Top
Image Alt

منهج الطبرسي في التفسير

  /  منهج الطبرسي في التفسير

منهج الطبرسي في التفسير

1. مقدّمة (مجمع البيان لعلوم القرآن)، للطبرسي:

لقد بيّن الطبرسي –المتوفى سنة (835) هـ- منهَجَهُ في مقدمته؛ حيث جعل الفن الأول منها: في أعداد آي القرآن، والفائدة من معرفتها.

والثاني: في ذكر أسامي القراء المشهورين في الأمصار، ورواتهم.

والثالث: في ذكر التفسير والتأويل والمعنى، والتوفيق بين ما ورد من الآيات والآثار من النهي عن التفسير بالرأي وإباحته.

والرابع: في ذكر أسامي القرآن ومعانيها.

والخامس: في أشياء من عموم القرآن، يحيل في شرحها وبسط الكلام فيها على المواضع المختصّة بها، والكتب المؤلفة فيها كإعجاز القرآن، والكلام على زيادة القرآن ونقصه.

وهنا يقول: فأما الزيادة فيه فمجمع على بطلانه، وأما النقصان منه فقد روى جماعة من أصحابنا، وقوم من حشوية العامة أن في القرآن تغييرًا ونقصانًا، والصحيح من مذهب أصحابنا خلافه، وهو الذي نصره المرتضى -قدَّسَ اللهُ روحَه- ثم ذكر من جملة العلوم التي يُحال في شرحها، وبسط الكلام فيها على الكتب المؤلفة فيها الكلام في النسخ، والناسخ والمنسوخ، وغير ذلك من العلوم المتعلقة بالقرآن، وليست داخلة في التفسير.

والسادس: في ذكر بعض ما جاء من الأخبار المشهورة في فضل القرآن وأهله.

والسابع: في ذكر ما يُستحبّ للقارئ من تحسين اللفظ، وتزيين الصوت بقراءة القرآن.

ثم شرع في التفسير، فتكلم عن الاستعاذة، فالبسملة، ففاتحة الكتاب، وهكذا إلى آخر القرآن.

2. منهج الطبرسي، في كتابه:

مال في تفسيره إلى المعاني التي تتّفق مع مذهبه، ويُحاول بكل قُواه الجدليّة العنيفة، أن يُقيم مذهبه على أُسُس من القرآن الكريم، وأن يردَّ ما يُصادمه من ظواهر النصوص، ويدفع بها في وجه خصمه.

أ. إمامة علي، في منهج الطبرسي:

لمّا كان الطبرسي يدين بإمامة عليّ رضي الله عنه، ويرى أنه خليفة للنبي صلى الله عليه وسلم بلا فصل، فإنا نراه يحاول بكلّ جهوده أن يثبت إمامته، وولايته من القرآن، فنراه عند تفسيره لقوله تعالى: {إِنّمَا وَلِيّكُمُ اللّهُ وَرَسُولُهُ وَالّذِينَ آمَنُواْ الّذِينَ يُقِيمُونَ الصّلاَةَ وَيُؤْتُونَ الزّكَاةَ وَهُمْ رَاكِعُونَ} [المائدة:55]، يبذل مجهودًا كبيرًا لاستخلاص وجوب إمامة عليّ رضي الله عنه من هذه الآية.

ب. عصمة الأئمة، في منهج الطبرسي:

ولذلك نراه عند تفسيره لقوله تعالى: {إِنّمَا يُرِيدُ اللّهُ لِيُذْهِبَ عَنكُـمُ الرّجْسَ أَهْلَ الْبَيْتِ وَيُطَهّرَكُمْ تَطْهِيــراً} [الأحزاب: 33]، يُحاول أن يقصر أهل البيت على النبي صلى الله عليه وسلم وعلي، وفاطمة، والحسن، والحسين؛ ليصل من وراء ذلك إلى أن الأئمة معصومون من جميع القبائح كالأنبياء سواءً بسواء؛ فلهذا يقول -بعدما سرد من الروايات ما يشهد له بالقصد الذي يريده-: “والروايات في هذا كثيرة من طريق العامة والخاصة، لو تصدّينا لإيرادها لطال الكلام، وفيما أوردناه كفاية”.

وبهذا نرى أن الطبرسي يحاول من وراء هذا الجدل العنيف، أن يثبت عصمة الأئمة، وهي عقيدة فاسدة يُؤمن بها هو ومن على شاكلته من الإمامية الإثنى عشرية، ولا شكّ أن هذا تحكّم في كلام الله تعالى، دفعه إليه الهوى، وحمله عليه تأثير المذهب.

جـ. تأثر الطربسي بفقه الروافض:

ظهر التأثر بالفقه الشيعي كثيرًا في كتاب الطربسي؛ حيث قال بالرجعة، كما يدين بالمهدي، ويعتقد أنه اختفى وسيرجع في آخر الزمان، كما تأثر الطبرسي بفقه الإمامية الإثنى عشرية، وآرائهم الاجتهادية؛ حيث وافقهم في القول بجواز نكاح المتعة.

