مناهج الدراسات الأدبية وتطبيقها على الشعر الجاهلي
لقد قامت حول الشعر الجاهلي دراسات كثيرة ومتنوعة في القديم وفي الحديث، واتخذت هذه الدراسات مناهج متعددة: من هذه المناهج:
المنهج اللغوي:
وفيه يُعنى المؤلفون بالجانب اللغوي متمثلًا في شرح المفردات وبيان معانيها وبيان أوجه الإعراب، وأكثر القدماء اتخذوا هذا المنهج في شرح الشعر الجاهلي، وهذا مثالٌ من شرح أبي البقاء العكبري للامية العرب، يقول بعد أن يورد بيت الشنفرى:
أقيموا بني أمي صدور مطيكم | * | فإني إلى قوم سواكم لأميل |
يقول: الكلام في هذا البيت على ثلاثة أشياء على الفاء وعلى “سوى” وعلى “أميل”؛ فأما الفاء فإن فيها تنبيهًا على أن ما قبلها علة لما بعدها، ولذلك وقعت في جواب الشرط، وقد تدل على ربط الشيء بما قبله. والمعنى: أن غفلتكم وإهمالكم توجب مفارقتكم. وأما “سوى” فهي ها هنا صفة لـ”قوم” في موضع جرٍّ آخر، وأكثر ما تقع ظرفًا، وقد تقع فاعلًا كقول الآخر: ولم يبقَ سوى العدوان، وأما “أميل” فهو أفعل بمعنى فاعل، كما جاء “أكثر” بمعنى: كثير، و”أوحد” بمعنى: واحد. وليس المراد: أني أكثر ميلًا، وأما “إلى” فمتعلق بأميل لما فيها من معنى الفعل، ولا يمنع من ذلك لام التوكيد؛ لأنها مؤكّدة لمعنى الفعل، وقد قال تعالى: {وَإِنَّ كَثِيرًا مِّنَ النَّاسِ بِلِقَاء رَبِّهِمْ لَكَافِرُون} [الروم: 8] انتهى.
المنهج التاريخي:
ومنه كتابات الدكتور شوقي ضيف عن تاريخ الأدب العربي في العصر الجاهلي، وكتابات الدكتور محمد عبد المنعم خفاجي ككتابه (قصة الأدب في الحجاز في العصر الجاهلي).
المنهج التحليلي الوصفي:
منهج التذوق:
وقد يجتمع منهجان أو أكثر في دراسة واحدة، وذلك واضح في كثير من الدراسات الحديثة، التي تتخذ التاريخ وتتخذ الوصف والشرح اللغوي والتذوق الفني، وتجمع بينها للإبانة عن موضوع من موضوعات هذا الشعر، أو دراسة قضية من قضاياه، فأنت عندما ترجع إلى كتابٍ يتحدث عن الأدب الجاهلي وتراه يترجم لأعلامه ويبحث في تاريخ الظواهر والقضايا لهذا الأدب؛ فإن هذا من التاريخ، وعندما يحلل نصًّا لشاعر من الشعراء ويشرحه ويبين موضوعه ويقف عند صوره؛ فهذا من المنهج الفني التحليلي، وعندما يتحدث عن عاطفة الشاعر والدوافع النفسية التي تكمن وراء القول؛ فهذا من المنهج النفسي في دراسة الأدب.
وأنا الآن أدلك على فصل في كتاب الدكتور شوقي ضيف، يتحدث فيه عن الشعراء الفرسان، يقول مثلًا: رأينا القبائل في الجاهلية تعيش معيشة حربية فهي كتائب تنزل للرعي، وفي الوقت نفسه تجهز بالأسلحة كي تدفع خصومها عن مراعيها، أو تغير عليهم وتسبي نساءهم، وتنهب أموالهم من الإبل وغير الإبل، وكانوا يحاربون راجلين وركبانًا على الإبل والخيل، وكانوا يرون في الثانية مزية على الأولى لسُرعتها في الطراد والإغارة؛ فأحبوها وعُنوا بها وبتربيتها وصيانتها واستنتاج كرائمها، وترويضها للحروب والسباق.
وقد دارت أوصافهم لها في شعرهم الجاهلي، فلم يكادوا يتركون عضوًا من أعضائها إلا وصفوه ولا خصلة ولا عيبًا إلا ذكروها، وفي معلقة امرئ القيس صورة من وصفهم لخيلهم. وممن اشتهر بوصفها أبو دؤاد الإيادي، وطفيل الغنوي، وسلامة بن جندل التميمي.
