منهج الإسلام في معاملة الأسرَى والفارِّين
وتأسيسًا على هذا أيضًا، فإن للإسلام منهجًا عند معاملة الفارين من هؤلاء، ومعاملة الأسرى منهم، حيث قال العلماء في هذا الصدد: لا ينبغي اللحاق بالمدبرين من البغاة الذين يولون مدبرين حين القتال، ولا ينبغي أن يذفَّف على جريحهم -بمعنى: يجهز على جريحهم- ولا يقتل الأسير منهم، وفي هذا المعنى نجد المصطفى صلى الله عليه وسلم يقول لعبد الله بن مسعود: ((يا ابن مسعود، أتدري ما حكم الله فيمن بغى من هذه الأمة؟ قال ابن مسعود: الله ورسوله أعلم، قال: فإن حكم الله فيهم ألا يتبع مدبرهم، ولا يقتل أسيرهم، ولا يُذَفَّف على جريحهم)).
وعن علي أيضًا في هذا الصدد: أنه أمر مناديه فنادى في يوم البصرة: “لا يُتبع مدبر، ولا يذفف على جريح، ولا يُقتل أسير، ومَن أغلق بابه فهو آمن، ومن ألقى سلاحه فهو آمن”، ولم يأخذ من متاعهم شيئًا.
وليس هذا فقط؛ بل ذهب الإسلام في مجال الرحمة إلى أبعد من ذلك، حيث نرى أنه في هذا المعنى، إن قتله أحد وجب ضمانه بأداء الدية؛ لأنه بالأسر صار محقونَ الدماء، وأكثر من هذا وجدنا من الفقهاء من يقول: يجب فيه القصاص، وهو أحد القولين للحنابلة، وكذلك لا ينبغي أن يقتل مَن ألقى سلاحه منهم، أو أغلق عليه بابه، أو تَرك القتال.
هذه هي رحمة الإسلام، وهذه هي سماحة الإسلام بتلك الطائفة الباغية التي تأولت فكرًا غير صحيح، وحاولت بهذا التأويل نشر الفساد والفوضى بين المسلمين، ومع ذلك نجد التسامح الواضح من الإسلام تجاه هؤلاء.
ولا يقتصر هذا التسامح على الأشخاص؛ بل يتعدَّى أيضًا إلى أموالهم، فنجد من الفقهاء مَن يقول: لا يجوز كذلك أن تؤخذ أموالهم؛ لأن لهم عصمة المال، فضلًا عن عصمة الدم، وإنما جاز القتال في حقهم؛ لردهم إلى طاعة الإمام، ولا يجوز الاستعانة بسلاحهم وأموالهم من غير ضرورة لذلك، فإن دعت الضرورة جاز الاستعانة بها، مثلما يجوز أكل مال الغير بسبب المخمصة، وفي ذلك يقول النبي صلى الله عليه وسلم: ((لا يحل مال امرئ مسلم إلا بطيب نفس منه)).
ولو أن طائفتين من المسلمين اقتتلتَا كان على المسلمين جميعًا أن يصلحوا بينهما بقيادة إمامهم العادل، والإصلاح: هو دعاؤهم أن يتوبوا ويعودوا إلى كتاب الله؛ ليحكم بينهم، وفي ذلك من إصلاح ذات البيت، والتوفيق بين المتحاربين، ما يمحو أسباب النزاع والفساد، وما يقضي على بواعث الشر والفتنة، لكنهما إذا لم تتحاجزَا، ولم يفيئَا إلى الصلح كان على الإمام -كما ذكرنا- أن يقاتلهم؛ ليجبرهم على الفيئة إلى الصواب.
أما إذا بغت إحدى الطائفتين على الأخرى، بأن تعدت عليها في تطاول وفساد، ولم تستجب لداعي الإصلاح، وجب على الإمام العادل أن يقاتلهم؛ لأنهم بغاة، حتى يكفوا ويرشدوا، فإن فعلوا وفاءوا إلى أمر الله وجب الإصلاح بينهم وبين الطائفة المبغي عليها بالعدل.
لكن ماذا لو خرجت طائفة على الإمام، خروجًا يصمها بالكفر والارتداد، كما لو أعلنوا مذهبًا من مذاهب الكفر، أو أرادوا أن يبدِّلوا دينَ الله بشريعة من شرائع الأرض، أو عقيدة من العقائد الوضعية؟
فقد بات على المسلمين جميعًا تحت قيادة الإمام المسلم، أن يقاتلوهم بشدة وغلظة في غير ما هوادة أو لين، ولو أدى ذلك إلى إبادة المرتدين الخارجين جميعًا مهما كثروا؛ وذلك لأن التمرد على الإسلام بقصد الإساءة إليه، أو بقصد إسقاطه من الاعتبار والتطبيق، لا جرمَ أنه يصم المتمردين الجناة بالكفر والارتداد.
مع ملاحظة -كما أشرنا- إلى أنه ينبغي أن يعلم الإمام، أن قتال البغاة هنا يختلف اختلافًا أساسيًّا عن قتال المشركين والمرتدين، وذلك من حيث الطريقة والأسلوب في القتل، ومن حيث الغاية التي تكمن خلف كل من القتالين.