 ز. مسح الرجلين، هو فرض الوضوء:

يقول الطبرسي: إن مسح الرجلين، هو فرض الوضوء؛ فلهذا نراه يجادل بقوة، ويدافع عن مذهبه، وينصره بأدلّة إن دلّت على شيء؛ فهو قوّة عقلية هذا الرجل، وسعة ذهنه، وكثرة اطّلاعه، فعندما فسّر قوله تعالى: {يَا أَيّهَا الّذِينَ آمَنُواْ إِذَا قُمْتُمْ إِلَى الصّلاةِ فاغْسِلُواْ وُجُوهَكُمْ وَأَيْدِيَكُمْ إِلَى الْمَرَافِقِ وَامْسَحُواْ بِرُؤُوسِكُمْ وَأَرْجُلَكُمْ إِلَى الْكَعْبَينِ} [المائدة:6]، نجده يقول في: {وَأَرْجُلَكُمْ إِلَى الْكَعْبَينِ} “قال جمهور الفقهاء: إن فرضهما الغسل، وقالت الإمامية: فرضهما المسح دون غيره، وبه قال عكرمة، وقد رُوي القول بالمسح عن جماعة من الصحابة والتابعين، كابن عباس وأنس، وأبي العالية، والشعبي، وقال الحسن البصري بالتخيير بين المسح والغسل، وإليه ذهب الطبري، والجبائي”، ثم يقول: “رُوي عن ابن عباس أنه وصف وضوء رسول اللهصلى الله عليه وسلم فمسح على رجليه، ورُوي عنه أنه قال: إن في كتاب الله المسح، ويأبى الناس إلا الغسل، وقال: الوضوء غسلتان، ومسحتان، وقال قتادة: فرض الله غسلتين، ومسحتين، وقال الشعبي: نزل جبريل عليه السلام بالمسح، وقال: إن في التيمم يمسح ما كان غسلًا، ويلغِي ما كان مسحًا”.

ح. من منهج الطبرسي في ميراث الأنبياء:   

يقول الطبرسي: إن الأنبياء -عليهم السلام- يورّثون كما يورّث سائر الناس؛ ولهذا نراه يتأثر بمذهبه هذا، فعندما فسر قوله تعالى: {وَإِنّي خِفْتُ الْمَوَالِيَ مِن وَرَآئِي وَكَانَتِ امْرَأَتِي عَاقِراً فَهَبْ لِي مِن لّدُنْكَ وَلِيّاً}(5) {يَرِثُنِي وَيَرِثُ مِنْ آلِ يَعْقُوبَ وَاجْعَلْهُ رَبّ رَضِيّاً} [مريم: 5، 6]، يقول: اختلف في معناه، فقيل: معناه: يرثني مالي، ويرث من آل يعقوب النبوّة، عن أبي صالح، وقيل: معناه: يرث نبوّتي، ونبوة آل يعقوب، عن الحسن ومجاهد، وهكذا استدلّوا بالآية، على أن الأنبياء يورِثون المال، وأن المراد بالإرث المذكور فيها: المال دون العلم، والنبوة، بأن قالوا: إن لفظ الميراث في اللغة والشريعة، لا يُطلق إلا على ما ينقل من الموروث إلى الوارث، كالأموال، ولا يستعمل في غير المال إلا مجازًا، ولا يعدل عن الحقيقة إلى المجاز بغير دلالة، وأيضًا، فإن زكريا، قال في دعائه: {وَاجْعَلْهُ رَبّ رَضِيّاً} أي: اجعله يا رب ذلك المولى الذي يرثني، رضيًّا عندك، ممتثلًا لأمرك، ومتى حملنا الإرث على النبوة لم يكن لذلك معنى، وكان لهوًا وعبثًا، ألا ترى أنه لا يحسن أن يقول أحد: اللهم ابعث لنا نبيًّا، واجعله عاقلًا رضيًّا في أخلاقه؛ لأنه إذا كان نبيًّا فقد دخل الرضا وما هو أعظم من الرضا في النبوّة، ويقوّي ما قلناه أن زكريا صرّح بأنه يخاف بني عمّه بعده، بقوله تعالى: {وَإِنّي خِفْتُ الْمَوَالِيَ مِن وَرَآئِي} وإنما يطلب وارثًا لأجل خوفه، ولا يليق خوفه منهم إلا بالمال، دون النبوة والعلم؛ لأنه كان أعلم بالله تعالى من أن يخاف أن يبعث نبيًّا مَن ليس بأهل النبوة، وأن يورث علمه وحكمته من ليس لهما بأهل؛ ولأنه إنما بُعث لإذاعة العلم ونشره في الناس، فكيف يخاف من الأمر الذي هو الغرض من بعثته.

فإن قيل: إن هذا يرجع عليكم في ورثة المال؛ لأن في ذلك إضافة الضنّ والبخل إليه، قلنا: معاذ الله أن يستوي الأمران، فإن المال قد يروق المؤمن والكافر، والصالح الطالح، ولا يمتنع أن يأسى على بني عمّه إذا كانوا من أهل الفساد، أن يظفروا بماله فيصرفوه فيما لا ينبغي؛ بل في ذلك غاية الحكمة؛ فإن تقوية الفساق وإعانتهم على أفعالهم المذمومة محظورة في الدين، فمن عد ذلك بخلًا وضنًّا فهو غير منصف.

وقوله: {وَإِنّي خِفْتُ الْمَوَالِيَ مِن وَرَآئِي} يُفهم منه أن خوفه، إنما كان من أخلاقهم وأفعالهم، ومعانٍ فيهم لا من أعيانهم، كما أن من خاف الله تعالى فإنما خاف عقابه، فالمراد به: خفت تضييع الموالي مالي، وإنفاقهم إيّاه في معصية الله.

