ملامح من الحياة الاقتصادية والاجتماعية في الأندلس
كانت الحياة في بلاد الأندلس لها طوابعها وخصائصها التي ميّزتها عن الحياة الثقافية والاجتماعية والأدبية كذلك في بلاد المشرق العربي.
كانت هناك ديانات قبل الإسلام في بلاد الأندلس، وكان أكثر السكان يدينون بالمسيحية؛ ولأن الإسلام الدين الصالح لكل زمان وكل مكان، ويجد الناس فيه ما يريدون مِمَّا يناسب حياتهم المادية وحياتهم الروحية، فإن الإسلام فَرَضَ نفسه على سكان هذه البلاد كما فرض نفسه في كل البلاد التي ذهب إليها المسلمون.
لَمْ يلبث الإسلام أن نَحَّى النصرانيةَ عن عَرْشِهَا في بلاد الأندلس، وصارت الغالبية العظمى من أهل البلاد مسلمين، ونشأ أولادهم على الإسلام، وبالتأكيد احتفظ بعضُهم بدينه المسيحي، ولأن الإسلام لا يُكره أحدًا على الدخول فيه، وهذه علامة من علامات تسامح المسلمين مع غيرهم، من هذه العلامات بقاء عدد من أصحاب البلاد التي فتحها المسلمون على دياناتهم القديمة الأصلية، فقد ترك المسلمون المسيحيين يختارون ما يعتقدون وما يدينون به دون إكراه، فأكثرهم دخل في الإسلام وظل بعضُهم على دينه.
وتعايش هؤلاء المسلمون -الذين يمثلون الأغلبية من الوافدين ومن السكان الأصليين الذين اعتنقوا الإسلام- مع أولئك الذين احتفظوا بديانتهم المسيحية.
وما لبثت اللغة العربية كذلك أن تغلبت على اللغة السائدة في تلك البلاد، وأصبح الناشئة يتعلمون هذه اللغة، ويُبدعون فيها كما صنَعَ غيرهم من أبناء الأمم التي اعتنقت الإسلام، واتخذت اللغة العربية لغةً للثقافة والأدب في إطار الدولة الإسلامية العربية.
ونحن نجد في كُتُب الأدب ما يدل على تغلب اللغة العربية على اللغة الأصلية للسكان الأصليين في هذه الشهادة، حيث يقول أحد القساوسة الإسبان في ذلك الوقت:
“إن إخواني في الدين يجدون لذةً كبرى في قراءة شعر العرب وحكاياتهم، ويُقبلون على دراسة مذاهب أهل الدين والفلسفة المسلمين، لا ليردوا عليها وينقدوها، وإنما لكي يكتسبوا من ذلك أسلوبًا عربيًّا جميلًا صحيحًا، وأين تجد الآن واحدًا من غير رجال الدين يقرأ الشروح اللاتينية التي كتبت على الأناجيل المقدسة؟! ومَن سِوى رجال الدين يعكف على دراسة كتابات الحواريين وآثار الأنبياء والرسل؟! يا للحسرة! -يذكر أن طبقة رجال الدين فقط هم الذين يعكفون على دراسة الآثار اللاتينية، أو يقرءون شروح الإنجيل باللغة اللاتينية- إن الموهوبين من شبان النصارى لا يعرفون اليوم إلا لغة العرب وآدابها ويؤمنون بها ويقبلون عليها في نَهْم، وهم ينفقون أموالًا طائلةً في جمع كُتبها، ويفخرون في كل مكان بأن هذه الآداب حقيقة جديرة بالإعجاب، فإذا حدثتهم عن الكتب النصرانية أجابوك في ازدراء بأنها غير جديرة بأن يصْرِفُوا إليها انتباهَهُم، يا للألم! لقد أُنسي النصارى حتى لَغتهم، فلا تكاد تجد في الألف منهم واحدًا يستطيع أن يكتبَ إلى صاحبه كتابًا سليمًا من الخطأ، فأما عن الكتابة في لغة العرب فإنك واجِدٌ منهم عددًا عظيمًا يجيدونها في أُسلوب منمق، بل هم ينظمون من الشعر العربي ما يفوق شعرَ العرب أنفسهم فنًّا وجمالًا”.
