منزلة البديع بين الدراسات البلاغية، ومدى تبعيته للمعاني والبيان
أولًا: منزلة البديع بين الدراسات البلاغية:
علم البديع -كما هو معروف- واحدٌ من علوم البلاغة الثلاثة “المعاني والبيان والبديع”، وتحتل هذه العلوم مكانة سامية ومرتبة رفيعة بين العلوم الإسلامية والعربية على السواء، فموضع هذه العلوم من علوم العربية أو العلوم الإسلامية موضع الرأس من الإنسان، أو اليتيمة من قلائد العقيان فهو مستودع سرها ومظهر جمالها وجلالها، فلا فضيلة لكلام على كلام إلا بما يحويه من لطائفها ويُودع فيه من مزاياها وخصائصها، ولا تبريز لمتكلم على آخر إلا بما يحوق من وشيها، ويلفظه من دررها، وينفثه من سحرها، ويجنيه من يانع ثمرها، فعلوم البلاغة تعد وسيلة لمعرفة إعجاز القرآن الكريم، فإذا أغفل الإنسان علم البلاغة وأخل بمعرفة قواعدها، لم يستطع أن يدرك سر إعجاز القرآن الكريم، ولم يعرف من أي جهة أعجز الله العرب عن أن يأتوا بسورة واحدة من مثله، وكما أن علوم البلاغة تعد وسيلةً لمعرفة الإعجاز القرآني فإنه لا غنى عنها لمن أراد أن يفهم كتاب الله ويعرف أحكامه، ويتبين حلاله وحرامه غير ذلك من علوم القرآن ومعارف الذكر الحكيم.
يقول العلامة صفي الدين الحلي: إن أحق العلوم بالتقديم وأجدرها بالاقتباس والتعليم بعد معرفة الله العظيم معرفة حقائق كلامه الكريم، وفهم ما أنزل في الذكر الحكيم؛ لتؤمن غائلة الشك والتوهم: {أَفَمَن يَمْشِي مُكِبّاً عَلَىَ وَجْهِهِ أَهْدَىَ أَمّن يَمْشِي سَوِيّاً عَلَى صِرَاطٍ مّسْتَقِيمٍ} [الملك: 22] ولا سبيلَ إلى ذلك إلا بمعرفة علم البلاغة وتوابعها من محاسن البديع اللتين بهما يعرف وجه إعجاز القرآن كما يعرف صحة نبوة محمد صلى الله عليه وسلم بالدليل والبرهان، وقال مثل هذا كثيرون منهم أبو هلال العسكري والإمام عبد القاهر الجرجاني والعلامة جار الله الزمخشري وأبو يعقوب السكاكي وغيرهم.
وقد سبق تناول طرف من هذه الأقوال، وصاحب اللسان العربي إذا أراد أن ينشئ أدبًا -شعرًا كان أو نثرًا- لا يتسنى له ذلك إلا إذا علم بقواعد علوم البلاغة، وجعلها مِصباحًا يهدي خطاه ويسدد قلمه بما يعرفه من تركيب الأساليب الرفيعة وأسباب رفعتها وجمالها، والناقد الأدبي يتخذ من هذه العلوم أمضى أسلحته، فهي هاديه في إدراك الجمال وتذوق الحسن في ألوان الكلام، ولا يمكنه أن يفاضل بين كلام وكلام، ولا أن يبرز ما تضمنه العمل الأدبي من أسباب الجودة أو الرداء إلا بالوقوف على قواعد هذا العلوم، حتى تأتي أحكامه بعيدةً عن الفوضى والتخليط.
تلك بإيجاز منزلة علوم البلاغة وأهميتها في مجال الدراسات العربية جميعًا. وعلم البديع له هذه المكانة وتلك المنزلة بين العلوم الأخرى باعتباره واحدًا من هذه العلوم الثلاثة.
لكن إذا كانت هذه منزلة علم البديع بين سائر العلوم المختلفة، فما منزلته بين الدراسات البلاغية أو بين علوم البلاغة الثلاثة؟
جعل أبو يعقوب السكاكي منزلة هذا العلم بعد منزلة علمي المعاني والبيان، واقتدى به المتأخرون من علماء البلاغة، فعدوا ألوان البديع وفنونه ذيلًا من ذيول البلاغة وتابعًا من توابعها، فعلم البلاغة عندهم مقصورٌ على علمَي المعاني والبيان، والذي جعلهم يضعون علم البديع هذا الموضع ويُوقعون عليه هذا الظلم تعريفهم لبلاغة الكلام، فبلاغة الكلام عندهم معناها: مطابقته لمقتضى الحال مع فصاحته وفصاحة أجزائه، فمرجعها أمران:
الأول: الاحتراز عن الخطأ في تأدية المعنى المراد.
