبلي عدة طبعات، بتحقيق الأستاذ صبحي السامرائي، وأخرى بتحقيق الدكتور نور الدين عتر، وأخرى بتحقيق الدكتور همام عبد الرحيم سعيد، وحصل بها على رسالة العالمية الدكتوراه في الحديث وعلومه من جامعة الأزهر.
وأيضًا هناك (المسند الكبير المعلل) المسمى بـ(البحر الزخار) لأبي بكر البزار، المتوفى سنة 292، وفي الحقيقة هذا الكتاب ليس خالصًا للعلل، لكن ذكرت فيه طرق كثيرة فيها علل.
أيضًا هناك كتاب (العلل) لأبي بكر الخلال، طبع المنتخب منه الجزء العاشر والحادي عشر، محقق، وتوجد أجزاء منه في عدة طبعات، في عدة أماكن مخطوطة.
أيضًا (علل الحديث) لابن أبي حاتم- رحمه الله تعالى- المتوفى سنة 327، وهذا طبع عدة طبعات أيضًا، منها في المطبعة السلفية -مكتبها بالقاهرة- بدون تحقيق، ومنها بتحقيق الأستاذ نشأت أحمد في أربع مجلدات في دار الفاروق بالقاهرة، وهناك أيضًا جماعة من الباحثين حصلوا بأجزاء منه على درجات علمية في جامعة الإمام محمد بن سعود الإسلامية، بالمملكة العربية السعودية.
أيضًا هناك (العلل الواردة في الأحاديث النبوية) لأبي الحسن الدارقطني -رحمه الله تعالى- المتوفى سنة 385 هـ، وطبع منه إلى الآن أحد عشر مجلدًا بمكتبة دار طيبة بالرياض سنة 1985، بتحقيق الشيخ الدكتور محفوظ الرحمن زين الدين السلفي، وإن شاء الله يكمل بإذن الله تبارك وتعالى، وهناك دراسات عنه في جامعة الأزهر في رسائل أيضًا في الماجستير، وفي العالمية الدكتوراة.
أيضًا هناك (العلل المتناهية في الأحاديث الواهية) لأبي الفرج الجوزي، وهو الكتاب الذي نحن بصدد دراسته، والتي اقتضت دراستنا له أن نتكلم عن العلل، وعما يتعلق بها عن الوجه الذي ذكرناه من أول الدرس.
أيضًا أشار السيوطي في (التدريب) إلى أن لشيخ الإسلام ابن حجر -رحمه الله- كتابًا في ذلك، قال السيوطي بنص كلامه: وقد صنف شيخ الإسلام فيه (الزهر المطلول في الخبر المعلول) قال عنه الشيخ شاكر: ولم أره، ولو وجد لكان في رأيي جديرًا بالنشر؛ لأن الحافظ ابن حجر الدقيق الملاحظة، واسع الاطلاع، ويظن أنه يجمع كل ما تكلم فيه المتقدمون من الأئمة من الأحاديث المعلولة، قال ابن كثير في الموازنة بين هذه الكتب -رحمه الله-: ومن أحسن كتاب وضع في ذلك وأجله وأفحله كتاب (العلل) لعلي بن المديني شيخ البخاري، وسائر المحدثين بعده في هذا الشأن على الخصوص.
وكذلك كتاب (العلل) لعبد الرحمن بن أبي حاتم، وهو مرتب على أبواب الفقه، وكتاب (العلل) للخلال، ويقع في مسند الحافظ أبي بكر البزار من التعاليل ما لا يوجد في غيره من المسانيد، يعني: مسند البزار ليس خالصًا للعلل، إنما هو مسند كسائر المسانيد، لكن للحافظ البزار كلام فيه عن العلل ما لا يوجد في غيره من المسانيد.
ويقول ابن كثير أيضًا: وقد جمع أزمة ما ذكرناه كله الحافظ الكبير أبو الحسن الدارقطني في كتابه في ذلك، وهو من أجلِّ كتبه، بل هو أجلِّ ما رأيناه وضع في هذا الفن، لم يسبق إلى مثله، وقد أعجز من يأتي بعده -فرحمه الله وأكرم مثواه- لكن الحافظ ابن كثير يرى أن العثور على الحديث في (سنن الدارقطني) صعب؛ لأن الدارقطني لم يرتبه على كتب الفقه، هو وضعه على الصحابة، لكن حتى الصحابة لم يرتبهم على حسب الحروف الأبجدية، فأصبح البحث فيه عسيرًا، وتمنى ابن كثير أن لو يهيئ الله عز وجل لهذا الكتاب من يرتبه؛ إما على الترتيب الفقهي، أو يرتب الصحابة فيه على الحروف الأبجدية؛ حتى يتيسر البحث فيه لمن أراد أن يبحث عن حديث فيه.
