Top
Image Alt

منزلة السنة في التشريع

  /  منزلة السنة في التشريع

منزلة السنة في التشريع

. الحرب على السنة النبوية المطهَّرة:

الحمد لله رب العالمين، والصلاة والسلام الأتمَّان الأكملان على خاتم النبيين, وسيد المرسلين, سيدنا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين، وبعد:

فإنَّ السنة النبوية تحارَب بين الحين والحين، ويظهر في المجتمع الإسلامي أناسٌ حاقدون على ديننا، وكثير منهم -للأسف- ينتمون إلى هذا الدين، ولكنهم يجهلون حقيقته، فيعمدون إلى ترويج آرائهم الجائرة بالطعن في السنة النبوية -والحال أنها المصدر الثاني من مصادر التشريع الإسلامي- قائلين: يكفينا كتاب الله تعالى، فنعمل بما جاء فيه ولا حاجة لنا إلى السنة، وحجتهم في ذلك أن السنة دوِّنت بعد وفاة النبي صلى الله عليه  وسلم بزمن ليس بالقصير، وقد شابَها ودخل فيها الكثير من الزيف؛ مما حملهم على أن يتناولوا الكتب الصحاح كالبخاري ومسلم وغيرهما بالنقد الهدام.

لقد بلغ تطاول هؤلاء الحاقدين على السنة أن طعنوا في أصح الكتب بعد القرآن الكريم، فطعنوا في صحيح البخاري، وصحيح مسلم، ووجهوا إليهما النقد الهدام، وغالبًا ما تكون وراء هذه الآراء أيدٍ خفية من أعداء الإسلام، تحركهم وتدفعهم إلى هذا الافتراء الذي يقصدون من ورائه التشكيك والبلبلة، ثم هدم الدين لبنة بعد لبنة؛ حتى يتسنى لأولئك الأعداء أن يشبعوا غليلهم بالقضاء على هذا الدين؛ ولكنهم لن يجدوا إلى ذلك سبيلًا, وسيُرد كيدُهم إلى نحورهم.

2. منزلة السنة في التشريع:

هناك عند القانونيين ما يُعرف بـ”المذكرات التفسيرية” يعني: التي تفسِّر ما أُجمِل في بعض القوانين، والسنة النبوية الصحيحة أشبه ما تكون بالمذكرة التفسيرية؛ تفسر ما تضمنه القرآن الكريم من الآداب السامية، والنصائح الغالية، والمثل العليا، والتوجيهات الرشيدة، والمبادئ القويمة، والقوانين العادلة، والتعاليم الحكيمة، في شتى المجالات: من عقائد، وعبادات، وحدود، ومعاملات، وفضائل، وأخلاقيات…

هذا بالإضافة إلى أنَّ السنة تفصّل ما أُجمِل في القرآن الكريم، وتقيِّد ما جاء مطلقًا، وتوضِّح ما جاء مبهمًا، بل وأكثر من ذلك: تقرر أحكامًا سكت عنها القرآن الكريم، يعني: استقلت السنة بتشريع أحكام لم يتحدث عنها القرآن الكريم.

أ. تفصيل مجمل القرآن:

الصلاة:

فرض الله تعالى الصلاة على المؤمنين، ولكن القرآن لم يبين مواقيتها, ولا أركانها, ولا عدد ركعاتها، فجاءت السنة وبينت ذلك؛ حيث صلى النبي صلى الله عليه  وسلم بالصحابة خمس مرات في اليوم والليلة، وصلى كل صلاة في وقت محدد وبكيفية معينة، ثم قال صلى الله عليه  وسلم: ((صلوا كما رأيتموني أصلي)) رواه البخاري.

فلولا السنة ما عرفنا أبدًا كيف نصلي، والله تعالى يقول: {وَأَنْ أَقِيمُواْ الصّلاةَ} [الأنعام: 72] لكن كيف نصلي؟! هذا ما بينته السنة.

فهذا مثال لا يسع أي إنسان أن ينكره؛ فالسنة لا شك مبينة للقرآن الكريم.