هكذا إذًا تحولت البيئة الأندلسية إلى بيئة مسلمة عربية، دينُها الإسلام، ولغتها لغة القرآن.
ومع أن هذه البيئة تحوّلت إلى الإسلام وتحولت إلى اللغة العربية، فإن الشخصية الأندلسية تظهر لنا ذات ملامح خاصة تميزها عن الشخصية العربية في بلاد المشرق، وهذه السمات التي تميز الشخصية الأندلسية يذكرها المتخصصون في تاريخ الأندلس وأدبه.
فيذكرون أن بعض هذه السمات تتصل بالناحية الخُلقية، ويقولون: إن المحافظة على الأصول الأخلاقية العامة مع مَيْل إلى التحرر والانطلاق، وحُبّ الترخص، وبغض التزمّت- ما يميز الشخصية الأندلسية، ومِن هنا كان الشباب الناشئ في هذه البيئة من هذا الامتزاج بين العرب والبربر الذين وَفَدوا مع الفتح وهم المسلمون، والإسبان -السكان الأصليين- كانوا يكلفون بالشراب، وساعدهم على ذلك وَفرة الكروم والأعناب التي تُتخذ منها الخمور في هذه البلاد، كما كانوا يهيمون بالموسيقى والغناء والرقص، وهي فنون -كما يقول الدكتور أحمد هيكل: ربما كانت أنسب شيء إلى ظروفهم النفسية المطالبة بنوع من التنفيس.
ونحن إذ نذكر هذه السمات لا نظن أنها كانت تعمّ الناس جميعًا، لا نتصور أن الناشئة كلهم كانوا يميلون إلى الترخّص، وإلى حبّ اللهو، لا بد أن ننظر إلى هذه الأمور على أن التعميم فيها لا يجوز.
وكان من خصائص الأندلسيين -كما يذكر الدكتور أحمد هيكل أيضًا فيما يتعلق بالأخلاق، أو على حد عبارته، أو إن شئتَ فقل فيما يتصل بالعادات: كلفهم الشديد بالنظافة، وحبهم العظيم للتأنّق، ومَيْلهم الواضح إلى الزينة، ثم انفرادهم بتقاليد في الزي تخالف ما كان عليه أهل الأقاليم الإسلامية الأخرى.
فَهُم مثلًا كانوا في بعض عهودهم يميلون إلى كشف الرأس، وعدم لبس العمائم ونحوها مما كان يُستعمل في الأقاليم الإسلامية حينئذٍ، كما كان المعممون بحكم مناصبهم كالفقهاء والقضاة يتخذون عمائمَ مغايرةً تمامًا لِمَا كان عليه المشارقة، كذلك كانت ملابس الأندلسيين تتخذ تفاصيل وهيئات خاصة بهم، لا يكاد يعرفها إخوانهم في المشرق، وكان من أهم ظواهر مغايرة الأندلسيين للمشارقة في تقاليد الزي، اتخاذهم البياض لونًا للحداد.
ومن طريف ما يرُوى من الشعر في ذلك قول أحد الشعراء:
إذا كان البياض لباس حزن | * | بأندلس فذاك من الصواب |
ألم ترنِ لبست بياض شيبي | * | لأني قد حزنت على شبابي |
خصائص الأندلسيين العقلية:
من أهم هذه الخصائص الذكاء الذي يميل إلى البَساطة أكثر مما يميل إلى التعقيد، والتفكير الآخذ باليسر النافر من التفلسف، ومن هنا كانوا يبعدون كثيرًا عن التفريع والتعمق والتفلسف في أحوالهم العقدية والثقافية والفنية أيضًا، وظل الأندلسيون ينظرون إلى المشارقة على أنهم أساتذتهم في علوم الدين واللغة؛ لأن المشارقة كانوا في مهد الثقافة الإسلامية، وكانت بلادهم هي منبع اللغة العربية، وكانت أقاليم الدولة العربية في المشرق مصدرَ الاتجاهات الأدبية، من أجل ذلك كان الأندلسيون ينظرون إلى المشارقة من العلماء والأدباء والشعراء والكتّاب نظرةَ إعجابٍ، وكانوا يتتلمذون على كتبهم. وقد دفعهم هذا الإحساس أحيانًا إلى شيء من التعصب لأنفسهم وتأكيد تفوقهم، في محاولة لإثبات الذات في مواجهة ما يشعرون به من تفوق الأدب والعلم في المشرق.