واشتهر كذلك جماعة من الفرسان الذين أظهروا بطولةً نادرة في حربهم عليها لخصومهم وأقرانهم وهم كثيرون؛ فقد كان لكل قبيلة فارسها أو فرسانها الذين يتدربون على ركوب الخيل طويلًا، وكيف يقفزون عليها ويُشهرون سيوفهم ويلوحون برماحهم، وكيف يسددون ضرباتهم إلى أعدائهم، وتلقانا دائمًا أسماعهم وخاصة في حروبهم الطويلة، مثل: حرب البسوس، وفارسها المهلهل التغلبي، وهو الذي أشعل نيرانها ثأرًا لأخيه كليب. ويقال: إنه أول من هلهل الشعر وأرقّه أي: جعله رقيقًا. وشعره يدور في رثاء أخيه وتوعُّد قبيلة بكر بما سينزله بها من هزائم لا تقل شدة، ولا فتكًا عن هزائمها السابقة. وكانت الحرب كما قدمنا -يقول الدكتور شوقي ضيف في غير هذا الموضع- بين بكر وقبيلته تغلب سجالًا؛ تارة تنتصر هذه وتارة تنتصر تلك، وكان لا يني يحمِّس قومه ويدعوهم إلى مواصلة القتال مُفصِحًا في أثناء ذلك عن رغبة حارة في الانتقام، واسمعه يقول:
وَأَنّي قَد تَرَكتُ بِوارِدَاتٍ | * | بُجَيرًا في دَمٍ مِثلِ العَبيرِ |
وَهَمّامَ بنَ مُرَّةَ قَد تَرَكنا | * | عَلَيهِ القُشعُمانِ مِنَ النُسورِ |
وصبحنا الوخوم بيوم سوء | * | يدافعن الأسنة بالنحور |
فَلَولا الريحُ أُسمِعُ مِن بِحُجرٍ | * | صَليلَ البيضِ تُقرَعُ بِالذُكورِ |
وإلى ما قبل الأبيات كان كلام الدكتور شوقي ضيف كله ينحى منحى تاريخيًّا، فلما ذكر الأبيات فسَّر غريبها وشرح مفرداتها في الهامش فقال: “واردات: موضع سُميت به موقعة حدثت فيه بين بكر وتغلب في حرب البسوس. والعبير: الزعفران. والقشعم من النسور: الضخم. وهمام: أخو جساس قاتل كليب. والوخوم: عشيرة من بكر. وعنيزة: موضع سميت به إحدى وقائع حرب البسوس. وحجرٌ: قرية باليمامة. والبيض: خوذ الحرب. يقرع: يضرب. والذكور: أجود السيوف وألبسها وأشدها”.
وهذا كما ترى من المنهج اللغوي، ويعلق الدكتور شوقي ضيف على الأبيات فيقول: وواضح أنه يفخر بانتصاراته على بكر في موقعة “واردات” وموقعة “عنيزة”، وقد قتل في الأولى بجير بن الحارث بن عُباد أحد فرسان بكر كما قتل همام بن مرة أخا جساس، وكم قتلوا من عشيرة الوخوم، ولم يكن يوم عنيزة بأقل من يوم واردات فيما اصطلته بكرٌ من حرِّ اللقاء.
وهذا التعليق والتعقيب والشرح يندرج تحت المنهج التحليلي.
والمنهج المتكامل هو الذي يجمع بين المناهج جميعًا في دراسة القضية أو دراسة النص أو دراسة الموضوع، حتى يستوفيه من جميع جوانبه: اللغوية، والتاريخية، والنفسية، والاجتماعية… وهكذا يفعل كثيرٌ من الدارسين في العصر الحديث. فالدكتور يوسف خُليف -مثلًا- في كتابه (الشعراء الصعاليك في العصر الجاهلي) يجمع في هذا الكتاب بين عدة مناهج، يتضح هذا الجمع من استعراض أبواب الكتاب وفصوله؛ إذ يأتي: الباب الأول بعنوان “الصعاليك”.
وفصله الأول: التعريف بالصعلكة في اللغة وفي الاستعمال الأدبي وفي المجتمع الجاهلي.
الفصل الثاني: التفسير الجغرافي لظاهرة الصعلكة، ويتحدث فيه عن أهمية العامل الجغرافي وأثره في نشأة حركة الصعاليك.
والفصل الثالث: التفسير الاجتماعي لظاهرة الصعلكة.
ويأتي الفصل الرابع بعنوان: التفسير الاقتصادي لظاهرة الصعلكة.
ويأتي الباب الثاني بعنوان “شعر الصعاليك”.
وفصله الأول: ديوان الصعاليك.
والفصل الثاني: موضوعات شعر الصعاليك، ويتحدث فيه عن الموضوعات التي قال فيها الصعاليك الشعر.
ثم يأتي الفصل الثالث بعنوان “الظواهر الفنية في شعر الصعاليك” يتحدث فيها عن الوَحدة الموضوعية والتخلص من المقدمات الطللية وعدم الحرص على التصريع، وعن التحلل من الشخصية القبلية، وعن القصصية والواقعية والسرعة الفنية، وآثار الصنعة المتأنية، وعن الخصائص اللغوية، وعن الظواهر العروضية في ذلك الشعر.
ثم يأتي الفصل الرابع من هذا الباب بعنوان: شخصيتان متميزتان، أفرد في هذا الفصل علَمين من أعلام الصعاليك بدراسة، وهما: عروة بن الورد، والشنفرى.
وهكذا تجد في هذا الكتاب جمعًا بين مناهج متعددة في دراسة الشعر الجاهلي.