ك. تأثر الطبرسي، بمذهب المعتزلة في التفسير:

لقد وافق الطبرسي في تفسيره عقيدة المعتزلة ودافع عنها، وذلك عند تفسيره للآيات التي لها تعلق بهداية العبد وضلاله، فمثلًا: عند تفسيره لقوله تعالى: {فَمَن يُرِدِ اللّهُ أَن يَهْدِيَهُ يَشْرَحْ صَدْرَهُ لِلإِسْلاَمِ وَمَن يُرِدْ أَن يُضِلّهُ يَجْعَلْ صَدْرَهُ ضَيّقاً حَرَجاً} [الأنعام:125]، يقول: قد ذُكر في تأويل الآية وجوه:

أحدها: أن معناه من يرد الله أن يهديه إلى الثواب وطريق الجنة يشرح صدره للإسلام في الدنيا، بأن يثبت عزمه عليه ويقوّي دواعيه على التمسّك به، ويُزيل عن قلبه وساوس الشيطان، وما يعرض في القلوب من الخواطر الفاسدة، وإنما يفعل ذلك لطفًا له ومنًّا عليه، وثوابًا على اهتدائه بهدي الله، وقبوله إياه، ونظيره قوله سبحانه: {وَالّذِينَ اهْتَدَوْاْ زَادَهُمْ هُدًى} [محمد: 17]، وقوله: {وَيَزِيدُ اللّهُ الّذِينَ اهْتَدَواْ هُدًى} [مريم: 76]، وقوله: ومن يرد أن يضله عن ثوابه وكرامته، يجعل صدره في كفره ضيقًا حرجًا؛ عقوبة له على ترك الإيمان، من غير أن يكون -سبحانه- مانعًا له عن الإيمان، وسالبًا إياه القدرة عليه؛ بل ربما يكون ذلك سببًا داعيًا له إلى الإيمان، فإن من ضاق صدره بالشيء كان ذلك داعيًا له إلى تركه، والدليل على ذلك، أن شرح الصدر قد يكون ثوابًا، قوله تعالى: {أَلَمْ نَشْرَحْ لَكَ صَدْرَكَ} [الشرح: 1].

ومعلوم أن وضع الوزر، ورفع الذكر يكون ثوابًا على تحمّل أعباء الرسالة، وكذلك ما قُرن به من شرح الصدر، والدليل على أن لله قد يكون إلى الثواب، قوله تعالى: {وَالّذِينَ قُتِلُواْ فِي سَبِيلِ اللّهِ فَلَن يُضِلّ أَعْمَالَهُمْ}(4) {سَيَهْدِيهِمْ وَيُصْلِحُ بَالَهُمْ} [محمد: 4، 5] ومعلوم أن الهداية بعد القتل لا تكون إلا للثواب، وليس بعد الموت تكليف، وقد وردت الرواية الصحيحة، أنه لما نزلت هذه الآية، سُئل رسول اللهصلى الله عليه وسلم عن شرح الصدر ما هو؟ فقال: ((نور يقذفه الله في قلب المؤمن، ويشرح له صدره وينفسح))، فقال: فهل لذلك من أمارة يُعرف بها؟ قال: نعم، الإنابة إلى دار الخلود، والتجافي عن دار الغرور، والاستعداد للموت قبل نزول الموت.

ثانيها: أن معناها: فمن يرد الله أن يثبته على الهدى، يشرح صدره -من الوجه الذي ذكرنا- جزاءً له على إيمانه واهتدائه، وقد يُطلق لفظ الهدى، ويراد به: الاستدامة، كما قلنا في قوله: {اهْدِنَا الصّرَاطَ الْمُسْتَقِيمَ} [الفاتحة: 6]، {وَمَن يُرِدْ أَن يُضِلّهُ} أي: يخذله ويخلي بينه وبين ما يريده؛ لاختياره الكفر وتركه الإيمان، و {يَجْعَلْ صَدْرَهُ ضَيّقاً حَرَجاً} بأن يمنعه الألطاف التي ينشرح بها صدره؛ لخروجه من قبولها لإقامته على كفره، فإن قيل: إنا نجد الكافر غير ضيق الصدر لما هو فيه، ونراه طيب القلب على كفره، فكيف يصح الخلف في خبره سبحانه؟

قلنا: إنه -سبحانه- بيّن أنه يجعل صدره ضيّقًا، ولم يقل: في كل حال، ومعلوم من حاله في أحوال كثيرة أنه يضيق صدره بما هو فيه من ورود الشبه والشكوك عليه، وعندما يجازي الله المؤمنين على استعمال الأدلّة الموصلة إلى الإيمان، وهذا القدر هو الذي يقتضيه الظاهر.

ثالثها: أن معناها: من يرد الله أن يهديه زيادة الهدى التي وعدها المؤمن يشرح صدره لتلك الزيادة؛ لأن من حقّها أن تزيد المؤمن بصيرة، ومن يُرد أن يضله عن تلك الزيادة، بمعنى: يذهبه عنها من حيث أخرج هو نفسه من أن يصح عليه، يجعل صدره ضيقًا حرجًا لمكان فقد تلك الزيادة؛ لأنها إذا اقتضت في المؤمن ما قلناه، أوجب في الكافر ما يضاده، ويكون الفائدة في ذلك الترغيب في الإيمان والزّجر عن الكفر، وهذا التأويل قريب مما تقدم.