هذه أهم المؤلفات في العلل، ونقول في نهاية الكلام عن ذلك: الكلام عن علل الحديث بالإضافة إلى الكتب التي تمحضت للعلل نجده مفرقًا في كتب كثيرة، من أهمها (نصب الراية في تخريج أحاديث الهداية) للحافظ الزيلعي، وكذلك كتاب (تلخيص الحبير) و(فتح الباري) للحافظ ابن حجر و(نيل الأوطار) للشوكاني، و(المحلى) للإمام ابن حزم الإمام الحجة، وكُتُب ابن القيم حين يتعرض لأحاديث ويوازن بينها -رحمه الله- كـ(تهذيب سنن أبي داود) وغيره، أيضًا يتكلم عن علل الأحاديث، ولنا دراسة عن كتابه (منار المنيف) إن شاء الله سنتعرض إلى منهجه في ذلك.
كل كتب التخاريج القديمة -كما ذكرنا- وأيضًا الحديثة مثل كتب الشيخ الألباني، والشيخ أحمد شاكر، وغيرهما -رحمهما الله وبارك الله في جهد الجميع- هذه الكتب كلها مظنة الكلام عن العلة؛ لأنهم يذكرون فيها حين يتعرضون لتضعيف حديث فيذكرون علته، والسبب في ضعفه وكذلك حين يبينون صحة الحديث، فيبينون أنه سلم وبرئ من العلل، وهناك من المحدثين من تكلم في العلل، وألف فيها، ونذكر بعضهم، وبعض جهودهم في هذا؛ ومنهم فضيلة الأستاذ الدكتور همام عبد الرحيم سعيد في كتاب (العلل في الحديث) دراسة منهجية في ضوء شرح (علل الحديث) للترمذي، وفضيلة الأستاذ الدكتور خليل ملا خاطر في الحديث المعلل، والأستاذ حسين بن محسن الأنصاري في كتاب (البيان المكمل) في تحقيق الشاذ والمعلل إلى آخره.
الذين حققوا أيضًا كتب العلل الذين أشرنا إلى بعضهم عند كلامنا عن مطبوعات ومخطوطات الكتب؛ الذين حققوا الكتب عقدوا دراسات طيبة في مقدمة تحقيقه، تكلم فيها عن العلة، وأصنافها، وأجناسها، إلى آخره، وضرب أمثلة لها، وتكلم عن مناهج العلماء في ذلك.
التعريف بكتاب (العلل المتناهية):
أولًا اسم الكتاب هكذا (العلل المتناهية في الأحاديث الواهية).
موضوعه: جمع فيه الأحاديث شديدة التزلزل، كثيرة العلل، يقول في مقدمة كتابه (العلل المتناهية): لما كانت الأحاديث تنقسم إلى صحيح لا يشك فيه، وحسن لا بأس به، وموضوع مقطوع بكذبه، ومتزلزل قوي التزلزل؛ فأما الصحيح والحسن فقد عُرفا، وأما الموضوع فإني رأيته كثيرًا، حتى أنهم قد وضعوا نسخًا طوالًا، وأحاديث مدد فيها النفس، لا يخفى وضعها، وبرودة لفظها، فهي تنطق بأنها موضوعة، وأن حاشية المصطفى صلى الله عليه وسلم منزهة عن مثلها، وجمعت الموضوعات المستبشعة في كتاب سميته (الموضوعات من الأحاديث المرفوعات) هذا سماه بهذه التسمية في كتاب (العلل المتناهية) وهو التعريف أو الاسم الذي اختاره الدكتور عمر حسن فلاتة في كتابه (الموضوعات) كاسم للكتاب؛ أما سائر العلماء فقد أشاروا إليه باسم (الموضوعات)، وهو في مقدمة كتابه (الموضوعات) لم يذكر إلا كلمة الموضوعات.
لكن على كل حال، بعد ذلك يقول: وجمعت الموضوعات المستبشعة في كتاب سميته (الموضوعات من الأحاديث المرفوعات) وقد جمعت في هذا الكتاب -يقصد العلل المتناهية- الأحاديث الشديدة التزلزل، الكثيرة العلل، هذا نص كلامه في (العلل المتناهية) في أول كتابه بعد مقدمة المحقق، وما إلى ذلك.
نسبة الكتاب إلى ابن الجوزي -رحمه الله تعالى- نسبة مقطوع بها، فكثير من العلماء تكلم عنها، وكل الذين ترجموا لابن الجوزي ذكروا له كتاب (العلل) ولكي لا نطيل نحيل إلى كلامنا عن نسبة الموضوعات في أثناء كلامنا عن كتاب (الموضوعات) لابن الجوزي نحيل إلى كلامنا هناك، وأن الذهبي في (السير) وابن حجر في (لسان الميزان) والذهبي أيضًا في (تذكرة الحفاظ) تكلموا عن نسبة الكتاب لابن الجوزي -رحمه الله تعالى- والله أعلم.
