مقدمتان ممهدتان لحقوق المتهم في الدفاع عن نفسه في الشريعة الإسلامية. 6.1
لقد حرصت هذه الشريعة الغراء على براءة المتهم إلى أقصى الحدود، حيث يعامل معاملة البريئة حتى تثبت إدانته، نلحظ ذلك في تقريرات كثيرة، وفي أحكام عديدة، وفي ضمانات لازمة ضمنتها الشريعة لنزاهة التحقيق ولإبعاد السهام التي تضيّق الخناق على المتهم، وعلى تحريم الشريعة لإقامة حكم دون توفر أسباب الحكم الكافية، ولدرئها الحدود بالشبهات، ومما قررته أيضًا من أنه لا بأس بالعفو في الحدود وعقوباتها قبل أن يُرفع الأمر إلى حاكم، وغير ذلك مما سيأتي تقريره وتبيينه. ولكن قبل أن نلجأ إلى ذلك لا بد أن نتحدث وأن نمهّد بمقدمتين ممهدتين لحقوق المتهم في الدفاع عن نفسه في الشريعة الإسلامية. أما المقدمة الأولى فإنما نلمس حماية الإسلام للأفراد من الوقوع في التهمة، فقد اتخذ الإسلام طرقًا ناجعة وسبلًا نافعة في حماية الأجيال، ابتداء من الوقوع في التهم وارتكاب الجرائم، ومن ذلك الأمر بالتربية حيث جاءت الشريعة بالأمر بالتربية التي تبتدئ من اختيار الزوجين، وتبتدئ من العناية بالأبوين حتى يكون قدوة صالحة وحسنة لأولادهما، ولينشأ الأولاد نشأة صالحة برعاية وتهذيب وتعليم من الأبوين الصالحين الكريمين، فتغرس في نفوس الأطفال معاني الكرامة والعزة، ويستأصل منها معاني الذلة والدناءة، تزرع في نفوس الأطفال معاني المحبة والمودة، وتستأصل معاني الحقد والحسد والشحّ والجبن والبخل والهلع والجزع، وتأصيل ذلك عن طريق الموعظة تارة، والترغيب تارة، والترهيب أخرى. وقد رأينا الجماعة المسلمة تُحاط بدرس أسبوعي وعظي، يُتلقى في كل جمعة من شأنه أن يرقق القلوب، وأن يصل النفوس بالله علام الغيوب، كما وُضعت حواجز معنوية تحذر الفرد من الوقوع في الحرام، فتارة يُنفى الإيمان عن مرتكبي المحرم كما قال تعالى: {وَمَا أُولَئِكَ بِالْمُؤْمِنِينَ} (المائدة: 43)، وتارة يتهدد فاعل المعصية بالخزي في الدنيا والعذاب في الآخرة كما قال تعالى: {ذَلِكَ لَهُمْ خِزْيٌ فِي الدُّنْيَا وَلَهُمْ فِي الْآخِرَةِ عَذَابٌ عَظِيمٌ} (المائدة: 33)، فيعيش الفرد هذا الوازع الديني الذي يكون بين عينيه؛ لأنه لا مفر من عقاب الله إن نجا في الدنيا، فإنه لا ينجو في الآخرة إلا أن يشاء الله شيئًا {إِنَّ اللَّهَ لَا يَغْفِرُ أَنْ يُشْرَكَ بِهِ وَيَغْفِرُ مَا دُونَ ذَلِكَ لِمَنْ يَشَاءُ} (النساء: 48)، كما وضعت حواجز حسية فيما يكثر خطره، ويتعدَّ ضرره ويكون مجرد الإشاعة فيه جرمًا له أثر عظيم وبليغ، فإن جريمة الزنا مثلًا قد أمر لأجل الحياطة عنها، والذَّود عنها حُرّم إطلاق البصر، وأوجبت الشريعة الاستئذان، وفرضت على المرأة الستر والحجاب، وحرمت الخلوة بالأجنبية، ومنعت من السفر بدون محرم، وفي المقابل فتحت الشريعة باب الحلال، ورغَّبت فيه وأمرت بتيسيره، ونهت عن المغالاة في المهور وغير ذلك، وحفظت الأخلاق والأبدان، والنسل والأعراض من انتشار الأمراض