وقد رُوي عن ابن عباس، أنه قال: “إنما سمّى الله قلب الكافر حرجًا؛ لأنه لا يصل الخير إلى قلبه”، ولا يجوز أن يكون المُراد بالإضلال في الآية، الدعاء إلى الضلال، والأمر به، ولا الإجماع عليه؛ لإجماع الأمة على أن الله تعالى لا يأمر بالضلال، ولا يدعو إليه، فكيف يُجبِر عليه؟ والدعاء إليه أهون من الإجبار عليه، وقد ذَمّ الله تعالى فرعون، والسامري على إضلالهما عن دين الهدى، في قوله: {وَأَضَلّ فِرْعَوْنُ قَوْمَهُ وَمَا هَدَىَ} [طه: 90]، وقوله: {وَأَضَلّهُمُ السّامِرِيّ} [طه: 85]، ولا خِلَاف في أن إضلالهما إضلال أمر وإجبار ودعاء، وقد ذمّهما الله تعالى عليه مطلقًا، فكيف يتمدّح بما ذَمّ عليه غيره؟.

م. قول الطبرسي بعدم جواز رؤية الله في الآخرة، كالمعتزلة:

يقول الطبرسي: عدم جواز رؤية الله ووقوعها في الآخرة، كما يقول المعتزلة؛ ولهذا يفسر قوله تعالى: {وُجُوهٌ يَوْمَئِذٍ نّاضِرَةٌ}(22) {إِلَىَ رَبّهَا نَاظِرَةٌ} [القيامة: 22،23]، يفسّر هاتين الآيتين بما يتفق ومذهبه، فيقول: {إِلَىَ رَبّهَا نَاظِرَةٌ} اختلف فيه على وجهين:

أحدهما: أن معناه نظرة العين.

الثاني: أنه الانتظار، واختلف من حمله على نظر العين، على قولين: أحدها: أن المراد إلى ثواب ربها ناظرة، أي: هي ناظرة إلى نعيم الجنة حالًا بعد حال، فيزداد بذلك سرورها، وذكر الوجوه، والمراد به: أصحاب الوجوه، رُوي ذلك عن جماعة من علماء المفسرين من الصحابة والتابعين وغيرهم، فحذف المضاف، وأقيم المضاف إليه مقامه، يعني: {إِلَىَ رَبّهَا نَاظِرَةٌ} أي: ثواب ربها ناظرة، كما في قوله تعالى: {وَجَآءَ رَبّكَ} [الفجر: 22]، أي: أمر ربك.

الثاني: {إِلَىَ رَبّهَا نَاظِرَةٌ} أن النظر بمعنى: الرؤية، والمعنى: تنظر إلى الله معاينة، رُوي ذلك عن الكلبي، ومقاتل، وعطاء وغيرهم، يقول الطبرسي: وهذا لا يجوز؛ لأن كل منظور إليه بالعين مشار إليه بالحدقة واللحاظ، والله يتعالى عن أن يشار إليه بالعين، كما يعظم -سبحانه- عن أن يشار إليه بالأصابع، وأيضًا فإن الرؤية بالحاسة لا تتم إلا بالمقابلة والتوجه، والله يتعالى عن ذلك بالاتفاق، وأيضًا فإن رؤية الحاسة لا تتم إلا باتصال الشعاع بالمرئي، والله منزّه عن اتصال الشعاع به، على أن النظر لا يفيد الرؤية في اللغة، فإنه إذا عُلق بالعين أفاد طلب الرؤية، كما أنه إذا عُلق بالقلب أفاد طلب المعرفة، بدلالة قولهم: “نظرت إلى الهلال فلم أره”، فلو أفاد النظر الرؤية، لكان هذا القول ساقطًا متناقضًا، وقولهم: ما زلت أنظر إليه حتى رأيته، والشيء لا يجعل غاية بنفسه، فلا يقال: ما زلت أراه حتى رأيته، ولأنا نعلم الناظر ناظرًا بالضرورة، ولا نعلمه رائيًا بالضرورة، بدلالة أنا نسأله، هل رأيت أو لا؟.

وأما من حمل النظر في الآية على الانتظار، فإنهم اختلفوا في معناه على أقوال:

أحدهما: أن المعنى: منتظرة لثواب ربها، رُوي ذلك عن مجاهد، والحسن، وسعيد بن جبير، وهو المروي عن عليٍّ، ومن اعترض على هذا، بأن قال: إن النظر بمعنى الانتظار لا يتعدّى بإلى، فلا يُقال: انتظرت إليه، وإنما يقال انتظرته، فالجواب عنه، على وجوه، منها:

أنه قد جاء الشعر بمعنى الانتظار، ومعدى بإلى، كما في قول جميل بن معمر:

وَإِذَا نَظَرْتُ إِلَيْكَ مِن مُّلْكٍ

*وَالْبَحْرُ دُونَكَ زِدْتَنِي نِعَما

وهناك نظائر كثيرة من ذلك الشكل.

ومنها: أن تحمل {إِلَىَ} في قوله تعالى: {إِلَىَ رَبّهَا نَاظِرَةٌ}على أنها اسم، فهو واحد “الآلاء”، التي هي النعم، فإن في واحدها أربع لغات: نقول: إلا، وألا، وألي… وهكذا.