منهج الإمام ابن الجوزي في كتابه (العلل المتناهية):
ننتقل الآن إلى صنيع ابن الجوزي -رحمه الله تعالى- في كتابه:
بدأ بمقدمة يسيرة لم يذكر فيها أبوابًا وكتبًا كما صنع في مقدمة (الموضوعات)
رتب ابن الجوزي كتابه على الكتب والأبواب الفقهية, ليسهلَ الأخذ منه على الطالب, يعني: رتبه ترتيبًا فقهيًّا كما هو المعهود عند معظم أهل الحديث.
ابن الجوزي وضع تراجم للكتب يعني: سمى الكتب ووضع تحت كل كتاب مجموعة من الأبواب, ووضع تحت كل باب الأحاديث المعلة, التي يراها وثيقة الصلة بهذا العنوان, هذه أسماء الكتب عند ابن الجوزي في (العلل المتناهية) كتاب التوحيد, كتاب الإيمان, كتاب المبتدأ, كتاب العلم كتاب السنة, كتاب الفضائل والمثالب, كتاب الطهارة, كتاب الصلاة, كتاب الزكاة, كتاب الصدقة, كتاب فعل المعروف والبر والصلة, كتاب السخاء, كتاب الصوم, كتاب الحج, كتاب السفر والجهاد, كتاب البيع, كتاب النكاح, كتاب الأطعمة, كتاب الأشربة, كتاب الزينة, كتاب النوم, كتاب الأدب, كتاب معاشرة الناس, كتاب الهدايا, كتاب الأحكام والقضايا, كتاب الأحكام السلطانية, كتاب ذم العاصي, كتاب الحدود, كتاب الزهد, كتاب الذكر, كتاب الدعاء, كتاب الملاحم, كتاب المرضى وكتاب الطب, وكتاب ذكر الموت, وكتاب القبور, وكتاب البعث والقيامة, كتاب صفة الجنة, كتاب صفة النار, ثم آخر كتاب عنده هو كتاب المستبشع من المنقول عن الصحابة رضي الله عنهم.
عدد أحاديثه كما حصرها محقق الكتاب الأستاذ إرشاد الحق الأثري -بارك الله في جهده: عدد أحاديثه حسب الترقيم الذي وضعه تسعة وسبعون وخمسمائة وألف حديث, 1579 حديثًا, رقمها محقق الكتاب, وضعت تحت الأبواب, والأبواب وضعت تحت الكتب.
هذا هو نفس المنهج الذي اعتمده ابن الجوزي في كتاب (الموضوعات) وكنا قد أشرنا إلى ذلك أيضًا عند حديثنا عن كتاب (الموضوعات) أنه رتبه على الكتب وعلى الأبواب ووضع للكتب أيضًا هنا وهناك عناوين تعبر عن محتوى هذه الكتب ثم يضع الأبواب تحت كل كتاب, وهذه الكتب تعتبر ترجمة للأحاديث التي انتظمت تحتها, والتي جميعها تتعلق بهذا الباب الذي اندرج تحت الكتاب.
مثلًا الكتاب الأول: كتاب التوحيد, قسّمه إلى ثمانية أبواب, وهذه الأبواب كلها تتعلق بالتوحيد والعقيدة, وجعل لكل باب عنوانًا يعبر فيه عما يحتويه هذا الباب, وعما له صلة وثيقة بكتاب التوحيد, مثلًا الباب الأول عنون له بقوله: باب في أن الله عز وجل قديم…. وذكر تحته حديثًا نُسب لابن عمر قال: “كنا عند رسول الله صلى الله عليه وسلم فجاء رجل أقبح الناس وجهًا وأقبح الناس ثيابًا وأنتن الناس ريحًا هو حافيًا يتخطى رقاب الناس, فجلس بين يدي رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال: من خلقك؟ قال: الله. قال: فمن خلق السماء؟ قال: الله قال: فمن خلق الأرض؟ قال: الله. قال: فمن خلق الله. قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: هذا إبليس جاء يشككم في دينكم” هذا في (العلل المتناهية) في أول الكتاب هذا مثال لحديث وضعه تحت العنوان: باب في أن الله عز وجل قديم… في أول كتاب (العلل المتناهية) وهو كتاب التوحيد.
الباب الثاني أيضًا: باب ذكر الاستواء على العرش, وذكر تحته حديثين, حديث نسب لعبد الله بن خليفة فقال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: “الكرسي الذي يجلس عليه عز وجل ما يفضل منه إلا قدر أربعة أصابع, وأن له أطيطًا كأطيط الرحل الجديد”.
وحديث نسب لعمر رضي الله عنه قال: “أتت النبي صلى الله عليه وسلم امرأة فقالت: ادع الله أن يدخلني الجنة, فعظم الرب, وقال: إن كرسيه فوق السماوات والأرض, وأنه يقعد عليه فما يفضل منه مقدار أربعة أصابع, ثم قال: بأصابعه فجمعها, وأن له أطيطًا كأطيط الرحل الجديد إذا ركب”.