والثاني: تمييز الكلام الفصيح من غيره، والتمييز منه ما يتبين في علم متن اللغة أو التصريف أو النحو، أو يدرك بالحس، وهو ما عدا التعقيد المعنوي، وما يحترز به عن الأول وهو الخطأ هو علم المعاني وما يحترز به عن الثاني -هو والتعقيد المعنوي- هو علم البيان، فظهر أن علم البلاغة منحصر في علمي المعاني والبيان.
أصبح عندنا أمران يجب الاحتراز للحكم على فصاحة الكلام؛ أولهما الاحتراز عن الخطأ في تأدية المعنى المراد، والثاني تمييز الكلام الفصيح من غيره، فيُحترز عن الخطأ في تأدية المعنى المراد بتعلم علم المعاني، ويُعرف تمييز الكلام الفصيح من غيره بتلافي الغرابة عن طريق تعلم متن اللغة، وتلافي مخالفة القياس “تعلم الصرف” وتلافي ضعف التأليف والتعقيد اللفظي “تعلم النحو” وتلافي تنافر الحروف والكلمات “وذلك بتربية الذوق السليم” وما يزيل التعقيد المعنوي إنما هو تعلم البيان، فأصبح علم البديع بهذا لا موضعَ له في ذهن البلاغيين.
وعلى هذا جاء تعريفهم لهذا العلم مبعدًا له عن البلاغة، وجاعلًا إياه ذنبًا، وتابعًا لعلميه، فهو في نظرهم وشم وزينة، وحسن عرضي لا ذاتي، وقد عرفه الخطيب القزويني بقوله: وعلم يعرف به وجوه تحسين الكلام بعد رعاية المطابقة ووضوح الدلالة.
وعلق السعد التفتازاني على تعريف الخطيب بقوله: وقوله: “بعد رعاية المطابقة ووضوح الدلالة” تنبيه على أن هذه الوجوه إنما تُعد محسّنة للكلام بعد رعاية الأمرين، ومعنى هذا: أن الكلام الذي خلَا من هذه الألوان وروعي فيه الأمران -أعني: المطابقة ووضوحَ الدلالة- كلام لا غبار عليه، كما أن الكلام العاري عن واحد من هذين الأمرين أو عنهما معًا يعد كلامًا ساقطًا مهما اشتمل على ألوان البديع وفنونه، وهذا مبني على أن البديع لا صلةَ له ببلاغة الكلام، وأنه خارج عنها، كما صرح بذلك حسن جلبي أحد شراح المطوّل في قوله تعليقًا على قول السعد: هذا إنما يظهر عند التأمل والتذكر للأحكام المذكورة في علمي المعاني والبيان. يقول حسن جلبي: إنما لم يُتعرض للبديع لكونه خارجًا عن البلاغة.
وقد أفصح عن هذا أحد الكاتبين معلقًا على تعريف المتأخرين لعلم البديع، وتحديدهم لمنزلته بين العلمين الآخرين، وذلك قوله: منزلة هذا العلم من علمي المعاني والبيان منزلة الطلاء يأتي بعد تمام البناء؛ ذلك أن هذين العلمين يبحثان صُلب المعنى من حيث المطابقة ووضوح الدلالة، فتحسينها للكلام ذاتي؛ لأنه راجع إلى ذات المعنى، أما البديع فتحسينه عَرَضي؛ لأنه يأتي بعد تحقيق ثمرة العلمين الآخرين، ومعنى هذا: أنه إذا خلا الكلام من رعاية المطابقة لمقتضى الحال التي هي ثمرة علم المعاني، أو من رعاية وضوح الدلالة على المعنى المراد التي هي ثمرة علم البيان، كان كلامًا ساقطا لا يعتد به؛ لأنه فقد شرطي البلاغة أو أحدهما، ويكون اشتماله في هذه الحالة على البديع كتعليق الدر على أعناق الخنازير، أما إذا رُوعي في الكلام ثمرة العلمين فإن البديع يكون معهما بمثابة العقد النفيس يزين جيد الحسناء الفاتنة.