ومنها: أن لفظ النظر يجوز أن يعدى بإلى في الانتظار على المعنى، كما أن الرؤية عُدّيت بإلى، في قوله تعالى: {أَلَمْ تَرَ إِلَىَ رَبّكَ كَيْفَ مَدّ الظّلّ} [الفرقان: 45]، فأجرى الكلام على المعنى، ولا يقال: رأيت إلى فلان.

ثانيها: أن معناه مؤمّلة الكرامة، كما يقال: عيني ممدودة إلى الله تعالى وإلى فلان، وأنا شاخص الطرف إلى فلان، ولما كانت العيون بعض أجزاء الوجوه، أضيف الفعل الذي يقع بالعين إليها.

ثالثها: أن المعنى أنهم قطعوا آمالهم وأطماعهم عن كل شيء سوى الله، ورجوه دون غيره، فعاقبهم الله سبحانه وتعالى عن أن ينظروا إلى وجهه.

ثم ينكر حقيقة السحر، ولا يقول به، ويُخالف جمهور أهل السنة في ذلك، ويردّ أدلّتهم، ويُنكر حديث البخاري في سحر رسول الله صلى الله عليه وسلم؛ ولهذا نراه في آخر تفسيره لقوله تعالى: {وَاتّبَعُواْ مَا تَتْلُواْ الشّيَاطِينُ عَلَىَ مُلْكِ سُلَيْمَانَ} [البقرة: 101]، يقول ما نصّه: “واختلف في ماهية السحر على أقوال: فقيل إنه ضرب من التخييل، وصنعة لطيفة من الصنائع، وقد أمر الله تعالى بالتعوّذ منه، وأنزل فيه “سورة الفلق”.

فأما ما رُوي من الأخبار أن النبي صلى الله عليه وسلم سُحِر فكان يرى أنه فعل ما لم يفعله، أو أنه لم يفعل ما فعله، فأخبار مفتعلة لا يلتفت إليها، وقد قال الله -حكاية عن الكفّار-: {إِن تَتّبِعُونَ إِلاّ رَجُلاً مّسْحُوراً} [الإسراء: 47]، فلو كان السحر عمل فيه؛ لصدق الكفار في مقالهم، والنبي صلى الله عليه وسلم منزّه عن كل نقص ينفّر عن قبول قوله، فإنه حجّة الله على خلقه، وصفوته على بريته.

ن. منهج الطبرسي، في الشفاعة:

نرى أن الطبرسي في تفسيره يُخالف مذهب المعتزلة؛ ولهذا نراه عند تفسيره لقوله تعالى:: {وَاتّقُواْ يَوْماً لاّ تَجْزِي نَفْسٌ عَن نّفْسٍ شَيْئاً وَلاَ يُقْبَلُ مِنْهَا شَفَاعَةٌ وَلاَ يُؤْخَذُ مِنْهَا عَدْلٌ وَلاَ هُمْ يُنْصَرُونَ} [البقرة: 48]، يقول ما نصّه: {وَلاَ يُقْبَلُ مِنْهَا شَفَاعَةٌ } قال المفسرون: حكم هذه الآية مختص باليهود؛ لأنهم قالوا: نحن أولاد الأنبياء، وآباؤنا يشفعون لنا، فأيئسهم الله عن ذلك، فخرج الكلام مخرج العموم والمراد به الخصوص، ويدل على ذلك أن الأمة اجتمعت على أن للنبي شفاعة مقبولة، وإن اختلفوا في كيفيتها، فعندنا هي مختصة بدفع المضار وإسقاط العقاب عن مستحقّيه من مذنبي المؤمنين، وقالت المعتزلة: هي في زيادة المنافع للمطيعين والتائبين دون العاصين، وهي ثابتة عندنا للنبي صلى الله عليه وسلم ولأصحابه المنتخبين وللأئمة من أهل بيته الطاهرين ولصالح المؤمنين، وينجو بشفاعتهم كثير من الخاطئين، ويؤيّده الخبر الذي تلقّته الأمّة بالقبول، وهو قولهصلى الله عليه وسلم: ((ادّخرت شفاعتي لأهل الكبائر من أمتي))، وما جاء في روايات أصحابنا } مرفوعًا إلى النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: ((إني أشفع يوم القيامة فأشفع ويشفع عليّ فيشفع، ويشفع أهل بيتي فيشفعون، وإن أدنى المؤمنين شفاعة ليشفع في أربعين من إخوانه، كلٌّ قد استوجب النار))، وقوله -مخبرًا عن الكفّار عند حسرتهم على الفائت لهم مما حصل لأهل الإيمان من الشفاعة-: {فَمَا لَنَا مِن شَافِعِينَ}(100) {وَلاَ صَدِيقٍ حَمِيمٍ} [الشعراء: 100،101].