الفتاكة القاتلة التي تؤثر في هذا العصر تأثيرًا ليس له مثيل، والنبي -عليه الصلاة والسلام- يقول: ((وما فشت الفاحشة حتى أعلنوا بها إلا ابتلوا بالطاعون والأوجاع التي لم تكن في أسلافهم))، ووُجدت رقابة جماعية من المسلمين عن طريق الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، والدعوة إلى الله قال جل من قائل: {كُنْتُمْ خَيْرَ أُمَّةٍ أُخْرِجَتْ لِلنَّاسِ تَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَتَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنْكَرِ وَتُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ} (آل عمران: 110)، والنبي -عليه الصلاة والسلام- يوجه من ((رأى منكم منكرًا فليغيّره بيده، فإن لم يستطع فبلسانه، فإن لم يستطع فقلبه، وذلك أضعف الإيمان))، فإذا ما اقتحمت هذه الحواجز، وتعدَّى الإنسان هذه الحدود، وخالف هذه التحذيرات ووقع الفرد في المحظور؛ كان لا بد من تلافي الخطر، وكان حتمًا القضاء على هذا الأثر، أو تخفيف ما ينتج عنه من ضرر. وهذا لا يكون إلا بالعلاج الحاسم مع مراعاة تقدير الجريمة والمتهم، والواقع الذي حصلت فيه هذه الجريمة. وهذا يقود إلى المقدمة الثانية، والممهّدة الثانية، وهي أن المتهمين ليسوا نوعًا واحدًا بل هم أنواع ثلاثة: الأول: شخص معروف بالشر والعدوان، وله سوابق في ارتكاب الجرائم والآثام، وهذا النوع من المتهمين معروفٌ بسوابقه وبشهرته في المجتمع. وفي الوقت الحاضر يمكن الكشف عن أمره، وتبيُّن حاله بما يعرف في الدوائر الأمنية اليوم بصحيفة السوابق، وهي ذلك السجل الخاص بالمتهم الذي تدوّن فيه القضايا التي اقترفها، والأحكام التي صدرت بحقّه، فإذا وُجد أن للمتهم سجلًّا حافلًا بالإجرام، فإن ذلك يرجح اتهامه على براءته. والنوع الثاني: شخص معروف بالاستقامة والصلاح يُستبعد وقوع الجريمة منه، ولو قالها شخص للناس لنفوها تلقائيًّا، وعابوا هذا الذي رماه بها، فهذا النوع من إقامة الدعوى تحتاج إلى دليل قوي يوجد الجزم، ويؤثر باليقين لدى القاضي والمدعي العام قبل الشروع في المحاكمة. والنوع الثالث: شخص جُهل حاله لا يعرف عنه صلاح ولا فجور، فقد تعادل طرفا الدعوى في تهمته، والبراءة في الأصل مقدمة؛ لأن الإسلام ينظر نظرة الاحتياط والرعاية والسلامة، وعلى هذا فإننا عندما نتحدث عن حقوق المتهم فإن أهمية حقوقه تكبر العناية بها بحسب هذه الأنوع؛ إذ لا يليق أن نترك شخصًا معروفًا بالجرائم والسرقات والاعتداء، ونحو ذلك، ثم لا يتم القبض عليه بحجة أن الأصل براءته، وأن القرائن لا تفيد في إثبات ما يتعلَّق بهذه الجريمة، أو تلك، وإلا أدَّى هذا إلى ضياع الأمن وجرأة أصحاب النفوس الدنيئة على القيام بأعمال غير مشروعة؛ استنادًا على أنه ما لم يقبض عليه متلبسًا بالجريمة فإنه بريء، لذا فإنه لا يقال ببراءة كل شخص مطلقًا، لأنه إذا كان من النوع الأول فإنه أقرب للتهمة، فيحتاط في أمره لرعاية الحق والحفاظ عليه، وينتفي هذا في حق الصنف الثاني، ويكون الأمر متوازنًا في حق الصنف الثالث بما لا يخرج عن أصل الكرامة الإنسانية، ولا يخرج عن نظام العدل الذي ليس فيه ظلم ولا تعدٍّ.