ومع تصريحهم بتبعية البديع لعلمي المعاني والبيان نجدهم يختلفون في جهة هذه التبعية، وجمهورهم يرى أن هذه التبعية معناها: أن هذا العلم لا يمتّ إلى بلاغة الكلام بأدنى صلة، وبعضهم يرى أن اتصاله بالعلمين المختصين بالبلاغة من جهة أنه مجرد حلية ونقش وزينة للكلام، أو على حد ما جاء في عبارة بعضهم: أنه لهما بمنزلة الطلاء للدار -كما سبق أن ذكرنا- وتارة يوقعون على وجوه البديع اسم الحلية والعَرَض، وتارة يطلقون عليها اسم اللاحق والذنب الذي لا يمس صميمًا ولا يمثل غرضًا، والذي حملهم على هذا أنهم رأوا نماذج للشعراء والمتأدبين طرقوا فيها بعض فنون البديع، فجنحوا به عن جادة الصواب، وأساءوا إلى البديع بقدر ما أحسن هو إليهم، كما أن الإسراف في تعدد الفنون البديعية كان له دور بعيد المدى في النظرة إلى هذا الفن، فجاء عندهم حليةً وعرضًا وذيلًا وطرفًا، وأنزلوه في غير منزلته.
هذا هو رأي المتأخرين ومذهبهم في النظر إلى البديع وفنونه.
ونحن لا نسلم لهم هذه النظرة وذلك الرأي؛ لأن كلامهم هذا قائم على أساس نظري لا دليل عليه ولا برهان، اللهم إلا تحديدهم للحدود وتقعيدهم للقواعد، فهم بتعريفهم لبلاغة الكلام، ثم تحديدهم لعلمي المعاني والبيان تحديدًا قائمًا على تفسيرهم لمعنى بلاغة الكلام، بهذا الصنيع أخرجوا علم البديع عن بلاغة الكلام، وجعلوا له هذه المنزلة الوَضيعة.
ومنزلة علم البديع ينبغي أن تتحدد بأمرين:
أولهما: أثر ألوانه وفنونه في قوة الكلام وبلاغته.
وثانيهما: مدخله في الإعجاز القرآني.
فإذا رأينا لهذه الألوان أثرًا في بلاغة الكلام، بحيث إذا فقد الكلام ما حواه من هذه الألوان فقد بلاغته، كان هذا حكمًا على ما ذهب إليه المتأخرون بالبطلان، وثبت لألوان البديع منزلة ومكانة لا تقل منزلة علمي المعاني والبيان ومكانتهما، وبخاصة وقد ثبت أن لهذه الألوان مدخلها في إعجاز القرآن الكريم.
وإذا أردنا أن نبحث عن الأمر الأول فلنأخذ بعض الأمثلة البديعية؛ لنتبين هل لهذه الألوان أثر في بلاغة الأسلوب وقوته، أم ليس له مدخل فيهما؟
مثال المبالغة التي سموها “التبليغ” في قول ابن الرومي:
لو أن بيتك يا بن يوسف ممتلٍ | * | إبَرًا يضيق بها فناء المنزل |
وأتاك يوسف يستعيرك إبرة | * | ليخيط قَد قميصه لن تفعل |
وانظر إلى غرض الشاعر من وصف مهجوه بصفة البخل، ترى أن الشاعر لم يقصد وصف هذا البخيل بمجرد صفة؛ لأنها فيه مشهورة معروفة، ولكنه قصد إلى وصفه بمنتهى البخل والبلوغ في هذا الوصف أحط درجاته، فاختار من المعاني ما يؤدي هذا الغرض ويطابقه، فليس أهون من الإبر في البذل والعطاء خصوصًا إذا كانت كثيرات يضيق بها فناء المنزل، وليس أمعن في البخل والشح وأبلغ في الخِسة واللؤم من الضن بإبرة واحدة من هذا الكم الهائل من الإبر على من يستوجب حاله الإيثار والبذل لرفق الخرق وضم الممزق، ولا سيما إذا كان الطالب لهذا الشيء الحقير هو أباه يوسف، ولئن كان الشاعر مبالغًا لهذا الوصف فإن المقام -أعني: مقام الهجاء اللاذع- مما يستدعي توجيه أشنع صفات الذم للمذموم والمبالغة فيها، ولو نقص الشاعر عن هذه الدرجة التي وَصم بها مهجوه من البخل لما وصل إلى غرضه، فالمبالغة فيها داخلة في غرض الشاعر مرتبطة بالحال الذي أراد لكلامه أن يجيء مطابقًا لها، حتى يوصف بصفة البلاغة، وقس على هذا المثال جميع أمثلة المبالغة، وستجدها مرتبطة بالحال والمقام والأغراض التي قيلت فيه.