الزكاة:

فرض الله تعالى علينا الزكاة في أموالنا، فقال: {خُذْ مِنْ أَمْوَالِهِمْ صَدَقَةً تُطَهّرُهُمْ وَتُزَكّيهِمْ بِهَا} [التوبة: 103]، ولكن القرآن لم يبين ما تجب فيه الزكاة، ومقدار الواجب منها؛ فجاءت سنة النبي صلى الله عليه  وسلم وبينت لنا المقدار الذي تجب فيه الزكاة، وما يجب أداؤه في كل نوع من أنواع الأموال المختلفة التي يجب فيها أداء الزكاة، فلولا السنة ما عرفنا كيف نزكي؟ ولا كيف نحدد قيمة الزكاة في المال؟ وهي (2.5% بالنسبة للمال) ولا كيف نعرف قيمتها بالنسبة للزروع والأنعام وعروض التجارة وغير ذلك…

الحج:

لقد جاء في القرآن الكريم حكم وجوب الحج، قال الله تعالى: {وَللّهِ عَلَى النّاسِ حِجّ الْبَيْتِ مَنِ اسْتَطَاعَ إِلَيْهِ سَبِيلاً} [آل عمران: 97] لكن القرآن لم يبين لنا مناسكه؛ فبينت سنة النبي صلى الله عليه  وسلم هذه المناسك، فحج صلى الله عليه  وسلم بالناس وعلمهم مناسكهم؛ ثم قال صلى الله عليه  وسلم: ((خذوا عني مناسككم)).

ب. تقييد مطلق القرآن:

قد يأتي في القرآن نصٌّ مطلق، فتأتي السنة النبوية وتقيد هذا الإطلاق:

السرقة:

قال تعالى: {وَالسّارِقُ وَالسّارِقَةُ فَاقْطَعُوَاْ أَيْدِيَهُمَا جَزَآءً بِمَا كَسَبَا نَكَالاً مّنَ اللّهِ وَاللّهُ عَزِيزٌ حَكِيمٌ} [المائدة: 38] جاءت هذه الآية بأمر قطع يد السارق، لكنها لم تبين مفهوم السرقة، أو شروطها، أو النصاب الذي يحدّ فيه السارق؟ أو المراد بالأيدي. كما أنَّ اليد في لغة العرب لها عدة إطلاقات، فتطلق من أطراف الأصابع إلى الكوع، ومن أطراف الأصابع إلى المرفق، ومن أطراف الأصابع إلى المنكب، فما المراد بالأيدي في الآية الكريمة؟ ومن أي موضع يكون القطع؟

هذه أسئلة تحتاج إلى بيان وتوضيح، فالآية جاءت مطلقة، لكن سنة النبي صلى الله عليه  وسلم قيدت وبيت أن:

  • مفهوم السرقة: أخذ ما للغير خفية من حرز المثل.
  • يد السارق لا تقطع إلا في ربع دينار فصاعدًا.
  • يد السارق تقطع من الرسغ، والرسغ -كما هو معروف- معصم اليد أو مفصل ما بين الكف والذراع.

ظلم النفس:

عندما نزل قوله تعالى: {الّذِينَ آمَنُواْ وَلَمْ يَلْبِسُوَاْ إِيمَانَهُمْ بِظُلْمٍ أُوْلَـَئِكَ لَهُمُ الأمْنُ وَهُمْ مّهْتَدُونَ} [الأنعام: 82]. قال بعض الصحابة: “وأينا لم يظلم؟” حيث فهموا أن أيَّ ظلم منهي عنه, وأنه يحرم الإنسان من دخول الجنة؛ وفهموا أن معنى الظلم: التقصير في أي حق من الحقوق؛ فبين لهم النبي صلى الله عليه  وسلم أن المراد بالظلم في الآية هو الشرك، واستدل صلى الله عليه  وسلم بقوله تعالى: {إِنّ الشّرْكَ لَظُلْمٌ عَظِيمٌ} [لقمان: 13]. وبهذا التفسير من النبي صلى الله عليه  وسلم والتوضيح أزال عنهم النبي صلى الله عليه  وسلم حيرتهم وردهم إلى الفهم الصحيح لكتاب الله تعالى.