ومن الحسن أن نسجل الآن حرص الشريعة على براءة المتهم إلى أقصى الحدود، نلحظ ذلك في الحديث حيث قرر النبي -عليه الصلاة والسلام- لمن أرسله لتنفيذ الحكم بقتل من يُدخل على زوجته إذا رأى من دواعي البراءة التي لا يراها النبي -عليه الصلاة والسلام- على البعد أن يلغي تنفيذ هذا الحكم، وذلك حرصًا على كل نفس بشرية، ومنعًا للظلم التي تنهى عنه الشريعة نهيًا قاطعًا، فكما أقرَّت الشريعة أن الشبهات تسقط العقوبات مهما كبرت الجريمة أو صغرت الشبهة، وذلك عملًا بقاعدة ادرءوا الحدود بالشبهات، فإن بعض الفقهاء يرون أن الحدود لا تثبت بخبر الآحاد؛ لأن ورود الحد في رواية خبر الآحاد يعتبر في ذاته شبهة دارئة للعقوبة؛ لما فيه من احتمال ولو كان ضئيلًا لأن يكون قد تعرض عند تحمله أو روايته لشيء أو يسير المؤثر في المعنى المراد، وهذا في حدّ ذاته شبه تُسقط العقوبة، ولذا فإن الشريعة قد أقرت أنه لا بأس بالعفو والشفاعة في الحدود وعقوباتها قبل أن يُرفع الأمر إلى الحاكم، كما سيأتي تفصيله مستدلّين بحديث أسامة حين شفع في المخزومية التي سرقت، قال الشوكاني: ينبغي أن يقيد المنع من الشفاعة بما إذا كان الرفع إلى الإيمان، لا إذا كانت قبل ذلك لما في حديث صفوان بن أمية عند أحمد والأربعة، وصححه الحاكم أن النبي -صلى الله عليه وسلم- قال له لما أراد أن يقطع الذي سرق رداءه فشفع فيه ((هلَّا كان قبل أن تأتيني به))، وعن محمد بن عمر بن علي بن أبي طالب -رضي الله عنه- عن علي -رضي الله عنه- قال: ((قلت: يا رسول الله إذا بعثتني أكون كالسكة المحماة، أم الشاهد يرى ما لا يرى الغائب؟ قال: الشاهد يرى ما لا يرى الغائب))، وهذا عند أحمد، والبزار، وذكره الهيثمي
ومن تأمل القرآن العظيم والسنة النبوية، وجد أنهما يحُثَّان على العدل والإنصاف، وعدم هضم حقوق الآخرين حتى ولو كانوا أعداء، قال جل من قائل: {وَلَا يَجْرِمَنَّكُمْ شَنَآنُ قَوْمٍ عَلَى أَلَّا تَعْدِلُوا اعْدِلُوا هُوَ أَقْرَبُ لِلتَّقْوَى} (المائدة: 8)، وقال: {إِنَّ اللَّهَ يَأْمُرُ بِالْعَدْلِ وَالْإِحْسَانِ وَإِيتَاءِ ذِي القُرْبَى} (النحل: 90)، وعليه فإن الشريعة حرصت للمتهم على ضمانات لازمة لنزاهة التحقيق، وحرمت الإعانة على خصومة باطلة، والوساطة التي تحول دون حدّ من حدود الله، كما منعت من إلقاء التهم جزافًا على المؤمنين والمؤمنات، عن ابن عمر -رضي الله عنهما- قال: سمعت رسول الله -صلى الله عليه وسلم- يقول: ((من قال سبحان الله والحمد ولا إله إلا الله والله أكبر؛ كُتبت له بكل حرف عشرة حسنات، ومن أعان على خصومة باطلة لم يزل في سخط الله حتى ينزع، ومن حالت شفاعته في حد من حدود الله؛ فقد الله ضادّ الله في أمره، ومن بهت مؤمنًا أو مؤمنة حبسه الله في ردغة الخبال يوم القيامة حتى يخرج مما قال، وليس بخارج)) هذا أخرجه الطبراني وأبو يعلى وذكره الهيثمي في (مجمع الزوائد).