س. منهج الطبرسي في حقيقة الإيمان:

لقد ُخالف المعتزلة في حقيقة الإيمان؛ فلذلك لمّا تعرّض لتفسير قوله تعالى: {الّذِينَ يُؤْمِنُونَ بِالْغَيْبِ وَيُقِيمُونَ الصّلاةَ وَممّا رَزَقْنَاهُمْ يُنْفِقُونَ} [البقرة: 3]، قال ما نصّه: وقالت المعتزلة بأجمعها: الإيمان هو فعل الطاعة، ثم اختلفوا: فمنهم من اعتبر الفرائض والنوافل، ومنهم من اعتبر الفرائض فحسب، واعتبروا الاجتناب من الكبائر كلّها، وقد روى العام والخاصّ عن عليّ بن موسى الراضي، أن الإيمان هو التصديق بالقلب والإقرار باللسان والعمل بالأركان، وقد رُوي ذلك على لفظ آخر منه أيضًا: الإيمان قول مقول، وعمل معمول، وعرفان بالعقول، واتّباع الرسول، وأقول أنا: أصل الإيمان هو المعرفة بالله وبرسله وبجميع ما جاءت به رسله، وكلٌّ عارف بشيء فهو مصدق به يدل عليه هذه الآية، فإنه تعالى لما ذَكر الإيمان علّقه بالغيب؛ ليعلم أنه تصديق للمخبر فيما أخبر به من الغيب على معرفة وثقة، ثم أفرده بالذّكر عن سائر الطاعات البدنية والمالية وعطفها عليه فقال تعالى: {وَيُقِيمُونَ الصّلاةَ وَممّا رَزَقْنَاهُمْ يُنْفِقُونَ} والشيء لا يعطف على نفسه وإنما يعطف على غيره، ويدلّ عليه أيضًا أنه -تعالى- حيث ذكر الإيمان أضافه إلى القلب فقال: {وَقَلْبُهُ مُطْمَئِنّ بِالإِيمَانِ} [النحل: 106]، وقال: {أُوْلَـَئِكَ كَتَبَ فِي قُلُوبِهِمُ الإِيمَانَ} وقال النبي صلى الله عليه وسلم: ((الإيمان سرّ، وأشار إلى صدره، والإسلام علانية))، وقد يُسمّى الإقرار إيمانًا كما يُسمّى تصديقًا، إلا أنه متى صدر عن شكّ أو جهل كان إيمانًا لفظيًّا لا حقيقيًّا، وقد تُسمّى أعمال الجوارح أيضًا إيمانًا، استعارةً وتلويحًا، كما يُسمّى تصديقًا كذلك، فيقال: فلان تصدق أفعاله مقاله، ولا خير في قول لا يصدقه الفعل، والفعل ليس بتصديق حقيقي باتفاق أهل اللغة، وإنما استعير هذا الاسم على الوجه الذي ذكرناه، فقد آل الأمر مع تسليم صحّة الخبر وقبوله إلى أن الإيمان هو المعرفة بالقلب، والتصديق به على نحو ما تقتضيه اللغة، ولا يُطلق لفظه إلا على ذلك، إلا أنه يستعمل في الإقرار باللسان والعمل بالأركان مجازًا واتّساعًا.

ع. منهج الطبرسي، من الأحاديث الموضوعة:

لم يكن الطبرسي صادقًا في وصفه لكتابه هذا بأنه حجّة المحدث؛ وذلك لأن فيه كثيرًا من الموضوعات، خصوصًا ما وضعه الشيعة، ونسبوه إلى النبي صلى الله عليه وسلم أو إلى أهل البيت، مما يشهد لمعتقداتهم ويدل على تشيّعهم، وإذا رأينا ما ذكره الطبرسي من الأحاديث الموضوعة في فضائل السور؛ لوجدناه اغترّ بما جاء من الأحاديث في فضائل السور، مسندًا إلى أُبيّ وغيره، ومرفوعًا إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم هذه الأحاديث موضوعة باتفاق أهل العلم، كذلك لو تتبعنا هذا التفسير لوجدنا صاحبه يروي في تفسيره من الأحاديث ما يشهد لمذهبه أو يتصل به، وهي أخبار نقرأها، ولا نكاد نرى عليها صبغة الصدق ولواء الحق.

فمثلًا عند تفسيره لقوله تعالى: {إِنّمَآ أَنتَ مُنذِرٌ وَلِكُلّ قَوْمٍ هَادٍ} [الرعد: 7]، نجد أنه يذكر من الروايات ما هو موضوع على ألسنة الشيعة، ثم يمرّ عليها دون تعقيب منه؛ مما يدل على أنه يقول بها، وبعد أن ذكر أقوالًا أربعة في معنى هذه الآية، نقل عن ابن عباس، أنه قال: لما نزلت الآية، قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: “أنا المنذر، وعليٌّ الهادي من بعدي، يا عليّ بك يهتدي المهتدون”، ونقل بسنده إلى أبي بردة الأسلمي، أنه قال: “دعا رسول الله صلى الله عليه وسلم بالطهور، أي: ما يتطهّر به، وعنده عليّ بن أبي طالب، فأخذ رسول الله صلى الله عليه وسلم بيد عليّ بعد ما تطهر فألزمها بصدره، ثم قال: إنما أنت منذر، ثم ردّها إلى صدره، ثم قال: ولكل قوم هاد، ثم قال: إنك منارة الأنام، وغاية الهدى، وأمير القرى، وأشهد على ذلك أنك كذلك”.