وخذ أسلوب الاستخدام في قول الشاعر:
إذا نزل السماء بأرض قوم | * | رعيناه وإن كانوا غضابا |
وقد قالوا: أراد بالسماء هنا الغيث، وبضميره في رعيناه النبت.
وواضح أن إطلاق السماء وإرادة الغيث مجاز مرسل علاقته المجاورة، كما أن إطلاق الغيث ؛ يعني الضمير في رعيناه؛ على النبات مجاز مرسل علاقته المسببية، وأيضًا إسناد الرعي إلى ضمير المتكلمين فيه إيجاز بالحذف، أي: رعته إبلنا ومواشينا، وأيضًا قوله: رعيناه، أخصر وأوجز من قوله: رعينا النبات الناشئ عن المطر.
أليست كل هذه الألوان في البيت والتي كان لأسلوب الاستخدام مدخلٌ فيها، مما اتفقوا على أنها من علمَي المعاني والبيان؟ ثم فوق هذا فالبيت كله كناية عن شرف هؤلاء القوم ووصفهم بالرياسة وشمول السيادة والسلطان. إذن لو افتقد البيت هذا اللون لأخل بكل هذه المعاني التي قصد إليها الشاعر قصدًا؛ تأديةً لغرضه ومطابقةً للحال التي ساق فيها هذا البيت.
وحسن التعليل في قول أبي الطيب المتنبي:
ما به قتل أعاديه ولكن يتقي | * | إخلاف ما ترجو الذئاب |
فقد قالوا: إن الباعث على سفك دماء الأعداء هو إهلاكهم والتخلص منهم، حتى يصفو الجو، وتأمن النفس غائلتهم، ولكن الشاعر يرى أن هذا ليس علة لقتل الممدوح أعداءه، وإنما باعثه على قتلهم هو تمكن الكرم من نفسه، حتى صار يتقي إخلاف ما تأمله الذئاب على يديه من اتساع رزقها من قتلاه، ولو تأملت ما قالوه لوجدت أن هذا الصنيع الذي لجأ إليه الشاعر لم يكن لكلامه أن يقوى، ولا أن يقع موقعه من البلاغة بدونه، فهذا الأسلوب -أعني: حسن التعليل- داخل في بلاغة الكلام في صميمها، ويكفي ما علق به إمام البلاغيين عبد القاهر الجرجاني على هذا البيت تدليلًا على ما نقول، فقد قال: اعلم أن هذا لا يكون حتى يكون لاستئناف هذه العلة المدعاة فائدة شريفة فيما يتصل بالممدوح، أو يكون لها تأثير في الذم، كقصد المتنبي ها هنا في أن يبالغ في وصفه بالسخاء والجود، وأن طبيعة الكرم قد غلبت عليه، ومحبته أن يصدِّق رجاء الراجينا، وأن يجنبهم الخيبة في آمالهم قد بلغت فيه هذا الحد، فلما علم أنه إذا غدا للحرب غدت الذئاب تتوقع أن يتسع عليها الرزق ويخصب لها الوقت من قتلى عِداه، كره أن يخلفها، وأن يخيب رجاءها ولا يسعفها.
وفيه نوع آخر من المدح، وهو أنه يهزم العدا ويكسرهم كسرًا لا يطمعون بعده في المعاودة، فيستغني بذلك عن قتلهم وإراقة دمائهم، وأنه ليس ممن يسرف في القتل؛ طاعةً للغيظ والحنط.
ولو تتبعنا هذا اللون من كل الأساليب لوجدنا تحته من الأسرار والنكت ما يضع يديك على أثر هذا اللون في قوة الأساليب وبلاغتها.