والباب الثالث بعنوان: باب ذكر الكرسي, ذكر تحته حديثًا نسب لابن عباس قال: “سئل النبي صلى الله عليه وسلم عن قول الله عز وجل: {وَسِعَ كُرْسِيُّهُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ} [البقرة: 255] قال: كرسيه موضع قدميه, والعرش لا يقدر قدره”.
هكذا حتى يصل إلى نهاية الباب الثامن الذي ختم به أبواب كتاب التوحيد, وعنون له بقوله: باب استحالة النوم على الله عز وجل.
هو في كل هذه الأحاديث يذكر عللها, ويبين ما فيها أو ما عليها من مآخذ.
إذن علينا أن ننتبه إلى منهج ابن الجوزي أولا: هو رتب الكتاب إلى كتب وأبواب فقهية, ثم هو وضع تحت كل باب ما يتصل به ويندرج تحته من أحاديث معلولة, كالأمثلة التي ذكرناها, ثم هو بعد ذلك يجمع طرق كل حديث, وأحيانًا الحديث الواحد يذكر له أكثر من عشرة طرق, وتصل إلى أكثر هذا, فأحيانًا يذكر حديثًا واحدًا, ولا يذكر غيره, كما ورد في فضل بني هاشم من كتاب المناقب, روى الحديث بسنده إلى أنس بن مالك رضي الله عنه قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: “لو أني أخذت بحلقة باب الجنة ما بدأت إلا بكم يا بني هاشم” وحكم على الحديث وقال: هذا حديث لا يصح. قال ابن حبان: نعيم يضع الحديث على أنس. يقصد نعيم بن سالم أو يغنم بن سالم كما صححوه.
وأحيانًا يذكر في الباب حديثين كما في خلافة بني العباس ذكر فيه حديثين, وعقب على كل حديث منهما بالعلة القادحة فيه.
وأحيانًا يذكر أربعة أحاديث كما في باب القراءة في الصلاة ذكر فيه أربعة أحاديث كلها معلة بعلل شديدة قادحة في صحتها.
وأحيانًا يذكر قريبًا من ثلاثين حديثًَا في الباب الواحد كما يفعل أو كما فعل في باب فضل علي بن أبي طالب رضي الله عنه في كتاب أيضًا المناقب إذ أورد فيه ثمانية وعشرين حديثًا تقريبًا من حديث رقم 332 إلى حديث رقم 359. وأيضًا في كل حديث يبين علله, ويبين المآخذ عليه.
لكن أحيانًا يجمع طرق الحديث الواحد لتصل إلى عدد كبير جدًّا مثلا في باب: إثم من سئل عن علم فكتمه. أورد فيه أحاديث مجموعة من الصحابة منهم ابن مسعود وابن عباس وابن عمر وابن عمرو وأبو سعيد وجابر وأنس وعمرو بن العبسة وأبو هريرة وطلق بن علي, ثم قال: أما حديث ابن مسعود فله أربعة طرق, وذكرها.
إذن هنا ذكر مجموعة من الصحابة اقتربوا من العشرة, ثم شرع يذكر في طرق كل حديث أما حديث ابن مسعود فله أربعة طرق وذكرها إلى أن وصل إلى أحاديث أبي هريرة قرب النهاية, قال: وأما حديث أبو هريرة فله عشر طرق وذكرها جميعًا وبين ما فيها من علل, فهذا حديث ذكر له عشرة طرق.
وملمح جديد من ملامح منهجه أنه أحيانًا يذكر الحديث السليم من العلة مع الحديث المعلول بعد أن يبين علته.
وهذا أيضًا ملمح من ملامح منهجه, أنه يذكر الأحاديث بإسناده- فمثلًا يقول: هذا في باب ذكر الصورة, كتاب التوحيد: أخبرنا عبد الرحمن بن محمد القزاز أخبرنا أبو بكر أحمد بن علي بن ثابت قال أخبرنا الحسن بن أبي بكر وعثمان بن محمد بن يوسف العلاف قال: أنا محمد بن إبراهيم الشافعي -قال: أنا أخبرنا- قال: نا محمد بن إسماعيل -أي: أنبأنا الأولى كانت أخبرنا وهذه أنبأنا- محمد بن إسماعيل هو الترمذي قال: حدثنا نعيم بن حماد قال: نا بن وهب قال: حدثنا عمرو بن الحارث عن سعيد بن أبي هلال عن مروان بن عثمان عن عمارة بن عامر عن أم الطفيل: “أنها سمعت النبي صلى الله عليه وسلم يذكر أنه رأى ربه تعالى في المنام في أحسن صورة شابًا رجلاه في خف, عليه نعلان من ذهب, على وجهه فراش من ذهب” قال بعد أن ذكر الحديث بالإسناد السابق: أخبرنا القزاز قال: أنا الخطيب قال: حدثني الصوري قال حدثني عب الغني بن سعيد قال: نا إبراهيم بن محمد الرعيني قال: سمعت أبا بكر محمد بن أحمد الحداد يقول: سمعت أبا عبد الرحمن النسوي يقول في هذا الحديث: ومن مروان بن عثمان حتى يصدق على الله, يعني: هو هنا بهذه العبارة يبين علة الحديث, وأن العلة فيه من مروان بن عثمان الذي روى عن عمارة بن عامر عن أم الطفيل.