ج. تخصيص عام القرآن:

قد تأتي بعض نصوص القرآن أحكامًا عامة، فتخصص السنة هذا العموم، فالعموم حينئذ ليس مرادًا، وإنما المراد بعض أفراده، ومن أمثلة ذلك:

قوله تعالى: {يُوصِيكُمُ اللّهُ فِيَ أَوْلاَدِكُمْ لِلذّكَرِ مِثْلُ حَظّ الاُنْثَيَيْنِ} [النساء: 11] فظاهر الآية يفيد: أن الإنسان لو مات وترك أولادًا ذكورًا وإناثًا فللذكر ضعف الأنثى في الميراث، وهذا الحكم عام؛ فجاءت السنة وقصَرت الأصل المورث، يعني: هل كل ميت يورث ولو كان الميت نبيًّا؟ السنة بينت أن الأنبياء لا يورثون؛ فخصصت السنة هذا العموم بغير الأنبياء؛ لأنهم لا يورثون، فقال النبي صلى الله عليه  وسلم: ((إنا معاشر الأنبياء لا نورث، ما تركناه صدقة)).

 كما خصصت السنة عموم الآية بعد توريث القاتل: ((لا يرث القاتل)) كما رواه الترمذي وابن ماجه، مع أن ظاهر عموم الآية: أن الولد يرث من أبيه, ولو كان الولد قاتلًا لأبيه يرث عموم الآية يفيد ذلك لكن السنة خصصت هذا العموم، وقال صلى الله عليه  وسلم: ((لا يرث القاتل)).

هذا، وتكون السنة مثبتة لحكم سكت القرآن عن إثباته، يعني: السنة الآن هي المستقلة بالتشريع، فالأحكام لم ترد في القرآن الكريم, وإنما استقلت السنة ببيان هذه الأحكام وأنشأتها، وإنشاء الأحكام من السنة في الواقع -ونفس الأمر- هو إنشاء من الشارع؛ لأن سنة النبي صلى الله عليه  وسلم كما ذكرنا غير مرة وحي، {وَمَا يَنطِقُ عَنِ الْهَوَىَ (3) إِنْ هُوَ إِلاّ وَحْيٌ يُوحَىَ} [النجم: 3، 4].

والأمثلة التي تبين الأحكام التي ثبتت بالسنة كثيرة، منها: تغريب الزاني البكر، وهو غير المحصن أو غير المتزوج.

د. أحكام استقلت بها السنة:

  • إرث الجدة: الجدة لها نصيب في الميراث, وهو سدس التركة.
  • جواز الرهن في الحضر، ثبت بسنة النبي صلى الله عليه  وسلم.
  • تحريم الجمع بين المرأة وعمتها أو خالتها -يعني: ليس لأحد أن يتزوج المرأة وعمتها، يعني: في عقد واحد أو المرأة وخالتها- بقول النبي صلى الله عليه  وسلم: ((لا تنكح المرأة على عمتها أو على خالتها)).
  • منع الحائض من الصوم والصلاة، المرأة إذا حاضت لا تصلي ولا تصوم.
  • تحريم أكل كل ذي ناب من السباع، كالأسد والنمر والذئب، ونحو ذلك، وكذلك تحريم أكل كل ذي مخلب من الطير، كالصقر، والشاهين، والبازي، والغراب، والحدأة، … ونحو ذلك، وتحريم أكل لحوم الحمر الأهلية.
  • تحليل ميتة البحر من السمك, استفدنا هذا الحكم من قوله صلى الله عليه  وسلم: ((أحلت لنا ميتتان ودمان… السمك والجراد… الكبد والطحال)).

إلى غير ذلك من الأحكام التي استقلت السنة بها.

وذلك يدل على أن السنة بإجماع من يعتد بإجماعهم مصدر تشريعي ثانٍٍ يأتي بعد القرآن الكريم، ولها استقلالية في إثبات الأحكام الشرعية.

فلولا السنة تستطيع أن تقول: قد يضيع التشريع بكماله وتمامه.

error: النص محمي !!