ولو نظرنا إلى أساليب المشاكلة نجد تحتها أغراضًا ومقاصد لا تؤدى بدونها، كالمثال المشهور في المشاكلة قول الأنطاكي:
قالوا اقترح شيئًا نجد لك طبخه | * | قلت: اطبخوا لي جبة وقميصا |
ذكر الشاعر خياطة الجبة بلفظ الطبخ؛ لوقوعه في صحبة الطبخ الحقيقي، وهذا هو معنى المشاكلة عند البلاغيين. وإذا نظرنا في ملابسات هذا القول -وهو أمر لا يصح إغفاله؛ لأنه يحدد المقام الذي قيل فيه هذا القول- نجد أن الشاعر كان له إخوان أربعة ينادمهم أيام كافور الإخشيدي، فجاءه رسولهم في يوم قارس البرد وليست له كسوة تقيه شره، فقال له: إخوانك يقرئونك السلام، ويقولون لك: قد اصطبحنا اليوم وذبحنا شاة سمينة، فاشتهى ما نطبخ لك منها! فكتب إليهم:
إخواننا قصدوا الصبوح بسُحرة | * | فأتى رسولهمُ إلي خصوصا |
قالوا اقترح شيئًا نجد لك طبخه | * | قلت: اطبخوا لي جبة وقميصا |
فقد عبر الشاعر عن الخياطة بالطبخ؛ تشبيهًا لها به في كونها مما ينبغي أن تكون موضع رغبتهم، ومحل عنايتهم، فإذا كانت رغبتهم متجهةً إلى الطبخ ليأكل ما طبخوه، فينبغي أن تكون منهم تلك الرغبة في خياطة جُبة وقميص يقيانه شر البرد، ويعتصم بهما من أذاه، فقد وصل الشاعر إلى غرضه بتنبيههم إلى ما يريد بهذا الأسلوب، مع ما اشتمل عليه من الاستعارة الرائعة.
أليس هذا كافيًا في أن تكون المشاكلة لها قوة وأثر في بلاغة الأسلوب وسموه ورفعته؟
وأبعد من هذا فإن أساليب المشاكلة معدودة في المجاز المرسل، وإذا رجعتَ إلى الأمثلة التي ذكرها البلاغيون في هذا النوع من المجاز لعلاقة السببية، لوجدتها جميعًا أمثلةً للمشاكلة، وما قيل فيما عرضنا له من الألوان يقال في كل ألوان البديع وأساليبه؛ ولذا فإنا نكتفي بهذا القدر من الأمثلة دليلًا على أن البديع لا يكون في الكلام إلا ووراءه حال تقتضيه، وتحته ملحظ يدعو إليه، وإذا اقتضته الحال ودعا إليه غرض أو مقصد صار حسنه ذاتيًّا يهبط الكلام إذا فقده، ومن ثم فإن لهذه الألوان أثرًا في قوة الكلام، ومدخلًا في بلاغته.
وقد أكمل الفخر الرازي في (نهاية الإيجاز) نظرة الشيخ عبد القاهر في باب النظم الذي يتحد في الوضع ويدِق فيه الصنع، فأدرج الطباق والمقابلة ومراعاة النظير وبعض الألوان البديعية الأخرى من مقتضيات الأحوال وموجبات الأغراض، ولذا فليس بغريب أن نجد واحدًا من البلاغيين -وهو صاحب (الطراز)- يربط بين البديع والمجاز، فيشترط في البديع أن يكون الكلام في مرتبة المجاز؛ لأن المجاز يقوم على الاتساع في الكلام والافتنان فيه، فيقول: من شروط البديع أن يكون واردًا في المجاز، فلا يعقل البديع إلا إذا كان الكلام واقعًا في رتبة المجاز، فإذا ما كان من الكلام موضوعًا على أصل حقيقته فلا مدخلَ له فيه.
ويؤيد ما ذكرناه ويوضحه أن السعة في الكلام والافتتان فيه، إنما يكون حاصلًا بالدخول في الأنواع المجازية، فأما الحقائق فهي قليلة بالإضافة إلى المضطربات المجازية، وهو الذي أوجب انشعاب البديع إلى تلك الأصناف التي أسلفناها، فإنه لم يقع اختلافها إلا لما تعلق به من التصرف في المجاز والدخول فيه كل مدخل؛ ولهذا فإن العرب يمتازون في كلامهم عن العجم بهذه الخَصلة، ولعلنا فيما ذكرناه من أبيات شعر فيما مضى خير دليل على هذا.