ولقد أورد الإمام الماوردي، ثمانية أوجه للتمييز بين هذين القتالين، نجمل تلك الفوارق فيما يأتي:
أولًا: المقصود بقتال البغاة: هو الردع وليس القتال في الحقيقة، ولم يكن الهدف في الإسلام عند الأمر بقتال هؤلاء هو القضاء عليهم، وإنما هو الردع والزجر والتخويف، أما فيما يتعلق بالمشركين والمرتدين، فإنه يمكن أن يقصد القتال لإثخانهم وإضعاف شوكتهم.
ثانيًا: البغاة: يقاتلهم الإمام وهم مقبلون فقط، أما إذا أدبروا فهنا يجب على الإمام الكف عن قتالهم، خلافًا لقتال غيرهم من المشركين والمرتدين، فهؤلاء يجوز قتال المقبلين منهم وكذلك المدبرين.
ثالثًا: أنه لا يجوز الإجهاز على جريح أهل البغي؛ لأنهم مسلمون، إلا أنهم لديهم فكر وتأويل فاسد غير صحيح، ولم يخرجوا بهذا الفكر ولا بهذا التأويل عن حظيرة الإسلام، إنما هم مسلمون يعامَلون كسائر المسلمين من تغسيل موتاهم، والصلاة عليهم أيضًا، ومن ثم نجد أنه من الفوارق في هذا المعنى، أنه لا يجوز الإجهاز على جريح أهل البغي، ولكن يجوز الإجهاز على جرحى المشركين والمرتدين.
وفي هذا المعنى ذكرنا ما أثر عن سيدنا علي رضي الله عنه أنه أمر مناديه أن ينادي في يوم معركة الجمل: “ألا لا يتبع مدبر، ولا يذفف على جريح”.
رابعًا: أنه لا يجوز أن يقتل أسرى البغاة، خلافًا لأسرى أهل الحرب والردة، فإنه يجوز قتلهم، وكذلك فإن أسرى أهل البغي يُنظَر في حال كل واحد منهم، فإن أمن عدم رجوعه إلى القتال أطلق الإمام سراحه، وإن لم تؤمن رجعته بقي حبيسًا حتى ينجلي الحرب ثم يطلق.
خامسًا: أنه ليس للإمام -كما نوهنا- أن يغنم أموال أهل البغي، بمعنى: أن يجعل أموال أهل البغي غنيمةً، كذلك لا تُسبَى ذراريهم، خلافًا لقتال الطوائف الأخرى.
سادسًا: أنه لا يُستعان لقتال أهل البغي بمشرك معاهد ولا ذمي؛ وذلك لأنهم في الأول والأخير مسلمون، وخروجهم على الإمام ليس على سبيل الجحود أو الردة، بل على سبيل التأويل لمعنى من المعاني، أو نصًّا من النصوص، ومع ذلك فإنه يستعان بهم -أي: بأهل البغي- على قتال أهل الحرب من مشركين ومرتدين.
ومن خلال هذا يتبين أنهم بخروجهم لم يخرجوا عن حظيرة الإسلام، ولم يخرجوا عن تصنيفهم بأنهم مسلمون، ومن ثم فنجد أنه لا يحق للإمام أن يستعين في قتالهم بمشرك معاهد ولا ذمي؛ لأن هذا هو الشأن في معاملة المسلم مع المسلم.
وأكثر من هذا، فإن الإمام له أن يستعين بهؤلاء -رغم خرجوهم عليه- على قتال أهل الحرب من مشركين ومرتدين.
سابعًا: ليس على الإمام أن يهادن أهل البغي إلى مدة، ولا أن يوادعهم على مال، فإنه إن ضَعُف عن مواجهتهم بالقتال، كان له أن ينتظر حتى إذا أصاب قوة قاتلهم، وإن كان قد أودعهم على مال بطلت هذه الموادعة.
لا شك أن في هذ الاتجاه، يختلف الأمر فيما يتعلق بأهل الحرب من مشركين ومرتدين، فإن على الإمام إذا رأى المصلحة في مهادنة هؤلاء فإنه يهادن، وإن رأى أن المصلحة في أن يوادع هؤلاء فلا مانعَ، أما البغاة، فليس للإمام أن يهادن أو يوادع؛ لأنهم مختلفون تمام الاختلاف عن أهل الحرب من مشركين ومرتدين.
ثامنًا: أن ينصب الإمام عليهم العرادات -أو ما يسمى: بالمنجنيق- ولا يحرق عليهم المساكن، ولا يقطع عليهم النخيل والأشجار؛ لأنهم معتبرون من دارِ الإسلام، ودارُ الإسلام تمنع ما فيها بالرغم من بغي أهلها.
أما إن أحاط أهل البغي بأهل العدل حتى خِيف منهم الاستئصال، جاز أن يدافعوا عن أنفسهم ما استطاعوا من اعتماد قتلهم، ونصب العرادات عليهم؛ لأن المسلم إذا أريدت نفسه جاز له الدفع عنها بقتل مَن أرادها، إذا كان لا يندفع بغير القتل، وليس للمسلمين كذلك أن يستمتعوا بدوابهم، ولا سلاحهم، وأن يستعينوا به في قتالهم.