الشريعة حرمت إقامة حكم دون توفّر الأسباب الكافية من شهود، ودعاوى، وبينة أي: دون توفر الدلائل المادية بكل أبعادها، وقد طبق الخلفاء الراشدين هذه الأمانة بكل مسئولية، فقررت الشريعة أنه لا جُرم إلا بنص شرعي واضح يقضي بتجريم الفعل، عملًا بالقاعدة القرآنية: {وَمَا كُنَّا مُعَذِّبِينَ حَتَّى نَبْعَثَ رَسُولًا} (الإسراء: 15)، وأن الجريمة الشخصية يختصّ بآثارها العقابية من اقترفها عملًا بالقاعدة القرآنية الثابتة بالآيات الكثيرة، ومنها {وَلا تَكْسِبُ كُلُّ نَفْسٍ إِلاَّ عَلَيْهَا} {لِكُلِّ امْرِئٍ مِنْهُمْ مَا اكْتَسَبَ مِنَ الْإِثْمِ} {مَنْ يَعْمَلْ سُوءًا يُجْزَ بِهِ} {وَمَنْ يَعْمَلْ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ شَرًّا يَرَهُ}؛ يتبين من وراء هذا أن الإسلام ليس كتلك النظم الظالمة الباطشة التي تُعاقب غير الجاني، وتعاقب على غير الجناية، أو تعاقب قرابة الجاني من البرءاء ونحوهم، أو تُعَدِّي أثر الجريمة إلى من يحوطون بالجاني، وعندما ضُرب أمير المؤمنين علي بن أبي طالب -رضي الله عنه- بالسيف ضربة الموت قال لابنه الحسن ولبني عبد المطلب: يا بني عبد المطلب لا ألفينّكم تخرجون دماء المسلمين تقولون: قُتل أمير المؤمنين، قُتل أمير المؤمنين، ألا لا يقتلنَّ إلا قاتلي، انظر يا حسن إن أنا مت من ضربتي هذه، فاضربه ضربة بضربة، ولا تمثل بالرجل؛ فإني سمعت رسول الله -صلى الله عليه وسلم- يقول: ((إياكم والمُثْلة، ولو أنها بالكلب العقور)) هذه رواية الطبري في “تاريخه“، ووضحت السنة النبوية ذلك بجلاء ووضوح، قال أبو بكر الصديق: لو وجدت رجلًا على حد من حدود الله لم أحدَّه أنا، ولم أدع له أحدًا حتى يكون معي غيري. وعن بهز بن حكيم عن أبيه عن جدّه أن النبي -صلى الله عليه وسلم- حبس رجلًا في تهمة، ثم خلَّى عنه، وعن جعدة الجشمي قال: أُتي النبي -صلى الله عليه وسلم- برجل فقالوا: هذا أراد أن يقتلك! فقال له النبي: ((لم تُرع لم تُرع، ولو أردت ذلك لم يسلطك الله عليه)) هذا أخرجه الإمام أحمد في مسنده، والطبراني في (الكبير)، وذكره الهيثمي في (مجمع الزوائد)، وعن ابن عباس قال: جاءت جارية إلى عمر بن الخطاب فقالت: إن سيدي اتهمني فأقعدني على النار حتى احترق فرجي، فقال لها عمر: هل رأى ذلك عليكِ؟ قالت: لا. قال: فهل اعترفتِ له بشيء؟ قالت: لا. قال عمر: عليَّ به. فلما رأى عمر الرجل قال: أتعذب بعذاب الله؟ قال: يا أمير المؤمنين اتهمتها في نفسها. قال: أرأيت ذلك عليها؟ قال: لا. قال: فاعترفت لك به؟ قال: لا. قال: والذي نفسي بيده لو لم أسمع رسول الله -صلى الله عليه وسلم- يقول: ((لا يُقاد مملوك من مالكه، ولا ولد من والده لاقدتها منك))، وضربه مائة سوط، وقال للجارية: اذهبي فأنت حرة لوجه الله، وأنت مولاة الله ورسوله، أشهد أني سمعت رسول الله -صلى الله عليه وسلم- ((من حُرّق بالنهار أو مُثّل به؛ فهو حر، وهو مولى الله ورسوله)) أخرجه الحاكم في (المستدرك)، وقال الليث: وهذا القول معمول به، هذا الحديث صحيح الإسناد ولم يخرجاه، وقد أخرجه البيهقي في (سننه الكبرى) إذًا الأصل في المتهم البراءة حتى تثبت إدانته لماذا؟
