مقدّمة الواجب، أو ما لا يتم الواجب إلا به
صورة المسألة:
إذا أمَر الشارع بواجب، وكان حصول ذلك الواجب يتوقّف على أمْر آخر، فهل يَجب ذلك الشيء الذي توقّف عليه الواجب بِنفس الدليل الذي ثبت به وجوب الواجب؟
تحرير محلّ النّزاع:
ما يتوقّف عليه الواجب المطلق قسمان:
الأول: ما يتوقّف عليه وجوبه؛ فهذا ليس بواجب علينا إجماعًا، سواء كان شرطًا، أو سببًا، أو انتفاء مانع في مقدورنا أو ليس في مقدورنا.
الثاني: ما يتوقّف أداء الواجب أو وجوده عليه، بعد وجوبه علينا؛ فهذا قسمان:
- أن يكون جزءًا مِن المأمور به داخلًا فيه، كالسجود في الصلاة؛ فهذا واجب بالاتفاق.
- أن يكون خارجًا عن المأمور به، كالشروط والأسباب، سواء كانت عقليّة، أو عاديّة، أو شرعيّة؛ فهذا هو محلّ النزاع.
أقوال العلماء:
اختلف العلماء -رحمهم الله- في هذه المسألة على أقوال، منها:
القول الأول: أنّ ما لا يتمّ الواجب المطلق إلا به، فهو واجب مطلقًا. وهذا مذهب الجمهور.
القول الثاني: أنه ليس بواجب مطلقًا، ونُسب للمعتزلة.
القول الثالث: يجب إن كان سببًا فقط، دون ما إذا كان شرطًا. ونُسب للواقفيّة.
القول الرابع: يجب إن كان شرطًا شرعيًّا فقط، ولا يجب إن كان عاديًّا أو عقليًّا. وهو اختيار بعض العلماء.
من أدلّة أصحاب المذهب الأول “الجمهور”:
استدلّ الجمهور لمذهبهم بعدّة أدلّة، منها:
- أنّ وسيلة المأمور به لو لم تكن مأمورًا بها لساغ للمُكلَّف ترْكها، ولو ساغ له ترْكُها لساغ له ترْك الواجب، لتوقّف الواجب عليها؛ ولو ساغ له ترك الواجب لم يكن واجبًا.
- إذا لم يكن المأمور مُكلَّفًا بالشرط، يكون الإتيان بالمشروط وحْده صحيحًا؛ وهذا محال، إذ يجتمع كونه شرطًا ولا شرط.
من أدلّة أصحاب المذهب الثاني “المخالِفين للجمهور”:
أنّ الخطاب لم يتعرّض لإيجاب الشّرط، ولا لإيجاب السبب، وإنّما تعرض لإيجاب الواجب فقط، وسكت عمّا عداه؛ فإيجاب المقدّمة إثباتٌ لشيء لم يقْتضِه الخطاب، فيكون باطلًا.
وأجيب عنه: بأنه استدلال بمحلّ النّزاع، وهو لا يصحّ.
من أدلّة أصحاب المذهب الثالث:
أن ارتباط الشيء بسببه أقوى مِن ارتباطه بشرطه؛ ذلك أنّ السبب يؤثر مِن جهة الوجود وجهة العَدَم، والشرط تأثيره مِن جهة العدَم فقط.
وأجيب بعِدّة أجوبة، منها: أنّ الخطاب دلَّ على إيجاب الواجب فقط، ولم يتعرّض للشرط ولا للسبب، فهما متساويان بالنسبة للخطاب؛ فإيجاب أحدهما دون الآخر ترجيح بدون مرجّح، وهو باطل.
من أدلة أصحاب المذهب الرابع:
أنّ الشرط الشّرعيّ عُرفت شرطيّته مِن الشارع، فعدم إيجابه بالخطاب الموجب للمشروط يوجب غفلة المُكلَّف عنه وعدم التفاته إليه؛ وذلك موجب لتَرْكه، وترْكه يؤدّي إلى بطلان المشروط.
فلَزِم من ذلك: أن يكون الخطاب الموجب للمشروط موجبًا للشرط، حتى لا يغفل المُكلَّف عنه.