أيضًا ذكر نقلًا عن أبي بكر الخلال في كتاب (العلل) قال: أخبرني محمد بن علي قال: حدثني مهنأ قال: سألت أبا عبد الله أحمد بن حنبل عن هذا الحديث -الذي ذكره قبل ذلك- فحول وجهه عني وقال: هذا حديث منكر, وقال: لا يعرف هذا رجل مجهول, يعني مروان بن عثمان, وقال أيضًا: لا يعرف أيضًا عن عمارة بن عامر.
ذكر أيضًا حديثًا آخر نفس الرواية عن أبي عبيدة بن الجراح عن النبي صلى الله عليه وسلم بإسناده قال: “رأيت ربي تعالى في أحسن صورة فقال: يا محمد فيم يختصم الملأ الأعلى, قلت: لا أدري, فوضع يده بين كتفي حتى, وجدت برد أنامله, ثم قال: فيم يختصم الملأ الأعلى, قلت: في الكفارات والدرجات…” إلى آخر الحديث قال ابن الجوزي: وقد رواه يوسف بن عطية عن قتادة عن أنس عن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: “أتاني ربي البارحة في منامي في أحسن صورة حتى وضع يده بين كتفي, فوجدت بردها بين ثديي, فعلمت كل شيء, فقال: أتدري فيم يختصم الملأ الأعلى…” فذكر نحوه.
بعد أن انتهى من ذكر طرق أخرى لهذا الحديث قال: وحديث قتادة عن أنس رواه يوسف بن عطية السعدي عن قتادة عن أنس عن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: “أتاني ربي البارحة في في منامي في أحسن صورة حتى وضع يده بين كتفي…” قال النسائي: يوسف متروك وسمى آخر اسمه يوسف بن عطية كاذب.
ثم بعد أن ذكر هذه الطرق, قال ابن الجوزي: قلت: قد رواه أحمد في مسنده بإسناد حسن.
إذن بعد أن ذكر الطرق المعلولة للحديث ذكر الطريقة الصحيحة أو الحسنة قال: رواه أحمد في مسنده, بإسناد حسن, ثم ذكر فقال: أخبرنا بن الحصين قال: أخبرنا ابن المذهّب قال: أخبرنا أحمد بن جعفر قال: أنبأنا عبد الله بن أحمد بن حنبل قال: حدثني أبي قال: أنبأنا عبد الرزاق قال: أنبأنا معمر عن أيوب عن أبي قلابة عن ابن عباس أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: ((أتاني ربي الليلة في أحسن صورة أحسبه -يعني في النوم- قال: يا محمد هل تدري فيما يختصم الملأ الأعلى. قال: قلت: لا أدري, قال النبي صلى الله عليه وسلم: فوضع يده بين كتفي حتى وجدت بردها بين ثديي, أو قال: نحري, فعلمت ما في السماوات وما في الأرض, قال يا محمد: هل تدري فيما يختصم الملأ الأعلى, قال: قلت: نعم, يختصمون في الكفارات والدرجات, قال: وما الكفارات والدرجات, قال: المكث في المساجد بعد الصلاة, والمشي على الأقدام إلى الجماعات, وإبلاغ الوضوء في المكاره, ومن فعل ذلك عاش بخير ومات بخير, وكان من خطيئته كيوم ولدته أمه, وقال: قل يا محمد إذا صليت: اللهم إني أسألك فعل الخيرات وحب المساكين, وإذا أردت بعبادك فتنة أن تقبضني إليك غير مفتون, قال: وما الدرجات؟ قال: بذل الطعام وإفشاء السلام والصلاة بالليل والناس نيام))
هذا الحديث نقله قال بإسناد حسن عن الإمام أحمد من رواية عبد الله بن عباس رضي الله عنهما هو في مسند الإمام أحمد, وأيضًا في مسند الإمام أحمد من حديث معاذ بن جبل رضي الله عنهما.