وقد لاحظ الدارسون الراصدون والمتخصصون في دراسة البيئة الأندلسية وأدبها والشخصية الأندلسية- أن الأندلسيين كانوا يتعصبون للدين تعصبًا شكليًّا أحيانًا، فَهُم يتعصبون جدًّا لمذهب الإمام مالك، ويتعلقون به تعلقًا جامدًا، وهم يترخصون في كثير من الأمور المتعلقة بالدين في الوقت ذاته، فهذا التعصب الشكلي كما كان في الدين يذكرون أنه كان أيضًا ظاهرة في اللغة، حيث اهتم الأندلسيون كثيرًا بدراسة النحو والتأليف فيه، وَهُم في الوقت ذاته يتخذون لحياتهم لغةً يمكن أن يكون فيها كثير من التجاوز عن الأخطاء النحوية.
ونراهم أيضًا يتعصبون للأدب التقليدي تعصبًا كبيرًا، مع سَبْقهم إلى اختراع أشكال جديدة في الأدب وفي الشعر.
وهكذا يمكن تفسير هذه الظواهر التي تبدو متناقضةً بالشخصية والعناصر التي كوّنتها، فاختلاط العناصر التي كونت هذه الشخصيةَ من الأجناس الأجنبية والعربية، ثم اتصال هؤلاء المولّدين بمؤثرات تفتح أعينهم على الثقافة العربية والإسلامية، وتشدهم في الوقت ذاته إلى ما كان لهم من لغة، وما كان لهم من دين، ثم إعجابهم بالمشارقة، ومحاولتهم في الوقت ذاته الإعراب عن أنفسهم، أو التعبير عن أنفسهم وإثبات ذواتهم، كل هذا يمكن أن يؤدي إلى ما يظهر لنا متناقضًا في الظاهر.
الحالة الاقتصادية:
كان للعوامل الاقتصادية إسهامٌ أيضًا في تكوين الشخصية الأندلسية، فبيئة الأندلس -كما أشرتُ من قبل- كانت غنيةً بالزراعة، ولم تكن الزراعة هي مصدر الرخاء الوحيد في هذه البلاد، بل كانت الصناعة أيضًا رافدًا من روافد الاقتصاد الأندلسي؛ إذ وفد على الأندلس -بعد الفتح الإسلامي- كثيرٌ من الصناع المهرة الذين جاءوا من مختلف الأقاليم، وساعدتهم الظروفُ الاقتصادية لبلاد الأندلس على تأسيس صناعات فيها، حتى اشتهرت مُدن كثيرة بصناعات لا تزال آثارها موجودة حتى اليوم، فقالوا: إن “قرطبة” اشتهرت بالمنسوجات، و”المرية” اشتهرت بمنتجات الفخار، وبلاد أخرى اشتهرت بمصنوعات العاج، وبلاد أخرى عُرفت بصناعة الورق، وأخرى بصناعة آلات الحرب.
وفي هذه البيئة التي تكثر فيها الصناعة وتنشط الزراعة، لا بد أن تروج التجارة، وبلاد الأندلس لها موانئ ومرافئ على البحر الأبيض المتوسط وعلى المحيط الأطلسي؛ ولذلك راجت التجارة في هذه البلاد، وكانت “إشبيلية” تصدّر القطنَ والزيتَ، وتستقبل بعض البضائع المستورَدة، وقوافل التجارة كانت نشيطةً بين هذه البلاد وأوربا من جهة، وبينها وبين بلاد إفريقيا والمشرق العربي من جهة أخرى.
كلُّ هذه العوامل التي أثرت في الشخصية الأندلسية -عوامل البيئة وعوامل الدين والثقافة والاقتصاد والجنس- كلها بالتأكيد كانت لها آثار في الأدب الأندلسي.