ويسوق من الروايات، عن أهل البيت وغيرهم، مما يصرّح بأن الذين أمر الله بمودتهم عليّ، وفاطمة، وولديهما، ويروي فيما يروي، هذا الحديث الغريب، الذي نقله من كتاب: (شواهد التنزيل لقواعد التفضيل)، مرفوعًا إلى أبي أمامة الباهلي، قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: “إن الله تعالى خلق الأنبياء من أشجار شتّى، وخُلقت أنا وعليٌّ من شجرة واحدة، فأنا أصلها، وعليٌّ فرعها، وفاطمة لقاحها، والحسن والحسين ثمارها، وأشياعنا أوراقها، فمن تعلّق بغصن من أغصانها نجا، ومن زاغ عنها هوى، ولو أن عبدًا عبد الله بين الصفا والمروة ألف عام، ثم ألف عام، ثم ألف عام حتى يصير كالشّن البالي، ثم لم يُدرك محبتنا، كبّه الله على منخريه في النار، ثم تلا: {قُل لاّ أَسْأَلُكُمْ عَلَيْهِ أَجْراً إِلاّ الْمَوَدّةَ فِي الْقُرْبَىَ}”.

ف. موقفه من الإسرائيليات:

كثيرًا ما يروي الطبرسي في تفسيره الروايات الإسرائيلية معزوّة إلى قائلها، لكن الملاحظ عليه أنه يذكرها دون أن يعقّب عليها، اللهم إلا إذا كانت مما يتنافى مع العقيدة، فإنه ينبّه على كذب الرواية، ويبيّن ما فيها من مجافاتها للحقّ وبُعدها عن الصواب.

فمثلًا عند قوله تعالى: {وَهَلْ أَتَاكَ نَبَاُ الْخَصْمِ إِذْ تَسَوّرُواْ الْمِحْرَابَ}(21) {إِذْ دَخَلُواْ عَلَىَ دَاوُودَ}[ص: 21، 22]، نجده يقول: واختلف في استغفار داود من أيّ شيء كان؟ فقيل: إنه حصل منه على سبيل الانقطاع إلى الله تعالى، والخضوع والتذلّل بالعبادة والسجود، كما أخبر -سبحانه- عن إبراهيم، بقوله: {وَالّذِيَ أَطْمَعُ أَن يَغْفِرَ لِي خَطِيئَتِي يَوْمَ الدّينِ} [الشعراء: 82]، وأما قوله: {فَغَفَرْنَا لَهُ ذَلِكَ} [ص: 25]، فالمعنى: أنا قبلناه منه وأثبتناه، فأخرجه على لفظ الجزاء، فلما كان المقصود من الاستغفار، والتوبة، القبول، قيل في جوابه: غفرنا، وهذا قول من ينزّه الأنبياء عن جميع الذنوب من الإمامية وغيرهم، ومن جوز على الأنبياء الصغائر، قال: إن استغفاره كان لذنب صغير وقع منه، ثم إنهم اختلفوا في ذلك على وجوه:

أحدها: أن أُريا بن حيّان خطب امرأة وكان أهلها أرادوا أن يزوجوها منه، فبلغ داود جمالها، فخطبها أيضًا فزوّجوها منه، فقدّموه على أُريا، فعوتب داود على الدنيا.

ثانيها: أنه أخرج إلى أُريا بعد ثغوره فقُتل فلم يجزع عليه جزعه على أمثاله من جنده؛ لأن نفسه مالت إلى نكاح امرأته، فعُوتب على ذلك بنزول الملكين.

ثالثها: أنه كان في شريعتهم أن الرجل إذا مات وخلف امرأته، فأولياؤه أحقّ بها، إلَّا أن يرغبوا عن التزوّج بها، فحينئذٍ يجوز لغيرهم أن يتزوّج، فلما قُتل أُريا خطب داود امرأته، ومنعت هيبة داود وجلالته أولياءه أن يخطبوها، فعوتب على ذلك.

رابعها: أن داود كان متشاغلًا بالعبادة، فأتاه رجل وامرأة متحاكمين فنظر إلى المرأة ليعرفها بعينها، وذلك مباح، فمالت نفسه إليها ميل الطباع ففصل بينهما، وعاد إلى عبادة ربه، فشغله الفكر في أمرها عن بعض نوافله، فعوتب.

خامسها: أنه عُوتب على عجلته في الحكم قبل التثبّت، وكان يجب عليه حين سمع الدعوى من أحد الخصمين أن يسأل الآخر عمّا عنده فيها، ويحكم عليه بعد ذلك، وإنما أنساه التثبّت في الحكم، فزعه من دخولهما عليه في غير وقت العادة.

وقد رُوي عن أمير المؤمنين، أنه قال: لا أوتَى برجل يزعم أن داود تزوّج امرأة أُريا، إلا جلدته حدّين حدًّا للنبوة، وحدًّا للإسلام.

ص. التفسير الرمزي عند الطبرسي:

من الملاحظ على الطبرسي أنه يذكر المعاني الباطنية، أو بعبارة أخرى يذكر التفسير الرمزي، الذي يقول به الشيعة، وهو وإن كان ناقلًا لهذه الأقوال، إلا أنه يرتضيها ولا يردّ عليها؛ بل كثيرًا ما يؤيّدها بأدلة من عنده.