والترمذي رحمه الله رواه أيضًا في كتاب التفسير, باب ومن سورة ثلاثة أحاديث منها حديثان عن ابن عباس رواهم بروايتين عن ابن عباس أعل الأولى بكلام يرجع إليه فيه, وعن الثانية قال: حسن غريب. ثم رواه من حديث معاذ بن جبل وقال عنه: حسن صحيح, وقد سألت محمد بن إسماعيل -يقصد البخاري- عن هذا الحديث فقال: هذا حديث حسن صحيح, وهذا أصح من حديث الوليد بن مسلم… إلى آخر ما قاله الترمذي في سننه وفي جامعه عن هذا الحديث.
إذن محل الكلام هنا أن ابن الجوزي -رحمه الله تبارك وتعالى- أحيانًا يذكر مع الأحاديث المعلولة حديثًا في نفس الباب هو نفس المتن, لكن يشير إليه من الطرق الصحيحة, كما أشرنا إليه في حديث: اختصام الملأ الأعلى.. ذكر الروايات الملعولة ثم ذكر حديث الإمام أحمد بن حنبل وقال عنه: إنه حديث حسن.
موارد ابن الجوزي في العلل المتناهية والألفاظ التي استعملها:
إن ابن الجوزي رحمه الله اعتمد على نفس ما اعتمد عليه في كتابه (الموضوعات) من موارد, فأثر مصادره واضح هو اعتمد على الخطيب في كتبه اعتمد على (الكامل) لابن عدي اعتمد على (الضعفاء) لابن حبان و(الضعفاء) للعقيلي وللأزدي والمعاجم للطبراني ولكتب الدارقطني ولكتب الحاكم, وغيرها وغيرها، و(الأباطيل) أيضًا للجوزقاني ومصنفات أبي نعيم كـ(الحلية) وغيرها إلى آخره.
سنضرب أمثلة لموارده فمثلًا في باب فضائل علي رضي الله عنه نقل حديث ((أما ترضى أن تكون مني بمنزلة هارون من موسى إلا أنه لا نبي بعدي)) هذا الحديث في الصحيحين فيه زيادة وهي التي يعلها بعد قوله: “إلا أنه لا نبي بعدي ولو كان لكنته” أي: لو كان نبي بعدي لكنت أنت يا علي هذا النبي, نقل عن الخطيب قوله عن هذه الزيادة: لا نعلم رواها إلا ابن أبي الأزهر وكان غير ثقة يضع الأحاديث على الثقات. هذا كلام ابن الجوزي، وهو هنا نقل عن الخطيب.
وقد ذكرنا أنه نقل عن يحيى وابن حبان أيضًا.
وقال في طريق حديث من طرق حديث الطير، يعني: “النبي صلى الله عليه وسلم أمامه طائر ودعا أن يدخل عليه أحب خلقه إليه ليأكل معه من هذا الطير فدخل علي” قال: وهذا لا يصح بهذا الإسناد, حفص بن عمر، قال النسائي: ليس بثقة, وقال ابن حبان: لا يجوز الاحتجاج به إذا انفرد.
هو نقل عن يحيى وعن ابن حبان وعن الخطيب ونقل عن النسائي وفي طريق آخر لحديث الطائر قال عن حماد بن مختار, قال ابن عدي: حماد شيعي مجهول. فهو نقل هنا عن ابن عدي.
وفي حديث أن عليًّا يقاتل على تأويل القرآن، قال ابن الجوزي: وفي إسناده إسماعيل بن رجاء, قال الدراقطني: إسماعيل ضعيف. وقال ابن حبان: منكر الحديث, يأتي عن الثقات بما لا يشبه حديث الأثبات. فنقل عن الدارقطني.
وفي حديث آخر في فضائل علي قال: قال الدارقطني: تفرد به حكيم بن جبير عن النخعي, قال أحمد: حكيم ضعيف الحديث، وقال السعدي: كذاب، فهو نقل هنا عن الثلاثة الدارقطني والإمام أحمد والسعدي.
وفي حديث يحيى عن علي بن الجزور يحيى لا يحل لأحد أن يروي عنه, وقال أبو الفتح الأزدي: لا اختلاف في تركه. فنقل عن الأزدي.
وفي حديث في فضل عبد الرحمن بن عوف رضي الله عنه في إسناده عبد العزيز بن عمران قال العقيلي: لا يعرف إلا بعبد العزيز, وهو غير محفوظ. قال يحيى بن معين: ليس بثقة. وقال البخاري: لا يكتب حديثه. وقال النسائي: متروك الحديث.
إذن هو نقل هنا في النماذج التي ذكرناها عن يحيى وابن حبان والخطيب والنسائي وابن عدي والدراقطني والبخاري والإمام أحمد والعقيلي والأزدي والسعدي كلهم نقل عنهم.
إذن هذه أمثلة لموارده رضي الله عنه ورحمه- في كتابه هذا.
أيضًا ابن الجوزي أحيانا يحكم بنفسه كما في حديث في فضل فاطمة بنت أسد قال المؤلف: تفرد به روح بن صلاح, وهو في عداد المجهولين. هذا حكمه, وقد ضعفه ابن عدي.