لأن اليقين كما تقرّر القاعدة الفقهية لا يزول بالشك، وإذا كان كل مولود يُولد على الفطرة، والفطرة بيضاء نقية، فلا تجوز أن تلوث، ولا أن تتهم إلا أن ينقل عن اليقين يقين مثله، وقد سبق الإسلام بهذه النصوص وتلك القواعد ميثاق الأمم المتحدة الذي صدر عام 48، بل قرر الإسلام أن أيَّ شبهة ارتكاب الشخص لحدّ من حدود الله كما قلنا يرفع العقوبة عنه، وقرر الإسلام أن الأصل براءة الذمة والنبي -عليه الصلاة والسلام- قال: ((لو يعطى الناس بدعواهم لادَّعى ناس دماء رجال وأموالهم، ولكن اليمين على المدعى عليه)) إذًا من الحقوق كما أن الأصل في المتهم أنه بريء حتى تثبت إدانته من الحقوق أيضًا حق إنكار التهمة، وقد رأينا الجارية أنكرت هذه التهمة، وجاءت إلى أمير المؤمنين تشتكي ما فعل سيدها بها؛ لأنه حرَّقها بالنار في موضع عفتها لمَّا شك فيها. ونرى أيضًا أن الشريعة لا تنفذ أحكام القتل تحديدًا بمجرد الشبهات، بل أحاطت بسياج منيع من الإجراءات، وذلك لإشاعة الأمن من جهة، ولحماية الخلق من الظلم من جهة أخرى، وفي ذلك جاءت أحاديث كثيرة تدل على هذا المعنى، ومنه ما رُوي عن سلول بن أبي الجعد قال: سمعت عليًّا -رضي الله عنه- يقول: لتخضبن هذه من هذا، فما ينتظر بي الأشقى قالوا: يا أمير المؤمنين فأخبرنا به نبير عطرته، قال: إذًا تالله تقتلون بي غير قاتلي. قالوا: فاستخلف علينا. قال: لا، ولكن أترككم إلى ما ترككم إليه رسول الله. قالوا: فما تقول لربك إذا أتيته، وقال وكيع مرة إذا لقيته. قال: أقول اللهم تركتني فيهم ما بدا لك، ثم قبضتي وأنت فيهم، فإن شئت أصلحتهم وإن شئت أفسدتهم. هذا أخرجه الإمام أحمد في مسنده وابن أبي شيبة في مصنفه.
ولمَّا بلغ عمر -رضي الله عنه- أن عامله على البحرين ابن الجارود أُتي برجل يقال له: أدرياس قام عليه بينة بمكاتبة عدو المسلمين، وأنه قد همَّ أن يلحق بهم فضرب عنقه، وهو يقول: يا عمراه يا عمراه، فكتب عمر إلى عامله ذلك فأمره بالقدوم عليه، فقدم فجلس له عمر وبيده حربة، فدخل على عمر، فعلا عمر لحيته بالحربة وهو يقول: أدرياس لبيك، أدرياس لبيك، وجعل الجارود يقول: يا أمير المؤمنين إنه كاتبهم بعورات المسلمين، وهمَّ أن يلحق بهم. قال عمر: قتلته على همّه، وأيُّنا لم يهم، لولا أن تكون سنة لقتلتك به.وعن النزال بن سبرة قال: كتب عمر إلى أمراء الأجناد ألا تُقتل نفسٌ دوني، أي: إلا بإذني، رأينا من فعل عمر ومن قول علي -رضي الله عنه- كيف اجتهد الخلفاء الراشدين في تبرئة المتهم إلى أقصى الحدود؛ لأنهم يدافعون عن الحق في كل ميدان، ويبذلون غاية الجهد في إزالة الشبهات عن المتهمين، ويثبتون الحق له في إنكار التهم التي تُنسب إليه، وقد رُوي عن عطاء قال: أُتي علي برجل وشهد عليه رجلان أنه سرق، فأخذ في شيء من أمور الناس، وتهدَّد شهود الزور، وقال: لا أؤتى بشاهد زور إلا فعلت به كذا وكذا، ثم طلب الشاهدين فلم يجدهما فخلَّا سبيله