وأجيب عن ذلك: بأن ما ذكرتموه للشّرط متحقّق بعيْنه في السبب الشّرعي، ومع ذلك فلمْ توجبوه.
نوع الخلاف وفائدته:
إذا قلنا: إنّ الخلاف إنما هو في الدليل الموجب لتلك المقدّمة؛ هل هو نفس الدليل الذي ثبت به الواجب، أم أدلة مستقلة؟ فالخلاف يكون لفظيًّا.
فإذا دلَّ الدليل مِن خارج على وجوب المقدّمة، تظهر هناك فائدة أخروية، وهي:
أنّ المُمْتثِل يُؤجَر على فِعل الواجب وتحصيل الوسيلة، وغير المُمتثِل يُعاقَب على ترك الواجب وترك تحصيل الوسيلة. لكن ليس كل وسائل الواجب حصل بها الأمر استقلالًا؛ وبالتالي، فهذه الوسائل يكون وجوبها هو بنفس الدليل الذي وجب به الواجب. وتظهر لهذا فائدة في الفروع في الدنيا، كمن اشتبهت زوجته بأجنبيّة، فإنه يجب الكف عنهن جميعًا، وكذلك إذا اشتبهت ميتة بمذكاة.
أقسام مقدّمة الواجب:
تنقسم مقدّمة الواجب مِن حيث تقدّمها على الواجب، أو تأخّرها عنه، أو مقارنتها له، إلى خمسة أقسام:
الأول: أن تكون قبل الواجب.
الثاني: أن تكون بعد الواجب.
الثالث: أن تكون مقارنة للواجب.
الرابع: أن يمكن فيها الثلاثة.
الخامس: أن تكون مُبهَمة.
الواجب الذي لا يتغيّر بِحدٍّ محدود، ما حُكم الزيادة فيه على أقلّ الواجب؟
مثال ذلك: الطمأنينة في الركوع والسجود، ومدّة القيام والقعود في الصلاة، هذه واجبة كلّها؛ فلو مثلًا أطال الركوع، أو أطال القراءة، فما حكم الزائد عن القدر الواجب؟
وقد قسّم العلماء -رحمهم الله- الزيادة على الواجب إلى نوعيْن:
النوع الأول: زيادة على الواجب متميّزة عنه، كصلاة النّافلة بالنسبة إلى الصلوات الخمس؛ وهذه الزيادة غير واجبة اتفاقًا.
النوع الثاني: زيادة غير متميّزة عن الواجب، كالطّمأنينة في الركوع والسجود؛ فهذه محلّ الخلاف.
وقد اختلف العلماء -رحمهم الله- في حُكْم هذه الزيادة على قوليْن:
القول الأول: أنّ هذه الزيادة تكون مندوبة. وهو مذهب جمهور العلماء.
القول الثاني: أنّ هذه الزيادة تكون واجبة. وهو مذهب بعض العلماء.
أدلّة الجمهور:
الدليل الأول: أنّ الزيادة على أقلّ الواجب يجوز ترْكها مطلقًا مِن غيْر بدل؛ وهذا حدّ المندوب لا الواجب.
الدليل الثاني: أنّ مَن فَعَل أقلّ ما يقع عليه الاسم، صحَّ أنْ يُخبر عن نفسه أنّه امتثل؛ ولو كان اللفظ متناولًا لأكثر من ذلك، لما صحّ.
الدليل الثالث: أنّ فِعْله ما يُسمّى ركوعًا أو سجودًا يُسقط عنه حُكْم الأمْر بالركوع والسجود؛ فيجب أنْ يكون هو الغرض فقط، وما زاد تطوّعًا.
أدلّة المخالِفين:
بأنّ نسبة الكلّ إلى الأمْر واحدة، والمطلوب لا يتميّز بعْضُه عن بعض؛ فالكلّ امتثال.
وأجاب الجمهور بعدم تسليم ما قالوا؛ فإنّ أقل ما يقع عليه الاسم أوْلى من غيره، لكونه يُذَمّ على تَرْكه دون غيره.