وفي حديث الوضوء مما مست النار، قال المؤلف: هذا حديث لا يعرف, إلا من حديث يحيى بن أنيس, هو معروف بالكذب. هذا حكمه. قال أحمد والنسائي: لا يعرف إلا من حديث يحيى, وهو متروك.
وفي الحديث الذي بعده أيضًا في حديث نقض الوضوء بالردة قال: هذا حديث لا يصح عن رسول الله صلى الله عليه وسلم وبقية يدلس, فلعله سمعه من بعض الضعفاء.
وأيضًا أحيانًا يكتفي بحكم العلماء على الحديث نفسه, مثلًا في حديث في فضل الأردن في حديث رقم 497 قال بعد أن ذكر الحديث: قال ابن عدي: هذا حديث منكر, وأحمد بن كنانة منكر الحديث.
هكذا نقل أحكام العلماء واستعان بها أحيانًا وحكم بنفسه أحيانًا أخرى من غير استعانة بأحكام العلماء.
الألفاظ التي استعملها في كتابه:
استعمل ابن الجوزي ألفاظًا كثيرة في كتابه، وأغلب اصطلاحاته قوله: هذا حديث لا يصح عن رسول الله صلى الله عليه وسلم.
أيضًا أحيانًا لا يذكر شيئًا يعني: لا يقول لا يصح أو غيره, إنما يكتفي ببيان علة الحديث, كما في حديث: “من أدرك ركعة من الجمعة” من كتاب الصلاة؛ قال: – مكتفيًا ببيان علل الحديث-, قال عن عبد الرزاق بن عمر الدمشقي: قال: عبد الرزاق ليس بشيء كذاب, قال أبو حاتم: لا يكتب حديثه. وهنا لم يقل: الحديث صحيح أو لا يصح أو كذا إنما اكتفى ببيان علة الحديث, بعد أن رواه وفيه عبد الرزاق ابن عمر الدمشقي قال: عبد الرزاق ليس بشيء، كذاب, قال أبو حاتم: لا يكتب حديثه.
أحيانًا بدل أن يقول هذا حديث لا يصح يقول: هذا حديث لا يثبت كما في حديث المشي إلى المسجد بالليل.
وأحيانًا يقول: هذا حديث لا يعرف إلا من طريق فلان, مثل الحديث الذي ذكرناه في الوضوء مما مست النار, قال المؤلف: هذا حديث لا يعرف إلا من حديث يحيى بن أنيس وهو معروف بالكذب, قال أحمد والنسائي لا يعرف إلا من حديث يحيى وهو متروك.
إذن لم يقل: لا يصح أو لا يثبت أو ما ذلك إنما قال لا يعرف إلا من طريق فلان ثم بين أن فلانًا هذا هو محط العلة في هذا الحديث, وكذلك في حديث رقم 754 في النهي عن قنوت الفجر, قال فيه: تفرد به عنبسة, قال يحيى: ليس بشيء. وقال النسائي: تفرد به.
وأحيانًا -كما قلت- ينقل أحكام العلماء فقط كما في حديث الذي أشرنا إليه أيضًا في فضل الأردن حديث رقم 497 قال بعد أن ذكر الحديث, -لم يذكر هنا لا يصح أو لا يثبت أو لا يعرف- قال: قال ابن عدي: هذا حديث منكر وأحمد بن كنانة منكر الحديث. وهكذا تنوعت عباراته -رحمه الله- في الحكم على الأحاديث, وأغلب مصطلحاته قوله: هذا حديث لا يصح.
موقف العلماء من كتاب ابن الجوزي (العلل المتناهية):
الآن ننتقل إلى موقف العلماء من هذا الكتاب ببيان ما له وما عليه:
أولا: هو كتاب رئيس في بابه في الأحاديث المعلة, لكن لهم عليه ملاحظات، من هذه الملاحظات التي انتقدها العلماء: أن الإمام ابن الجوزي رحمه الله أورد في كتابه (العلل المتناهية في الأحاديث الواهية) كثيرًا مما أورده في (الموضوعات) هذا أيضًا كنا قد بيناه ونحن نتكلم عن انتقاداتهم لكتاب (الموضوعات).
ففي الحقيقة هناك أحاديث أوردها في الكتابين معًا فهل هي من باب الموضوعات أو هل هي من باب الأحاديث المعلة, ولا تصل إلى درجة الوضع ولذلك هذه النقطة لها اتصال بما ذكروه من تسرعه وتوسعه في الحكم على الأحاديث بالوضع هناك لمجرد أي شبهة لدرجة أنه حكم على بعض الأحاديث بالوضع وهي في الصحيح كما كنا قد تكلمنا هناك.