مثال ذلك: أنه عندما فسر قوله تعالى: {اللّهُ نُورُ السّمَاوَاتِ وَالأرْضِ مَثَلُ نُورِهِ كَمِشْكَاةٍ فِيهَا مِصْبَاحٌ} [النور: 35]، نجده يقول -بعد كلام طويل: واختلف في هذا المشبه والمشبه به على أقوال، ثم ذكر هذه الأقوال، فكان من جملة ما ذكره، هذه الروايات التي لا تعدو أن تكون من وضع الشيعة، وهي ما رُوي عن الرضى أنه قال:

نحن المشكاة فيها المصباح، محمد صلى الله عليه وسلم يهدي الله لولايتنا من أحبّ، وما نقله من (كتاب التوحيد)، لأبي جعفر ابن بابويه -رحمه الله- بالإسناد عن عيسى بن راشد، عن أبي جعفر الباقر، في قوله: {كَمِشْكَاةٍ فِيهَا مِصْبَاحٌ} قال: نور العلم في صدر المصباح في زجاجة، الزجاجة صدر عليٍّ، صار علم النبي صلى الله عليه وسلم إلى صدر عليٍّ، قوله: {يُوقَدُ مِن شَجَرَةٍ مّبَارَكَةٍ} نور العلم، وقوله: {لاّ شَرْقِيّةٍ وَلاَ غَرْبِيّةٍ} لا يهودية ولا نصرانية، قوله: ي{َكَادُ زَيْتُهَا يُضِيَءُ وَلَوْ لَمْ تَمْسَسْهُ نَارٌ} قال: يكاد العالم من آل محمد يتكلم بالعلم قبل أن يُسأل، قوله: {نّورٌ عَلَىَ نُورٍ} أي: إمام مؤيّد بنور العلم والحكمة في إثر إمام من آل محمد صلى الله عليه وسلم ذلك من النبي آدم عليه السلام إلى أن تقوم الساعة، فهؤلاء الأوصياء الذين جعلهم الله خلفاء في أرضه، وحججه على خلقه، لا تخلو الأرض في كل عصر من واحد منهم.

ق. كان معتدلًا في تشيّعه:

ومن منهجه: أنه كان معتدلًا في تشيّعه، غير مغالٍ فيه كغيره من متطرفي الإمامية الإثنى عشرية؛ ولذلك نجده في تفسيره ليس متعصبًا تعصبًا كبيرًا، وأيضًا لم يكفَر أحدًا من الصحابة، أو طعن فيهم بما يذهب بعدالتهم ودينهم، كما أنه لم يغالِ في شأن عليّ، بما يجعله في مرتبة الإله، أو مصافّ الأنبياء، وإن كان يقول بالعصمة، ولقد وجدناه يروي عن رسول الله صلى الله عليه وسلم حديثًا في شأن من والى عليًّا ومن عاداه، وهو -بصرف النظر عن درجته من الصحّة- يدل على أن الرجل وقف موقفًا وسطًا، أو فوق الوسط إلى حدّ ما، من حبّه لعليٍّ رضي الله عنه هذا الحديث، هو ما رواه سادة أهل البيت -عليهم أفضل الصلوات- عن عليّ، أنه قال: “جئت إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم يومًا فوجدته في ملأ من قريش، فنظر إليّ ثم قال: “إنما مثلك في هذه الأمة كمثل عيسى ابن مريم أحبه قوم فأفرطوا في حبه فهلكوا، وأبغضه قوم وأفرطوا في بغضه فهلكوا، واقتصد فيه قوم فنجوا فعظم ذلك عليهم فضحكوا وقالوا: يشبهه بالأنبياء والرسل”، فنزل قوله تعالى: {وَلَمّا ضُرِبَ ابْنُ مَرْيَمَ مَثَلاً إِذَا قَوْمُكَ مِنْهُ يَصِدّونَ} [الزخرف: 57]، فهو في تعصبه أنه كان يدافع عن أصول مذهبه وعقائد أصحابه، كما أنه إذا روى أقوال المفسرين في آية من الآيات، ونقل أقوال المفسرين من أهل مذهبه فيها، نجده يرتضي قول علماء مذهبه، ويؤدّيه بما يظهر له من الدليل.

فمثلًا: عند تفسيره لقوله تعالى: {إِنّ اللّهَ يَأْمُرُكُمْ أَن تُؤدّواْ الأمَانَاتِ إِلَىَ أَهْلِهَا} [النساء: 58]، يقول: قيل في معنى هذه الآية أقوال، ثم يذكر من أقواله، ويذكر ما رواه أصحابه عن أبي جعفر الباقر، وأبي عبد الله الصادق، من أنهما قالا: أمر الله كل واحد من الأئمة أن يسلم الأمر إلى من بعده، ثم قال مؤيدًا لهذا القول: ويدعمه أنه أمر الرعية بعد هذا بطاعة ولاة الأمر، ورُوي عنهم أنهم قالوا: آيتان إحداهما لنا والأخرى لكم، قال الله: {إِنّ اللّهَ يَأْمُرُكُمْ أَن تُؤدّواْ الأمَانَاتِ إِلَىَ أَهْلِهَا} وقال: {يَا أَيّهَا الّذِينَ آمَنُواْ أَطِيعُواْ اللّهَ وَأَطِيعُواْ الرّسُولَ وَأُوْلِي الأمْرِ مِنْكُمْ} [النساء: 59].

وخلاصة القول في هذا التفسير: أنه يجمع بين حُسن الترتيب، وجمال التهذيب، ودقّة التعليل، وقوة الحجة، ولم يكن مغاليًا غلوّ غيره، ولم يبلغ به الأمر إلى الدرجة التي كان عليها المولى الكزراني، وأمثاله من غلاة الإمامية الإثنى عشرية.

error: النص محمي !!