أيضًا مما عابوه عليه أنه قد فاته من نوعي الموضوع والواهي قدر ما كتب أو أكثر, وكنا قد ذكرنا هناك كلمة ابن حجر -رحمه الله تعالى- في (النكت) وأيضًا ما ذكره السخاوي في (فتح المغيث) أن ابن حجر أشار إلى أنه فاته كثير من الأحاديث الموضوعة في كتاب (الموضوعات) وفاته أيضًا من الأحاديث الواهية في كتاب (العلل) ولعله يعتذر عنه بأنه لا يقصد الاستيعاب, فإن الاستيعاب قد يطول وقد يتعب وقد يرهق, وكثير من علمائنا لم يقصدوا الاستيعاب في كتبهم أيا كان موضوع الكتاب الذي ألف فيه, إنما يشير إلى أهم المسائل في الكتاب فلعل ابن الجوزي رحمه الله كان يقصد ذلك.
أيضًا مما عيب على ابن الجوزي -رحمه الله- أنه في تصانيفه الوعظية, وما أشبهها أكثر من إيراد الموضوع, وشبهه في الضعف والوهي, ومما هو في الكتابين معًا وهذا أمر أيضًا قد ذكرناه في أثناء كلامنا عن كتاب (الموضوعات).
أيضًا مما عيب على ابن الجوزي -رحمه الله- كما عيب عليه أيضًا في (الموضوعات) أنه يتسرع أو يتوسع في الحكم على الأحاديث, هناك عابوا عليه وضعه لبعض الأحاديث التي في الصحيح أو في السنن ولها قوة يحتج, بها عابوا عليه صنيعه هذا, وهو أنه يتسرع في الحكم على الحديث.
أيضًا هنا عابوا عليه توسعه لوضع الحديث في كتاب (العلل) لأدنى ملابسة, فمثلًا إذا كان هناك بعض الوهم أو الإرسال أو الاضطراب أو الضعف, وسوء الحفظ وغيرها يعل الحديث، مثلًا الحديث الذي ذكره في باب: أن الله تعالى قديم، من كتاب التوحيد قال ابن الجوزي: هذا الحديث لا أصل له, قال ابن حبان: عبد الله بن جعفر يهم في الأحاديث, ويأتي بها مقلوبة ويخطئ. يعني العيب الذي ذكره ابن حبان للراوي: الوهم في الحديث ويأتي بها مقلوبة لا تصل إلى حد أن يوصف الحديث بأنه لا أصل له.
يعني لو قارنا بين الدليل الذي ذكره هو لبيان علة الحديث: أن عبد الله بن جعفر يهم في الحديث ويأتي بها مقلوبة, ويخطئ. هذا عبد الله بن جعفر والد علي بن المديني يعني هو ضعيف يعني حتى ابنه علي ضعفه, ونضرب ذلك مثالًا لأن علماء الحديث لا يخافون في الله لومة لائم, مهما كانت القرابة منهم.
أيضًا في الحديثين الذين ذكرهما تحت باب: ذكر الاستواء على العرش هو حديث عبد الله بن خليفة… الكرسي الذي يجلس الله عز وجل عليه. قال ابن الجوزي في بيان علله: هذا حديث لا يصح عن رسول الله صلى الله عليه وسلم وإسناده مضطرب جدًّا وعبد الله بن خليفة ليس من الصحابة, فيكون الحديث الأول مرسلًا. وابن الحكم وعثمان لا يعرفان, وتارة يرويه ابن خليفة عن عمر عن رسول الله صلى الله عليه وسلم وتارة يوقفه على عمر, وتارة يوقف لعلي بن خليفة, وتارة يأتي فما يفضل منه إلا قدر أربعة أصابع, وتارة يأتي فما يفضل منه مقدار أربعة أصابع, وكل هذا تخليط من الرواة فلا يعول عليه. هذا كلامه في (العلل المتناهية).
يعني الحديث قال: لا يصح, هو إذا كان عبد الله بن خليفة ليس من الصحابة يكون الحديث مرسلًا, فيه من لا يعرف… إلى آخره, يعني: حكم في النهاية أن كل هذا تخليط من الرواة فلا يعول عليه.
نحن لا ندافع عن الحديث إنما أقصد أن العبارات التي يستعملها قد لا تتناسق ولا تتفق أحيانًا مع ما ينبغي للحديث من درجة علمية دقيقة, يحكم بها عليه؛ لأن هذه مسئولية أمام الله تبارك وتعالى.
أيضًا يحكم على الأحاديث بالضعف لأدنى مناسبة وهذه أيضًا لها نماذج كثيرة نكتفي بهذا القدر.
الكتاب طبع عدة طبعات وتحقيقات, ومنها طبعة إدارة العلوم الأثرية بفيصل آباد بباكستان بتحقيق الأستاذ إرشاد الحق الأثري في الطبعة الثانية 1401 ، 1981 م جزاه الله خيرًا, ونفع الله بالكتاب وصاحبه.